Press "Enter" to skip to content

من طبخ وليمة المنتصرين؟

في مقاله المنشور في جريدة الشروق بتاريخ ٢٥ أكتوبر ٢٠٢٠ بعنوان “كل رجال الباشا” يتساءل الدكتور أحمد عبد ربه، مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة، عن السردية التاريخية التي يجب أن ننتهجها لقراءة تاريخ مصر أثناء فترة حكم محمد علي باشا (١٨٠٥-١٨٤٨) والحكم عليها. 

هناك السردية الوطنية (القومية) التي يمثلها عبد الرحمن الرافعي خير تمثيل والتي تذهب إلى أن الباشا “أسس أمة مصرية متمايزة وهوية مصرية مستقلة وحدودا قومية مُعرفة! محمد علي وفقا لهذه الرواية الشمولية قائد عسكري وسياسي بارع، نهض بالصناعة والزراعة واهتم بالتعليم والعلم والعلماء، وأعاد التخطيط الإداري لمصر بعد عصور من الفوضى، وأعاد مركزية الحكم السياسي راسياً الأسس الحديثة لنظام المشورة السياسية والسلطات التنفيذية، محدثاً الجيش المصري من حيث التنظيم والتدريب والعتاد، متوسعا على حساب الأقاليم المجاورة…”

ويضيف الدكتور أحمد عبد ربه إن هناك في المقابل السردية التي انتهجتها أنا في كتابي “كل رجال الباشا” الذي يقتبس عنوانه في عنوان المقال، والذي نُشر بالإنجليزية عام ١٩٩٧ قبل أن تُنشر ترجمته العربية عام ٢٠٠١. هذه السردية، يقول أحمد عبد ربه، “تغوص في التفاصيل، وتشرح القصص الإنسانية وراء الأرقام الكلية، الروايات التي لا تكتفي بما هو مدون في الدفاتر، لكنها تبحث عما حدث على أرض الواقع، السرديات التي لا تُعنى بنتائج ممارسة السلطة، لكنها تبحث عن المعاني العميقة الرمزية والتجريدية لهذه السلطة ودلائل ممارستها على البشر! روايات لا تقف كثيراً عند بناء الحجر، لكنها شغوفة أكثر بقراءة حياة البشر الذين تراصوا لبناء هذا الحجر مضحين بحياتهم مضطرين أو مجبرين، عن علم أو عن جهل! هذا النوع الثاني من الروايات لن يكتفي بأن يقول لك بأن جيش «مصر» انتصر على الجيش العثماني في معركة قونية في قلب الأناضول نفسها وأن أقل من 800 جندي مصري وقع بين قتيل وجريح في مقابل أكثر من ثلاثة آلاف قتيل من الجيش العثماني، ولكنها ستهتم أكثر بأن تحكى لك عن قصة الفلاحين الأميين الذين تم إجبارهم على الجندية وتعذيبهم جسديا من أجل فرض الانضباط والسيطرة من قبل جيش «الباشا» لا جيش «مصر».”

نحن إذن أمام سرديتين. هناك “سردية الحجر”، أي تلك السردية التي تحكي قصة الرجال العظام، “والمشاريع القومية العملاقة والسرديات الدينية المقدسة والأساطير البشرية المؤسسة”. وفي المقابل هناك “سردية البشر” التي تركز على البعد الإنساني وتجعلك تتعاطف حتى مع “أحد جنود النازي لأنها مست مشاعرك ووجهت عنايتك للتركيز على حياته في النهاية كإنسان له طموحات وأحلام ومشاعر.”

وبالرغم من تأكيده في أكثر من مكان في مقاله على أن كلتا السرديتين حقيقية وصحيحة، وأن المفاضلة بينهما متروكة لك أيها القارئ  فلك أن تقبل “السردية الكلية الشمولية للأرقام والإنجازات المادية” كما لك أن تركن إلى “السردية الجزئية لحياة وتفاصيل البشر ومشاعرهم وأحلامهم” – بالرغم من هذا التأكيد إلا أن أحمد عبد ربه يخُلص في النهاية إلى أن “الحقيقة المؤكدة أن التاريخ قلما يقف أمام الروايات الإنسانية التفصيلية التي تحكى لنا عن النيات والمشاعر والأحلام والآلام، ولكنه يهتم أكثر بالقصة الكلية، بالنتائج المادية النهائية! حياتنا كبشر مهمة لنا ولعائلاتنا وأحبابنا وللحظة الزمنية التي نبقى فيها على قيد الحياة، ولكننا شئنا أم أبينا مجرد جمل اعتراضية في التاريخ، مجرد تروس في ماكينات الإنتاج العملاقة أو ذرات حجر في بنايات الدولة القومية الشاهقة، معرفة هذا ربما مؤلم بالفعل، لكنه الحقيقة المؤكدة والمصير الحتمي لنا كبشر، نحن شئنا أم أبينا تنسحق ذواتنا وأحلامنا لصالح المشاريع القومية العملاقة، والسرديات الدينية المقدسة، والأساطير البشرية المؤسسة، والتصورات الرمزية التخيلية المجردة! سردية خالد فهمي أعمق، ولكن سردية الرافعي أبقى وأخلد!”

***

يجب أن أعترف أنني أعتبر مقال أحمد عبد ربه من أهم ما كُتب عن كتابي “كل رجال الباشا”، وأنه اقترب كثيرا مما كنت أقصده في هذا الكتاب. فهو لم يكرر التساؤل الشائع “لماذا اخترت الجيش تحديدا للكتابة عن فترة حكم محمد علي؟” مع ما يحمله هذا التساؤل من اتهام مضمر بالرغبة في نقد المؤسسة الوطنية بألف لام التعريف. كما لم يكرر الوصف الآخر لكتابي على أنه سيرة لمحمد على قصدت منها التقليل من شأن “مؤسس مصر الحديثة” والاستهانة بإنجازاته.

مقال أحمد عبد ربه مقال جاد يدعونا للتفكر في كيفية قراءة التاريخ والحكم عليه. مقال يدعونا للتدبر في أحداث جلل ورجال عظام وإنجازات قومية وسرديات كبرى، والمفاضلة بينها وبين الاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية وتقدير الكلفة الاجتماعية والأخلاقية التي دُفعت لتحقيق هذه الإنجازات القومية والتساؤل عن السبل الأخرى التي كان من الأفضل طرقها لتحقيق نفس تلك الإنجازات. 

***

على أنني، مع اعترافي بجدية مقال أحمد عبد ربه، أجدني أختلف معه شكلا وموضوعا.

أما الاختلاف الشكلي فيرجع لاعتقادي أن المفاضلة التي عقدها بين “سردية الحجر” و”سردية البشر” هي مفاضلة زائفة وغير حقيقية. 

فالحجر لا يصبح بنيانا إلا بعمل البشر. ولا أبلغ في التعبير عن هذا المعنى من قصيدة برتولد بريخت الشهيرة “أسئلة عامل يقرأ”:

برتولد بريخت (١٨٩٨-١٩٥٦)

من بنى طيبة ذات البوابات السبع؟ 

في الكتب ستجد أسماء الملوك. 

فهل حمل الملوك كتل الأحجار؟ 

وبابل، التي دمّرت مرات عديدة. 

من شيدها كل هذه المرات؟

في أي من منازل ليما المتلألئة بالذهب كان يعيش البناؤون؟ 

أين ذهب البناة ليلة اكتمال سور الصين

روما العظيمة مليئة بأقواس النصر.

فمن أقامها؟

على من انتصر القياصرة؟ 

ألم يكن في بيزنطة، التي لهجت بثنائها الأغنيات سوى القصور لسكانها؟

حتى في أطلنطيس الأسطورية ليلة أن ابتلعها المحيط 

كان الغارقون ما زالوا ينادون عبيدهم. 

الإسكندر الشاب غزا الهند. 

هل كان وحده؟ 

وقيصر هزم الغال. 

ألم يكن بصحبته ولو طباخ

 فيليب ملك إسبانيا بكى حين غرقت الأرمادا

فهل كان الوحيد الذي بكى؟ 

فريدريك الثاني كسب حرب السنوات السبع.

فمن كسبها معه؟ 

كل صفحة انتصار.

فمن طبخ وليمة المنتصرين؟

كل عشر سنوات رجل عظيم.

من يدفع التكلفة؟ 

تقارير كثيرة

. وأسئلة كثيرة.

ويمكن أن أضيف لأسئلة عامل بريخت الأسئلة التالية: خوفو، باني الهرم. هل بناه لوحده؟ جوهر الذي شيد القاهرة. من شيدها معه؟ وباء الهيضة الذي عم البلاد عام ١٨٣١، من ضحاياه؟ محمد على فاتح السودان والشام وكريد والمورة والحجاز. ألم يكن بصحبته ولو طباخ؟

أنديل، “صخرة العامل” ديسمبر ٢٠١٦

***

وقد كتبت كتابي وأنا على دراية ووعي بزيف هذا التعارض بين سردية الحجر وسردية البشر، وعبرت عن ذلك بوضوح في المقطع التالي (ص ٤٢٥-٤٢٦):

لقد سعى هذا الكتاب … إلى تقديم رواية عن جيش محمد علي بطريقة لا تعيد ترديد النظرة العالمية للجنرالات العظام [أي سردية الحجر] التي تضفي طابعا رومانسيا على مآثرهم العسكرية؛ وإنما حاول أن يقترب بأقصى ما يمكن من إدراك الجنود لذلك الجيش وخبرتهم فيه [سردية البشر]… غير أنه لم يتمكن من تحقيق ذلك لأن هؤلاء الرجال لم يتركوا لنا روايات تخصهم يمكن إذا أعيد بناؤها أن نعيد لهم صوتهم الذي حُرموا منه… كيف يمكن إذن حل هذه المشكلة؟ كيف يستطيع مؤرخ، يصيح الباشا في وجهه باستمرار عمليا ويأمره بأن يكتب ما يمليه هو عليه، ومحروم في نفس الوقت من الصوت الواقعي للجنود، أن يكتب تاريخاً لجيش الباشا يعيد للجنود حقهم بغير أن يصورهم ويصور أفعال مقاومتهم في ذات الوقت بصورة رومانتيكية؟ كانت تلك هي المشكلة الرئيسية لهذا الكتاب الذي حاول متعمدا ألا يحل هذا التوتر، نظرا لأن الجنود… قد قاوموا الجيش فعلا، ولكنهم مع ذلك وجدوا أنفسهم يحققون للباشا انتصاراته العظيمة. إن هذا التوتر، هذا التوتر المتواصل بين الباشا ورجاله، هو التيمة الرئيسية في هذا الكتاب. وبسبب مركزيتها تم تصميم الكتاب بحيث يردد صدى هذا التوتر: فهو قصة جندي عن خدمته، من تجنيده إلى تسحبه، محاطة من جانبيها بمشهدين للباشا وهو يسلي ضيوفه.”

***

هذا بخصوص اختلافي الشكلي مع أحمد عبد ربه. أما اختلافي الموضوعي فله وجهان. الوجه الأول هو رفضي لمساواة هاتين السرديتين أخلاقيا. فسردية الحجر، أي السردية القومية، إضافة لهيمنتها وكونها هي السردية الكبرى بألا لام التعريف، هي سردية قاهرة تحتكر لنفسها الحقيقة، وتخرس أي صوت مناوئ لها. أما سردية البشر فهي بطبيعتها متعددة، غير متناسقة، متناثرة، تقبل التعدد والاختلاف. والقول بأن للقارئة أن تختار بين السرديتين لأن كلتيهما متساويتان وحقيقتان كقول بعض الليبراليين، عند التعرض للحرب الدائرة على الفلسطينيين من مائة عام ونيف، إننا إزاء سرديتين قوميتين إحداهما صهيونية والأخرى فلسطينية، كلتا السرديتين تحملان القدر نفسه من الحقيقة. وعني عن البيان خلل هذا المنطق وتهافته.

أما الوجه الثاني لاختلافي الموضوعي مع أحمد عبد ربه فنابع من اقتناعي بزيف السردية القومية وكذبها، ولو لم أكن مقتنعا بذلك ما كنت أقدمت على كتابة “كل رجال الباشا”، وقد جاهدت حتى أقنع القارئة بأن ما تعلمته في المدرسة عن محمد علي ليس صحيحا، بل هو نتاج هيمنة سردية قومية تطورت وتبلورت في القرن العشرين أي بعد ما لا يقل عن نصف قرن من وفاة محمد علي.

ومن طبيعة هيمنة السردية القومية أنها … مهيمنة، ولذا لا يجب التهاون أبدا في التأكيد على زيفها. ولذا أرى من الضروري إعادة التأكيد على المحاور الأربعة التي اعتمد عليها كتابي لدحض سردية الحجر.

أول محور يتعلق بهوية محمد علي العثمانية. يقولون إنه مؤسس مصر الحديثة، وإنه كان يمتلك مشروعا للنهضة ولتأسيس دولة قومية، وإنه بالرغم من أصوله الألبانية (لم يكن ألباني الأصل، بالمناسبة، بل كان تركيا تنحدر أسرة أبيه من الأناضول، وأسرة أمه من بلدة دراما شمالي قواله باليونان حاليا) إلا أنه أصبح مصري الهوى والنزعة. هذا الكلام ليس صحيحا. والأهم أن محمد على لم يتفوه به يوما لأحد من مستمعيه.

إن خطابات محمد على المحفوظة في دار الوثائق القومية بالآلاف توضح بجلاء أنه كان عثماني الهوى والهوية. فهو لم يتحدث إلا بالتركية، ولم يعرف العربية ولم يتكلم بها. وبلاطه وقصوره وطقوس حكمه كانت كلها عثمانية الطراز والملمح. والأهم من ذلك أن إدارته لحكمه كانت تستلهم النموذج العثماني، ومن أهمها تأسيس بيت من الأتباع والمماليك يدير به صراعه مع وزراء السلطنة، شأنه في ذلك شأن غيره من الولاة والوزراء. 

سبيل محمد علي بالعقادين. بنى محمد علي هذا السبيل عام ١٨٢٠ تخليدا لذكرى ابنه إسماعيل الذي قضى نحبه حرقا في السودان. وكان هذا أول بناء ضخم يشيده محمد على في القاهرة، ويتضح فيه طراز الروكوكو العثماني الذي كان شائعا في اسطنبول وقتها والذي لم تشهده مصر من قبل

نستطيع أن نستشف ذلك من خلال خطابات محمد على لوكيلة في إسطنبول، محمد نجيب أفندي، ومدير ديوانه في القاهرة حبيب أفندي، ومدير ديوانه في الإسكندرية زكي أفندي، ومدير أمور تجارته الخارجية بوغوص يوسفيان، وابنه إبراهيم باشا، وحفيده عباس باشا، وغيرهم الكثير والكثير من الأتباع والأولاد والأقارب والأصهار والمماليك. في كل هذه المكاتبات يظهر محمد علي كوال عثماني لولاية عثمانية غنية، وعظمته وتفرده تكمن في نجاحه في أن يحول هذه الولاية إلى موطن دائم لأسرته وحاشيته، هذا مع الاحتفاظ بسيادة السلطان العثماني. هذا الاعتراف بالسيادة العثمانية لم يكن نتاج ضغط أوروبي كما تزعم السردية القومية، بل لأنه هو نفسه لم يكن يستطيع أن يتخيل نفسه خارج هذه السيادة. لا يوجد دليل على ذلك أبلغ من خطابه لمحمد نجيب أفندي، وكيله في إسطنبول، بعد معركة قونية التي انتصر فيها انتصارا ساحقا على الجيش العثماني والذي يطالبه فيه بالتوسط له عند الباب العالي ويطلب الصفح من السلطان.

إن نزاع محمد على مع الباب العالي كان في الحقيقة نزاعا ليس مع السلطان نفسه بل مع وزراء السلطان، وأهمهم خسرو باشا، عدوه اللدود التي تعود عداوته معه لعام ١٨٠١ عندما وطأت قدما محمد علي أرض مصر لأول مرة، والتي امتدت حتى فرمان الولاية عام ١٨٤١، ومحمد رشيد باشا، مهندس التنظيمات والوحيد من رجالات اسطنبول الذي أدرك مدى دهاء محمد على وحنكته. 

هذا النزاع بين وزراء السلطان وولاته هو سمة أساسية من السياسة العثمانية، وقد حاولت في “كل رجال الباشا” أن أوضح أن عظمة محمد على الحقيقية تكمن في قدرته على اللعب في الساحة السياسية العثمانية بحنكة واقتدار. وبنجاح منقطع النظير، فلم يتمكن أي من منافسيه أن يحقق ما نجح محمد علي في تحقيقه: تأسيس حكم أسري وراثي في ولاياته.

الأسرة الحاكمة

أما ثاني المحاور فيتعلق بوجود مشروع للنهضة مختمر في ذهن محمد على منذ قدم إلى مصر وأخذ يتحين الفرص، الواحدة تلو الأخرى، حتى ينفذ بنوده. فنقرأ في السردية القومية كيف بدأ محمد علي بالتخلص من المماليك، ثم أولى القطاع الزراعي عنايته، فقضى على الالتزام وأمم أراضي الوقف، ثم أحتكر المحاصيل الزراعية، ثم استخدم الفائض في بناء المصانع حتى يكتفي ذاتيا، ثم دشن مشروعه الحربي في السودان ثم الحجاز ثم المورة ثم الشام حتى يجد سوقا لمنتجات مصانعه ويحمى امبراطوريته الوليدة.

هذا الكلام أيضا لا أساس له من الصحة وهو وليد رؤى وآمال تبلورت عند مؤرخي القصر الذين استكتبهم الملك فؤاد في الثلاثينات ثم ردده مؤرخون ناصريون رأوا في محمد علي عبد الناصر سابق لأوانه. 

وما أردت توضيحه بالمقابل في “كل رجال الباشا” أن “مشروع” محمد علي لم يكن يوما “مشروعا” متكامل الملامح، ولكن كان دائما عرضة للزيادة والنقصان ووليد التجربة والخطأ، وسر نجاحه يكمن تحديدا ليس في وضوح تفاصيل “المشروع” بل في وضوح الغاية وتبلورها، مع مرونة الأساليب وتلونها. وأبلغ مثال على ذلك هو حروب محمد علي. أما الغاية فكانت دائما وأبدا تأمين مركزه في مصر والحيلولة دون انتزاعه منها بالقوة. أما الوسيلة فمهادنة الباب العالي إن أمكن (حملتي الحجاز والمورة) أو الصدام المسلح عند الضرورة (حملة الشام بعد أن أيقن أن خسرو باشا هو المتسبب في خسائره في المورة وكارثة نفارين).

ثالث المحاور يتعلق بطبيعة عداء بريطانيا لمحمد علي. تقول السردية القومية إن بريطانيا كانت تقف لمحمد علي بالمرصاد إذ رأت في تجربته الصناعية الوليدة تهديدا لثورتها الصناعية ولذلك عملت جاهدة على تقويض دعائم استقلال محمد علي الاقتصادي والمالي، فحاربت سياسة الاحتكار وامتنعت عن مساعدته في تشييد المصانع واستجلاب مستلزمات التصنيع. والحقيقة أن عداء بريطانيا لمحمد علي كانت له علاقة بمصانعة وسياسته الاقتصادية، هذا صحيح، ولكن ليس للسبب الذي تزعمه السردية القومية. عداء بريطانيا لمحمد علي كان نابعا من قراءتها للمسألة الشرقية، وفي القلب من هذه المسألة القلق على ممتلكاتها في شبه القارة الهندية، والتوجس بل الخوف من التوسع الروسي تجاه هذه الممتلكات. من هنا رأت بريطانيا أن سياسة محمد علي الاقتصادية، التي كانت تقوم على الاحتكار، سياسة خطرة لأنها تمكنه من تحويل الفائض التجاري للقطاع العسكري الذي يمكنه بالتالي من بناء أسطول ضخم وجيش أضخم يهدد بهما الباب العالي ويقوض دعائم استقرار الدولة العثمانية التي كانت بريطانيا تراها دائما تقف حائلا أمام التوسع الروسي. بمعنى آخر، كانت بريطانيا تعادى محمد علي اقتصاديا ليس خوفا من منافسة مصانعه لمصانع مانشستر وليفربول، بل خوفا من تأثير هذه السياسة على استقرار الدولة العثمانية والسماح لروسيا بتهديد المصالح البريطانية في الهند. مصر قد تكون أم الدنيا بالنسبة للسردية القومية، ولكن بالنسبة لبريطانيا كانت الهند دائما درة التاج. 

أما رابع محاور دحضي لسردية الحجر هو التأكيد على أهمية البشر وإلقاء الضوء على مكانة المصريين في “مشروع” محمد علي. يقولون إن المصريين بالفعل قاوموا التجنيد في البداية ولكنهم أقبلوا عليه عندما تعلموا منه مبادئ حب الوطن والتضحية في سبيله. ليس صحيحا. لا دليل بالمرة على هذا الكلام. المصريون قاوموا التجنيد من أول يوم بكل الطرق الممكنة والمتخيلة: هروب جماعي، تمرد محدود، ثورة فلاحية عارمة راح ضحيتها ثلاثة ألاف فلاح وفلاحة، تواطؤ مع مشايخ القرى لإخفاء أولادهم، وضع سم الفئران في الأعين حتى تصاب بعمى مؤقت، قطع السبابة، توقيع عاهات جسدية مختلفة حتى يُصنف الشاب غير صالح للجهادية.

أما من جهته، فلم يتراجع محمد علي ولو قيد أنملة عن رغبته في التحكم في أجساد رعاياه وتسخيرهم لخدمة أهدافه. فحتى المعاقين (وكانوا يسموا “السقط”) كانوا يجندون، بل كانت هناك وحدات عسكرية مكونة بكاملها من “السقط”.

EUGÈNE LE ROUX, “Recrues arabes” (1855) يوجين لو رو “مجندون عرب” ١٨٥٥

علاقة محمد علي بأهالي مصر كانت علاقة مركبة. من جهة هو ولي نعمتهم، يتباهى أمام الأوربيين بنقل الحضارة والمدنية إليهم. ومن ناحية أخرى، كان يقول إنهم أيضا أولياء نعمته لأنه كان يدرك جيدا أنه ما كان ليستطيع أن يحقق ما حققه إلا بجهودهم وتضحياتهم. فتأكيدي على البشر في تجربة محمد علي ليس الغرض منه استدرار تعاطف القارئ بل لأن محمد علي نفسه كان يدرك أهمية هؤلاء البشر.

أما علاقة البشر بالحجر، أي علاقة المصريين بمحمد علي، فلم تكن معقدة أو مركبة. كانوا يكرهونه ويمقتونه، وتنفسوا الصعداء عندما رحل عن عالمهم. ولذلك ختمت كتابي بعبارة استخدمتُ فيها ضمير المتكلم للمرة الوحيدة في الكتاب كله عندما قلت: “فإذا كان المرء يصدق الروايات الوطنية عن الباشا وآلته العسكرية [أي سردية الحجر] بغير حس نقدي، فهنا فقط سيسلم بأن هؤلاء الجنود كانوا بالفعل رجال الباشا. أما أنا فليس عندي أدنى شك في أنه لم يكن يوما رجلهم.” 

***

إن من أفدح مصائبنا قصورنا على تخيل حالنا لو رضينا عن حكامنا وأقبلنا عليهم نبني معهم أوطاننا. مصيبتنا تكمن في أننا رضينا بأن نكون “أولياء نعمهم” أو أن يصفونا بأننا “نور عيونهم”. مصيبتنا أننا اكتفينا بأن نكون جُمل اعتراضية في التاريخ، تروس في ماكينة إنتاج عملاقة، غير مدركين أن هذه الماكينة لا تنتج إلا عبوديتنا ولا تعمل إلا لأذلالنا. مصيبتنا أننا قبلنا أن نعلي من شأن الحجر على حساب البشر فانتهى بنا الحال وقد شيدنا من الحجر مدنا خاوية على عروشها وكباري تؤدي إلى اللامكان، هذا في الوقت الذي قُبر البشر فيه تحت الحجر.

3 Comments

  1. Ossama Farahat
    Ossama Farahat 26/10/2020

    رد رائع وتفنيد لما ذهب اليه د. احمد عبد ربه وقراءته المنقوصة وتأكيد لما جاء بكتابك المهم الذي أفدت كثيرا من قرائته واعتقد انه من أهم الكتب التي تمسك بتلابيب موضوعها بوعي كبير وعينها على الإنسان الصانع الحقيقي لتاريخ حاكما كان أو محكوما.
    أحييك د. خالد العزيز وأشد على يديك

  2. Mohamed
    Mohamed 27/01/2021

    سرد منطقي للحجج . عبد الرحمن الرافعي كان حزب وطني اي مصطفي كامل اي متعلويل نسبه الي حكم محمد علي واولاده . وعندما يؤرخ هو يؤرخ ليس فقط لما حصل ولكن لما كان يتمناه فيسهب ويعلل في الاسباب مره والتبرير مرات . وهو وان غلبه هواه يظل من افضل من كتب. .. لدي سؤال لحضرتك كنت اتمني لو خبرتنا عنه و فيه وهو ما هي اسباب خساره الالاف من جيش ابراهيم باشا اثناء الانسحاب من سوريا بعض الغربيين يدعي انه قتل اكثر من مائه الاف . وايا كان الرقم فهو يذكرني بانسحاب ٦٧ وكلاهما مذبحه وان كانت فاجعه الاولي الاكبر من حيث العدد والثانيه اعظم من حيث التاثير .. شكرا .. بالمناسبه انت مصري. . وده وسام لك قد منحتك اياه . وهذا لو تعلم اعظم من قلاده النيل .. القلاده دلوقتي بالفلوس يا سيدي ..

  3. ahmed
    ahmed 08/02/2021

    عبقري .. من افضل ما قرأت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.