نُشر في “فيسبوك” في ٧ مارس ٢٠١٥
بمناسبة حكم الإعدام الذي نُفذ اليوم، أنشر هنا ترجمة قصة قصيرة كتبها جورج أورويل عام ١٩٣١ عندما شهد عملية شنق في بورما حيثما كان يعمل.
الترجمة قامت بها منى العبدلي، وأنا أضفت عليها بعض التعديلات الطفيفة. وهذا رابط للنص الإنجليزي الأصلي .
شنق” بقلم جورج أورويل”
كان ذلك في بورما، صباح مشبع برائحة المطر، ضوء شحيح يشبه لون صفيحة المعدن الصفراء يتأرجح فوق الجدران العالية لساحة السجن. كنا ننتظر خارج زنزانات المدانينن، وهي صف من الحجرات بواجهة من القضبان الحديدية المُدبلة تشبه أقفاص الحيوانات الصغيرة، قياس كل واحدة عشرة أقدام في عشرة، فارغة تماما من الداخل إلا من سرير خال ووعاء لشرب الماء. في بعضها رجال سمر صامتون جاثمون جهة القضبان الداخلية متدثرون بأغطيتهم وهم المحكوم عليهم الذين سيشنقون خلال أسبوع أو اسبوعين.
سجين هندوسي أخرج من زنزانته، شديد الهزال حليق الشعر، بعينين دامعتين يشوبهما الغموض، له شارب كثيف نام وبشكل مضحك كان أكبر من حجم جسده، كان إلى حد ما يشبه شوارب الشخصيات الكرتونية التي تظهر في الأفلام. ستة جنود هنود طوال القامة يحرسونه ويقومون بتحضيره لحبل المشنقة، إثنان منهم وقفا مستعدين ببندقيتين بسونكي، بينما الآخرون يقيدونه ويمررون سلسلة من خلال قيده ويثبتوها في أحزمتهم ثم يشدون يديه بقوة إلى جانبيه. كانوا يحاصرونه تماما واضعين أيديهم عليه بحرص وبقبضة حانية كما لو أنهم جميعهم يتحسسونه ليتأكدوا بأنه موجود. كان الأمر اشبه برجال يمسكون بسمكة ما تزال حية وربما تقفز إلى الماء مرة أخرى. لكنه بقي هادئا لا يقاوم مستسلما بيديه للقيود كما لو أنه وبصعوبة كان يدرك ما يجري حوله.
دق جرس الساعة الثامنة موحشا رقيقا نافذا عبر الهواء الرطب قادما من جهة الثكنات البعيدة. حكمدار السجن، والذي كان يقف بعيدا عنا وبمزاجية كان يحث الحصى بعصاه رفع رأسه على إثر الصوت، كان طبيبا في الجيش بشارب كفرشاة الأسنان رمادي اللون وبصوت أجش صرخ
” بحق الله اسرع يا فرانسيس “الرجل من المفترض أن يكون قد مات الآن. ألم تفرغ من استعدادك بعد؟”
فرانسيس السجان، سمين من طاذفة الدرافيد، ببدلة قطنية بيضاء ونظارة ذهبية، لوح بيده السوداء قائلا:
“نعم سيدي، نعم سيدي، كل شئ جاهز تماما وعشماوي ينتظر، يجب أن نبدأ.”
“حسنا، أسرع إذن فالسجناء لن يتمكنوا من تناول إفطارهم حتى تنتهي هذه المهمة.”
وقفنا خارجا لنشهد عملية الإعدام، سار حارسان على جانبي السجين ببنادقهم المائلة جانبا وإثنان سارا قريبا جدا منه يشدانه من كتفه ويده كما لو أنهم يدفعونه ويسندونه في نفس الوقت. أما نحن والقضاة والمستشارون فسرنا في الخلف.
فجأة، وبعد أن قطعنا عشر خطوات توقف الحشد دون أمر أو سابق إنذار. جاء كلب ـ الله وحدة يعلم من أين أتى ـ ظهر يتنطط في الساحة بوابل من النباح الصاخب ويقفز من حولنا هازا جسمه كلة بوحشية مغتبطة لإيجاده هذا الجمع من الناس. كان كلبا ضخما كثير الصوف هجينا ما بين ( آيردلي) و ( برايا). للحظة كان يثب من حولنا ثم وقبل أن يتمكن أحد من إيقافه أندفع نحو السجين يقفز محاولا لعق وجهه. تسمرنا جميعا مشدوهين دون أن نبعد الكلب عن السجين أو حتى الإمساك به.
“من أتي بهذا الوحش اللعين هنا؟؟” صاح الحكمدار غاضبا. “ليمسكه أحدكم !”
وثب حارس منفصل عن الموكب على الكلب بشكل أخرق، لكنه قفز من بين يديه بعيدا وكأنه يلاعبه. التقط سجان آيروسي شاب قبضة من الحصى محاولا رمي الكلب بها لطرده بعيدا، لكنه تفاداها وعاد إلينا مرة أخرى وصدى نباحه يتردد بين جدران السجن. نظر السجين من بين يدي حارسيه إلى المشهد بلا مبالاة وكأن الأمر إجراء آخر من إجراءات عملية إعدامه. مرت بضع دقائق قبل أن يتمكن أحدهم من الإمساك به، ثم قمنا بلف قطعة من القماش خلال طوقه وتابعنا سيرنا مجددا، والكلب ما زال يقاوم ويئن.
أربعين خطوة تفصلنا عن المشنقة، راقبت ظهر السجين الأسمر العاري أمامي مباشرة. كان يسير بمشقة بيديه المقيدتين، لكن بثبات أكثر من مشية الهندي المضطربة الذي يسير وركبتاه غير مستقيمتان، كان السجين في كل خطوة يضع قدمه في موضعها الصحيح وخصلة شعره كانت تتراقص إلى أعلى وأسفل فيما قدماه كانتا تطبعان نفسهما على الحصى الرطب، وبسرعة ونكاية في الرجال القابضين عليه من كل جانب تنحى جانبا بخفة ليتجنب بقعة ماء في الطريق .
إنه لأمر غريب، فحتى هذه اللحظة لم أدرك ما الذي يعنية أن تدمر رجلا راشدا معافا، حين رأيت الرجل يخطو جانبا ليتفادى بقعة الماء أنجلى لي الغموض وتبين لي فداحة الخطأ في إنهاء حياة بينما هي قوية وفي أوجها. هذا الرجل لم يكن يحتضر، كان مفعما بالحياة تماما مثلما نحن أحياء. كل أعضاء جسده كانت تعمل، أحشاوه تهضم الطعام، بشرته تجدد نفسها، أظافره تنمو، أنسجته تتشكل، كل شئ ينجز بحماقة مهيبة، أظافره كانت ستستمر في النمو حين يشنق، حتى ولو لم يتبق من عمره سوى عُشر ثانية. عيناه رأتا الحصى اأاصفر والجدران الرمادية، وعقله كان يتذكر، يدرك، يعقل ـ يعقل حتى بشأن بقعة الماء . هو ونحن كنا جماعة من الرجال نسير سويا، نرى، نسمع، نشعر نفهم العالم نفسه، ثم وفي دقيقتين وفي لحظة مفاجئة واحد منا سيكون قد ذهب. عقل يغيب. عالم يتناقص.
تنتصب المشنقة في أرض صغيرة مفصولة عن ساحة السجن الرئيسية، مكسوة بأعشاب طويلة شائكة، كانت بناء من الآجر مثل سقيفة بثلاث جوانب، تعتليها ألواح خشبية. ومن الأعلى دعامتان ولوح مستعرض بحبل متدلي. كان عشماوي ينتظر بجانب آلته وهو سجين بشعر أشيب يرتدي لباس السجن الأبيض، ألقى علينا التحية ببضع أنحناءات متذللة حين دخلنا، وبكلمة من فرانسيس جذب الحارسان السجين بقوة أكثر من ذي قبل ودفعاه إلى المشنقة وساعداه ليصعد السلم. ثم صعد عشماوي وربط الحبل حول عنق السجين.
وقفنا منتظرين، نبعد خمس خطوات عنه وقد تشكل الحراس في دائرة محكمة حول المشنقة، ثم وحين أُحكمت العروة حول عنقه بدأ السجين يهتف بصلواته إلى ربه و كان دعاء عاليا مرددا : رام ! رام ! رام ! رام ! لم يكن لجوجا ولا هلعا أو طلبا للنجاة، بل ثابتا وعلى وتيرة واحدة، مثل أجراس تقرع، والكلب يتجاوب معه بنباح حزين، وعشماوي ما يزال واقفا على منصة المشنقة يجهز كيسا من القطن مثل كيس الطحين ليسربله على وجه السجين، لكن الصوت المكتوم بقطعة القماش تلك بقي مستمرا مرة بعد مرة : رام ! رام ! رام ! رام ! رام !
نزل عشماوي ووقف مستعدا ممسكا الرافعة. مرت لحظات والدعاء الثابت والمكتوم الصادر من السجين ما زال مصرا : رام ! رام ! رام ! لم يتداع للحظة. كان المراقب مطرقا رأسه يحث الأرض بعصاه، ربما كان يعد الصلوات، مانحا السجين رقما ثابتا منها، خمسين ربما أو مئة . الجميع امتقعت ألوانهم. الهنود استحالوا للون رمادي أشبه بقهوة رديئة، وواحد أو اثنين من الحراس حاملي الحراب كانو يتمايلون.
نظرنا إلى الرجل المحكوم والمكمم على المنصة مُنصتين لصلواته، كل صلاة كانت لحظة أخرى من لحظات الحياة دارت نفس الخاطرة في فكرنا جميعا. يااه، اقتلوه سريعا، فلننهى هذا الأمر، أوقفوا ذلك الصوت البغيض !!
فجأة اتخذ الحمدار قراره رافعا رأسه عاليا، ثم صنع حركة سريعة بعصاة صائحا: تشااللو !
كان هناك صوت خشخشة ثم لحظة صامتة، اختفى السجين والحبل التف على نفسه. أطلقتُ الكلب فجرى بسرعة إلى خلف المشنقة ولكن حين وصل هناك توقف لبرهه. عوى، ثم تراجع الى زاوية من الساحة، وقف بين الحشائش ناظرا إلينا بتهيب. ذهبنا حول المشنقة لنعاين جثة السجين، كان يتدلى وأصابع قدمية متصلبة إلى الاسفل، يدور ببطء، هامدا كالطوبة.
وصل الحكمدار وتفحص بعصاه الجسد العاري، الذي اهتز بخفة. “إنه بخير.” قالها ثم نهض من تحت منصة المشنقة متنفسا الصعداء وقد اختفت النظرة المزاجية من وجهه فجأة. نظر إلى ساعة معصمة :
الثامنة وعشر دقائق، حسنا، هذا كل شئ لهذا الصباح، حمدا لله.
فك الحراس الحراب وانطلقوا بعيدا , وتسلل خلفهم الكلب برزانة شاعرا بسوء تصرفه. مضينا مبتعدين عن مكان المشنقة مارين بالزنزانات ورجالها المنتظرين، إلى داخل الساحة الرئيسية الكبيرة للسجن. كان السجناء وتحت حراسة الجنود المسلحي،ن قد بدأو في الحصول على إفطارهم. تراصوا في صفوف طويلة، كل رجل كان يحمل قدرا معدنية صغيرة، فيما كان جنديان يغرفان لهم أرز. بدت لحظة حميمية أليفة بعد عملية الإعدام. إحساس بالارتياح بدا علينا بعد أن انجزت المهمة، شعور بالرغبة في الغناء، في الركض وإطلاق الضحكات المكبوتة، جميعنا دفعة واحدة أخذنا نتحدث مبتهجين.
الشاب الآيروسي سائرا بجانبي أومأ ناحية المكان الذي جئنا منه بابتسامة العارف قائلا: أتعلم ياسيدي، صديقنا ( قاصدا الرجل الميت) حين سمع بأن إستئنافه قد رفض، بال على أرضية زنزانته من الخوف. تفضل سيدي وخذ واحدة من سجائري، ألا تعجبك علبتي الفضية الجديدة سيدي؟ اشتريتها من بائع متجول بروبيتين وثمان آنات، طراز أوروبي أنيق .”
ضحك البعض. على ماذا؟ … لا أحد يبدو مهتما .
كان فرانسيس يسير جانب الحكمدار مثرثرا، حسنا سيدي مر كل شئ على نحو مرض، انتهى كل شئ بنقرة إصبع ! هكذا ( وأصدر صوتا بإصبعه )، لكن ليس في كل الأحوال، فقد رأيت حالات كان الطبيب يجبر على شد قدمي السجين ليتأكد من موت. عمل غاية في البشاعة.
التفت الحكمدار ناحيته وعلق : اوه عمل سيئ فعلا.
آخ، يا سيدي أنه أسوأ حين يعاندون ! أذكر رجلا كان يتشبث بقضبان زنزانته حين حاولنا إخراجه لتنفيذ الحكم واحتاج الأمر منا إلى ستة حراس لإزاحته، كل ثلاثة كانو يسحبون ساقا، محاولين إقناعه قائلين له : يا صديقنا العزيز، فكر في كل المشاكل التي تسببها لنا ! لكنه لم يكن يصغي، آخ كان مثيرا للمشاكل بحق !
وجدت أنني أضحك بصوت مرتفع قليلا، الجميع كانوا يضحكون، حتى الحكمدار ابتسم بطريقة متسامحة “من الأفضل أن تخرجوا جميعا لتناول بعض الشراب.” قال بلطف : “لدي قنينة ويسكي في السيارة، يمكننا أن نشربها.”
عبرنا إلى الطريق من خلال بوابات السجن الكبيرة، وفجأة صرخ قاض بورمي :” يسحبونه بساقيه” ! وأطلق ضحكة عالية، بدأنا جميعنا نضحك بصوت مرتفع مرة أخرى، في تلك اللحظة بدت حكاية فرانسيس مضحكة على غير العادة. شربنا جميعا، أوربيين أو السكان الأصليين على السواء، وبمحبة وألفة. والرجل الميت يبعد عنا مئة خطوة.