Press "Enter" to skip to content

عن نظرية المؤامرة (١)

نُشر في “فيسبوك” في ٩ سبتمبر ٢٠١٥

بمناسبة مجلس إدارة العالم أعيد نشر تعليق كنت كتبته من تقريبا سنتين وقت ما كنت فاكر إن أحمد سبايدر هو قمة الفكير التآمري، وطبعا وقتها ما كنتش متخيل إن سياتللوا حسام وتامر أمين ممكن يتفوقوا على سبايدر في هرتلته: الموضوع فعلا خطير وشكله كده ملوش آخر.

أنا مقدر مبدئيا إن إحنا عندنا أسباب قوية ووجيهة تخلينا نصدق فعلا إن فيه مؤامرة كونية علينا وإن التاريخ عبارة عن سلسلة من المؤامرات. مين مننا يقدر يستخف بسايكس-بيكو أو بالإطاحة بمصدق أو باتفاقية سيفر اللي أفضت إلى العدوان الثلاثي؟ دي مؤامرات أدهى وأنكى من أى غزعبلات ممكن تخطر على مخ أحمد سبايدر. ولكن المشكلة طبعا إن إحنا ما بنتناولش المؤامرات علشان نفقسها ونكتشفها وندرسها ولكن علشان نحذر منها ونرددها وكأن ده كل المفروض علينا نعمله، فبدل الكلام عن المؤامرة ما يكون بداية الحديث بيكون نهايته، ولو طالبت المتشكك من وجود مؤامرة إثباتها يرد عليك ويقول “إزاي يعني؟ ما أنا لو قدرت أكتشفها ما تبقاش مؤامرة.” بالظبط زي ميل جيبسون في فيلم كونسبيراسي ثيري مع جوليا روبرتس، لما قاللها

Don’t expect me to prove the conspiracy, because if I manage to prove to you that the government is spying on me , then they would’ve fucked up, and it won’t be a conspiracy

 أو حاجة بالمعنى ده.

كثير بتساءل ليه التفسير التآمري منتشر عندنا؟ مش بس عند واحد زي سبايدر أو توفيق عكاشة ١٣ – ١٣ – ١٣، بس كمان عند أستاذ جامعي زي جلال أمين اللي كل ما يحتار في تفسير ظاهرة يحولها لمؤامرة واللي بيرد على اللي بينتقدوه بإنهم سذج مش مقدرين خطورة الوضع؟ طبعا نظرية المؤامرة ليها جاذبية لأنها بتعفيك م التفكير، ما بالك العمل. يعني لو الماسونية والصهيونية والإمبريالية العالمية وكل أجهزة المخابرات ضدك، يبقى مالومكش لو قعدت ف البيت تندب حظك. وطبعا أجهزة الأمن من المخابرات العامة للمخابرات الحربية لأمن الدولة عندها مصلحة إنها تروج للفكر التآمري وتزكيه، من ناحية لأن رؤيتها للعالم، باي ديفينشن، روية تآمرية. ومن ناحية تانية لأن لها مصلحة أساسية في انتشار الفكر ده لأنه فكر تغييبي يلهي الناس عن طرح أسئلة حرجة ويلهيهم عن العمل السياسي الجاد.

تخيل مثلا لو بدل ما اهتمينا بالتأكيد على خيانة الإنجليز للعرب في الثورة العربية الكبرى وعلى وساختهم لما اتفقوا سرا مع الفرنساويين على تقسيم المنطقة كنا أكدنا على كل ده ولكن زدنا عليه تمسكنا بمعرفة المتعاونين معاهم مننا علشان نحاسبهم (ولو معنويا).

تخيل لو بدل ما قعدنا نردد إن عبناصر اتنصب له فخ في ٦٧ تمسكنا بحقنا في قراءة وثائق الكارثة دي، مش كنا عملنا حاجة مهمة تحسسنا إن الهزيمة دي مش هتكرر؟

الصحافة طبعا كمان مسئولة عن انتشار نظريات المؤامرة. فبعد أكتر من ١٥٠ سنة صحافة فشلنا في إنتاج صحافة استقصائية جادة. أنا لسه مخلص قراءة تحقيق صحفي في ١١ صفحة في عدد ١٦ ديسمبر ٢٠١٣ من مجلة “ذا نيويوركر“. التحقيق عن عملية نصب بتدور حول كتاب ثمين وفريد يقال إنه كان بتاع جاليليو ذات نفسه وإنه عليه إمضاؤه. الكتاب عدى على أساتذة جامعة متخصصين في تاريخ العلوم وتاريخ الفن وتاريخ الطباعة. وكمان عدى على تجار أنتيكات ومتخصصين في الكتب القديمة وكلهم قالوا إنهم ماشافوش حاجة زيه قبلها وكلهم أجمعوا على أصالته. وشوية شوية الصحفي قدم لنا معلومة وراء التانية اللي خلت ناس كثير تشكك في أصالة الكتاب وترجح إنه نتاج عملية تزوير غاية في الخبث والدقة والذكاء. المقال مسلي وطريف ومشوق. ولكنه برضه مقال هام وجاد ونتاج عمل أكيد استغرق شهور عديدة. الصحفي (واسمه نيكولاس شميدل) تقابل مع المزور نفسه وزملائه والناس اللي ضحك عليهم، وراح بنفسه للورشة اللي الكتاب اتزور فيها، وبذل مجهود كبير علشان يعرف يفهم الطريقة المعقدة اللي التزوير تم فيها، وزار بيونس آيريس وباريس ومدن إيطالية عدة وميونيخ ونيويورك – ،كل ده علشان يكتب مقال واحد.

قول لي أنهي جرنال أو مجلة عندنا ممكن تشجع أي صحفي موهوب عندها إنه يعمل ولو عُشر المجهود ده في تحقيق صحفي؟ إحنا الصحافة عندنا قدامها سكة طويلة، وللأسف كثير منها ماشي ورا مش قدام أصلا. أما النظام التعليمي فحدث ولا حرج. فالدور الأساسي اللي بتلعبه مدارسنا وجامعاتنا هو إلغاء التفكير النقدي وإزكاء الروح النرجسية القومية المتعالية. والنتيجة: تكوين أجيال، مش بس جيل، من النفوس الجريحة اللي معندهاش أي ثقة في نفسها. وأظن إن دي تحديدا، أي غياب الثقة في النفس، هي أهم أسباب انتشار نظرية المؤامرة (مش بس نتيجة ليها). فالطالب اللي مُنتظر منه يحفظ ويصم، واللي بيتعاقب لو شذ عن القاعدة، هو اللي بيطلع الأول. متفوق آه، لكن عينه مكسورة، وهو أول واحد يكرر لك نظريات المؤامرة. فهو من ناحية عارف ومتأكد إن فيه حاجة غلط، لكنه في نفس الوقت مش عارف يحط إيده على الغلط ده. والأهم إنه فاهم إنه في قرارة نفسه عاجز عن إدراك طبيعة المشكلة، ما بالك العمل على حلها. وهنا نظرية المؤامرة بتريحه: فالمؤامرة موجودة موجودة، وبالتالي هو مش حمار ولا عبيط مضحوك عليه. لكن الموضوع كمان خطير، وكأنه بيقول: أنا مش متخصص في الموضوع، وأكيد فيه ناس فاهمة عني تقدر تتعامل معاه بحنكة وشطارة. واجبي إني مافكرش لأني مش حأقدر أحل اللغز لوحدي. الأحسن إني أروح أبلغ في أمن الدولة عن الإعلان المشبوه بتاع فودافون لأن الأمن القومي مهدد. إزاي بالظبط ؟ماعرفش (لأن لو عرفت ما بقتش مؤامرة)، لكن لحسن الحظ عندنا أجهزة بتعمل في صمت (وبتلبس نظارات سودة) هي اللي بتعرف وبأيدها الحل. أحمد سبايدر فعلا نموذج المواطن المصري الأصيل الغيور على بلده اللي بتهتم بيه النيابة واللي بتحترمه الأجهزة السيادية. ولكن، وده المهم، أحمد سبايدر نتاج طبيعي، إن ماكنش نموذجي، لصحافتنا ومدارسنا ونظامنا السياسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.