Press "Enter" to skip to content

فضائح أرشيف الأهرام

ما أن نشر موقع “إسرائيل تتكلم بالعربية” التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية يوم ٢٧ أكتوبر تدوينة تقول إن “المكتبة الوطنية الإسرائيلية تدشن أرشيفا رقميا لصحيفة الأهرام المصرية” حتى تدافع الصحفيون والقراء من مصر وسائر البلدان العربية يتساءلون عن كيفية وصول أرشيف أقدم صحيفة يومية مصرية لإسرائيل حيث يتاح مجانا لرواد المكتبة الوطنية هناك، وهو الأمر الذي وصفه محمود كامل، عضو مجلس نقابة الصحافيين، بأنه “جريمة جديدة ارتكبها الكيان الصهيوني تضاف إلى سجله الحافل بالسطو والاعتداء والقرصنة.” وطالب محمود كامل بفتح تحقيق رسمي فيما رآه واقعة فساد بعد أن اتضح له أن أرشيف الأهرام قد بيع بكامله منذ ثماني سنوات لشركة أمريكية اسمها “إيست فيو” نظير مبلغ ١٨٥ ألف جنيه، وأن هذا المبلغ لم يودع في خزينة الأهرام حتى اليوم.

وحتى قبل نشر التدوينة، كان الناس يتساءلون عن صحة ما أعلنته المكتبة الوطنية الإسرائيلية على موقعها في تويتر يوم ٢٥ أكتوبر أن “أرشيف صحيفة الأهرام المصرية متاح رقميا من اليوم. بإمكانكم/ن زيارة المكتبة الوطنية في القدس أو التواصل معنا والوصل بكل سهولة إلى الأرشيف الرقمي لصحيفة الأهرام المصرية المعروفة في كل العالم.”

ما دقة هذه المعلومات؟ هل صحيح أن إسرائيل استولت على أرشيف الأهرام ومن خلاله على جزء أساسي من الذاكرة الجمعية المصرية؟ وإذا كان ذلك صحيحا، فمن المسؤول عن هذا؟ هل قام موظف ما داخل مؤسسة الأهرام، كما يقول محمود كامل عضو مجلس نقابة الصحافيين، ببيع الأرشيف لشركة “إيست فيو” التي قامت بدورها ببيعه إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية؟ وإذا كان ذلك صحيحا فهل صحيح أيضا أن ثمن الصفقة لم يودع في خزينة الأهرام؟ ولماذا لم تبادر الهيئات الرسمية، بدءا من مجلس إدارة الأهرام، ومرورا بمجلس نقابة الصحافيين، وانتهاء بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بالتحقيق في واقعة الفساد هذه؟

وعلى أهمية هذه الأسئلة ووجاهتها فإن السؤال الأهم في هذه الواقعة هو: هل نحن إزاء واقعة فساد مالي، أم أننا أمام منظومة مهترئة للإعلام همها الأساسي “تأمين” المعلومات و”تسليعها”؟

بداية يجب توضيح البديهيات. ما نتحدث عنه هنا ليس “أرشيف” صحيفة الأهرام، بل الأعداد القديمة من هذه الصحيفة. الفرق كبير بين المصطلحين. فالأعداد القديمة من الأهرام نشرت بالفعل، وهذا أمر بديهي، فصحيفة الأهرام صحيفة يومية صدر أول عدد لها عام ١٨٧٦ وهي صحيفة منشورة، توزع وتبيع أعدادها في الأسواق، وليست منشورا سريا.

أما أرشيف الأهرام فهو أمر مختلف. أرشيف مؤسسة الأهرام، شأنه شأن أرشيف أي مؤسسة، يشمل أشياء مثل القرارات الإدارية الداخلية مثل التعيينات والترقيات والحسابات، كما يشمل مسودات المقالات التي نشرت بالفعل وغيرها من المقالات التي لم تنشر، لسبب أو لآخر.  كما يمكن أن يشمل نيجاتيف الصور الفوتوغرافية التي التقطها محمد يوسف أو أنطون ألبير وغيرهما من مصوري الأهرام. كما يمكن أن يشمل محاضر اجتماعات مجلس الإدارة، أو محاضر اجتماعات غرفة التحرير. ولنا أن نتخيل، إذا كنا نتكلم جديا عن أرشيف الأهرام بهذا المعنى، أهمية هذا الأرشيف إذا وجد بالفعل، وإذا كان محفوظا بالفعل، وإذا أتيح للجمهور بالفعل — لنا أن نتخيل أهمية ما قد يحتويه هذا الأرشيف من مراسلات حسنين هيكل أو أحمد بهاء الدين أو أسامة سرايا.  

هذا هو المعنى الدقيق للأرشيف. الأرشيف، مثله مثل كواليس المسرح، يحتوي على ما خفي عن الأنظار. هناك العرض المسرحي المتكامل الذي يشاهده الجمهور، ولكن يوجد ما هو خاف عن الجمهور، ما يحدث خلف وأسفل خشبة المسرح، وما يقوم به فنيون وعمال ومساعدون لهم دور محوري في إخراج العمل المسرحي في رونقه الذي يشاهده الجمهور.

الواقعة التي نناقشها لا تتناول أرشيف الأهرام بهذا المعنى الدقيق، بل تتناول الأعداد القديمة من الأهرام. هذه الأعداد، التي أفضل الإشارة إليها بمصطلح “سجل الأهرام”، موجودة في مؤسسة الأهرام، أو افترض أنها يجب أن تكون موجودة في المؤسسة. فلا شيء أثمن لأي جريدة من سجلاتها، إنتاجها الفعلي، النسخ الورقية من صحيفتها، أي ما كتبه صحافيوها ومما حررته ونشرته ووزعته.

هل تحتفظ مؤسسة الأهرام بسجلها؟ هل توجد داخل الصرح الضخم في شارع الجلاء الذي يشار إليه عادة بالهرم الرابع أعداد الأهرام القديمة؟ هل يوجد داخل مؤسسة الأهرام مخزن يحتوي على نسخ ورقية من أهم إصدار تصدره المؤسسة، أي الجريدة اليومية التي لم تنقطع عن الصدور منذ أول عدد سنة ١٨٧٦؟ 

إذا كانت الإجابة بالنفي، فتعد هذه هي الفضيحة الأكبر التي يجب أن نوليها اهتمامنا. نحن في هذه الحالة لا نتحدث عن نيجاتيف الصور الفريدة الذي قد يكون تلف، أو مراسلات هيكل التي قد يكون اصطحبها معه عندما ترك الأهرام، أو محاضر اجتماعات مجلس الإدارة التي يُحتمل أنها لم تُدون من الأصل. نحن نتحدث عن منتج ورقي نُشر بالفعل ويجب أن يعتبر أهم ما تقتنيه الصحيفة، ولكن لسبب ما قررت المؤسسة الاستغناء عنه. 

ولكنني أعتقد أن مؤسسة الأهرام تمتلك بالفعل سجل صحيفة الأهرام، أي أنها تحتفظ بالأعداد القديمة من تلك الصحيفة العريقة. قد لا تحتفظ المؤسسة بنسخ ورقية، ولكني على يقين بأنها تحتفظ بنسخ ميكروفيلمية أو رقمية أو كلاهما معا.

فمن ضمن المؤسسات العديدة التابعة للـ”هرم الرابع” مؤسسة اسمها “مركز الأهرام للتنظيم وتكنولوجيا المعلومات.” وتشير الصفحة الرسمية لهذا المركز على فيسبوك أنه “ متخصص فى تنظيم وتطوير الارشيف الورقى وتسجيل الوثائق والمستندات باستخدام النظم التكنولوجية. كما يمتلك مكتبة تحوى تاريخ الامه من 1876 الى الان.” (آثرت نقل الاقتباس على ما فيه من أخطاء إملائية). هذا المركز دأب لسنوات طويلة على تصوير أعداد الجريدة اليومية على ميكروفيلم (الذي أعتبره أحسن وسيلة لحفظ الجرائد). كما بدأ منذ عام ١٩٧٤ بنشر كشاف شهري لمحتويات الجريدة مبوبة حسب الموضوع والمؤلف. ولكن لسبب ما يمتنع هذا المركز عن تزويد الجمهور بما ينتجه من ميكروفيلم أو ميكروفيش. ولسبب ما أبطِل العمل برابط المركز على الإنترنت. وبالتالي فالفضيحة الثانية التي يجب أن نوليها اهتمامنا هي سبب امتناع هذا المركز عن تزويد جمهور القراء بنسخ ميكروفيلمية بسعر في متناول الجميع.

كما أعتقد أن مؤسسة الأهرام قد رقمنت بالفعل مقتنياتها من الأعداد القديمة من الصحيفة اليومية، فالكثير منا قد أسعده الحظ في الولوج لموقع الأهرام على الإنترنت أيام الثورة (ثورة يناير) وكنا نتصفح الأعداد القديمة للأهرام بجودة عالية، وإن كانت تنقصها سنوات كثيرة (إن لم تخني الذاكرة). أما صفحة الأهرام على تويتر فصفحة تعيسة عرجاء يتتبعها ٣٤٦ فلورز. فإذا كانت مؤسسة الأهرام تقتني نسخة رقمية من سجل الأهرام ولا تتيحه للجمهور، فهذه هي الفضيحة الثالثة التي يجب أن ننشغل بها.

أما شركة إيست فيو، فهي شركة قانونية هادفة للربح تقوم برقمنة الصحف، عربية وغير عربية، وتطور طرق البحث في هذه الصحف بعد رقمنتها، ثم تتيحها بأسعار عالية للمكتبات والمؤسسات التعليمية. وفي أحد المؤتمرات السنوية التي عقدتها رابطة دراسات الشرق الأوسط منذ سنوات قليلة تعرفتُ على هذه الشركة لأول مرة، وانتبهت لمشروعها الضخم لرقمنة سجل الأهرام. ونظرا لتعذر الحصول على أعداد الأهرام القديمة من مؤسسة الأهرام كما سبق وأوضحت، فقد اتصلت بمكتبة الجامعة التي أعمل بها، جامعة كامبريدج، حتى تقوم بشراء حق الاطلاع على هذا السجل الرقمي للأهرام من شركة إيست فيو. وبالفعل اشترت المكتبة حق الاطلاع، الأمر الذي مكنني وطلابي وكل أعضاء جامعة كامبريدج من الاطلاع على كل أعداد صحيفة الأهرام منذ صدورها عام ١٨٦٧ مجانا. وأعتبر تمكن طلاب جامعة كامبريدج من الاطلاع على سجل الأهرام (وغيرهم من طلاب الجامعات الأخرى التي تعاقدت مكتباتها مع شركة إيست فيو لشراء هذا السجل) في حين أن طلاب جامعة القاهرة، وطلاب كل الجامعات المصرية بل جميع المصريين والعرب، محرومين من الاطلاع على سجل الأهرام – أعتبر تلك الفضيحة الرابعة التي تعبر عنها الواقعة التي نناقشها اليوم.

وبالبحث في موقع شركة إيست فيمكن للمرء أن يقرأ أن قيام الشركة برقمنة سجل الأهرام تم بالتعاون مع مكتبة جامعة ستانفورد بكاليفورنيا بالولايات المتحدة. وبالولوج لموقع مكتبة جامعة ستانفورد يمكن للمرء أن يقف على حقيقة امتلاك المكتبة لنسخة ميكروفيلمية من الأهرام بدءا من سنة ١٨٦٧، وبالتالي فمن المرجح أن شركة إيست فيو لم تحتاج للتعاقد مع الأهرام لكي ترقمن سجل الصحيفة بل تعاونت مع مكتبة جامعة ستنافورد. أما غياب سجل الأهرام من مكتبات الجامعات المصرية (باستثناء مكتبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة) فتلك هي الفضيحة الخامسة التي يجب أن نوليها اهتمامنا.

وأنا في الحقيقة ضد قيام أي شركة هادفة للربح، أمريكية كانت أم مصرية، بالتربح من وراء رقمنة سجل الأهرام. أما وقد دخلنا في هذا المضمار، مضمار التربح، فعدم قيام أي شركة مصرية من التربح من وراء عمل كهذا يعد فضيحة أخرى، فضيحة سادسة تكمن وراء هذه الواقعة.

نحن، إذن، لا نتعامل مع جريمة فساد داخل الأهرام، بقدر ما نتعامل مع فضائح عديدة داخل المنظومة الإعلامية والأكاديمية المصرية. طبعا إسرائيل تصطاد في الماء العكر. هذا دأبها، وهذا عهدنا بها. ولكن هذا لا يمنع أن الماء عكر. منظومتنا التعليمية والإعلامية عكرة، وهناك ثلاثة أسباب تكمن وراء عكارتها. الأول هو غلبة المنطق الأمني الذي يتحكم في كل مؤسساتنا والذي يؤمّن المعلومات، أي يحبسها، ويرتاب من إتاحتها. والثاني هو تفشي منطق الربح في مؤسساتنا الإعلامية والذي يحرك العاملين فيها (هذا إن سمح لهم الأمن بالتحرك أصلا) ليسلّعوا لنا المعرفة والمعلومات. والثالث هو تقاعس مثقفينا وصحفيينا وكتابنا (سوى قلة قليلة منهم) عن الدفاع عن حرية الرأي والحق في الوصول للمعلومات. فما قرأناه في الأيام القليلة الماضية من صراخ وتنديد ينصب تحت بند التنديد بجريمة فساد، لا الدفاع عن الحق في المعرفة.

بالطبع هناك صحافيون وكتاب وأكاديميون هالهم ما تشي به هذا الواقعة من غياب قيم الحق في المعرفة وضرورة إتاحة المعلومات، وأخص بالذكر الصديق محمد شعير الذي تشغله قضية الإتاحة منذ فترة طويلة والذي كتب كثيرا عن ضياع سجلات المؤسسات الصحفية وتسليعها. ولكن يظل شعير من ضمن قلة قليلة من مثقفينا الذين يدركون أن الفضيحة الحقيقية لا تكمن في شراء إسرائيل لأرشيف الأهرام، ولا تكمن في واقعة فساد داخل مؤسسة الأهرام، بل تكمن في غياب منطق الإتاحة وسيطرة منطقيّ الأمن والتجارة على مؤسساتنا الصحفية والتعليمية.

إذا كانت الدولة جادة في التعامل مع هذه الفضيحة، أو هذه الفضائح، فلتقم بإتاحة سجل الأهرام فورا ومجانا للقراء. أما غير ذلك فسيعتبر امتدادا لسياستها الحالية المتمثلة في تأمين المعرفة وتسليعها. 

One Comment

  1. ملحوظات حول قضية الملكية الفكرية لمؤسسة الأهرام اظنها ذات صلة في هذا السياق:
    أرشيف أعداد الأهرام التي تتيحه وتتربح منه شركة إيست فيو هو – كما تفضلتم – هو نتاج لعمليات رقمنة (مدفوعة) لملفات ميكروفيلمية مملوكة لمكتبات جامعة ستافورد ومؤسسة هوفر. قد لا تشوب عملية الرقمنة تلك أي شبهة تعدي على حقوق الملكية الفكرية لمؤسسة الأهرام إذا كانت الأعداد التي تمت رقمنتها واقعة في حيزالملكية العامة وقت رقمنتها (أي أن قد مر على نشرها 50 عام أو أكثر وبالتالي قد سقطت عنها حقوق الملكية الفكرية وفقاً للقانون المصري). لكن في حالة الأرشيف المذكور، فالأعداد التي تتيحها إيست فيو تمتد من عام 1875 وحتى 2018. وهنا يتوجب السؤال: هل تنازلت مؤسسة الأهرام عن حقوقها للشركة أو لإحدى المكتبين المذكورتين؟ أم أن إحدى تلك الهيئات قد اقدم على فعل يعد خرق للقوانين الملكية الفكرية المعمول بها؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.