نُشر في “أخبار الأدب” في ٨ أغسطس ٢٠١١
لا شك أن مليونية ٢٩ يوليو في ميدان التحرير سوف تعتبر علامة فارقة في تاريخ الثورة المصرية، إذ أنها أوضحت الحضور الطاغي للتيار الإسلامي الذي ظل مهمشا إلي درجة كبيرة منذ أن نجحت القوي الشبابية واليسارية والليبرالية في حشد الجماهير لتخرج بالملايين في الأسابيع الأولي من الثورة.
وقد كان لي حظ النزول إلي الميدان في ذلك اليوم والتواجد بين المتظاهرين والاستماع إلي بعض الخطب التي ألقيت من منصات مختلفة، وقد وجدت في الكثير مما رأيت وسمعت ما أسعدني، ولكن كان هناك أيضا الكثير الذي أزعجني.
ما أسعدني هو أنه بالرغم من التخوفات العميقة من اصطدام الإسلاميين باليساريين والليبراليين والشباب الذين كانوا يحتلون الميدان لأسابيع طويلة اتسمت المليونية بطابع سلمي ولم تحدث مصادمات تذكر. كما سعدت بتواجد الآلاف من الشباب السلفي الذي أتي من كل حدب وصوب لكي يعبر عما يريده وما يقتنع به، وهو تطبيق شرع الله، ولكي يؤكد أن الانتخابات والديموقراطية هي وسيلته لتحقيق ذلك.
ولكني انزعجت بشدة من ضحالة الخطاب الإسلامي برمته، والسلفي منه بشكل خاص، كما تبدي في الخطب التي ألقيت من المنصات المختلفة، إذ أنها لم تتعد التأكيد علي أهمية تطبيق الشريعة والحفاظ علي الهوية الإسلامية لمصر. ولم يكلف أحد من المتحدثين نفسه عناء الدخول في التفاصيل سواء تلك المتعلقة بما يعنيه تطبيق شرع الله أو كيف سيحل ذلك المشاكل العديدة التي تعاني منها البلاد.
علي أنني انزعجت بشدة أيضا من خطاب العلمانيين بعد المظاهرة ومن أحاديثهم في التليفزيون ومقالاتهم في الصحف، ولا أقصد هنا الاتهامات التي وجهت لقادة التيار الديني وخاصة قادة الإخوان بأنهم نكثوا وعودهم بعدم رفع شعارات دينية (وبالمناسبة، وحسب علمي، لم يوقع السلفيون علي أية عريضة يتعهدون فيها بعدم رفع شعارات دينية)، بل أقصد تلك النظرة الاستعلائية، بل الإقصائية، التي نظر بها الكثير من العلمانيين للشباب السلفي، فوراء الكثير من الاستهزاء من الجلباب السلفي القصير ومن اللحية المعفاة تكمن في رأيي نظرة استعلائية قاهرية للقادمين من الأرياف ونظرة طبقية للفقراء بشكل عام.
أنا لست أدافع عن فكر السلفيين أو عن أفكار تيار الإسلام السياسي بشكل عام، بل أري أن ذلك الفكر وخاصة فيما يتعلق بفهوم السلفيين عن الشريعة وتاريخها هو فكر متهافت متناقض. ولكني أدرك في نفس الوقت أن الآلاف الذين وفدوا إلي ميدان التحرير في ٢٩ يوليو نجحوا في التعبير عن آرائهم بشكل سلمي متحضر. وأدرك أيضا أن هؤلاء مواطنون مصريون، وأن ما يجمعنا بهم أكثر وأهم مما يفرقنا، وأنه بناء عليه يجب أن نتحاور معهم ونجادلهم لا أن نخافهم ونزدريهم ونحتقرهم.
علي أنني أدرك أيضا أن مناقشة السلفيين وأصحاب التيار الديني بشكل عام لا يجب أن تدور حول سؤال الهوية والمادة الثانية وإسلامية مصر، بل يجب أن تتطرق لمشاكل الحياة اليومية التي تشغل المواطنين وتؤرقهم: من أزمة سكن، إلي تعليم منهار، إلي خدمات صحية مهترأة، إلي وسائل مواصلات مهينة. ويحضرني هنا تجربة الإسلام السياسي التركي، ذلك البلد الذي تتصارع فيه الهويات وتتجاذب. ولكن أسلاميي تركيا لم يلعبوا يوما علي وتر الهوية الرنان بل نجحوا في تقديم خدمات ارتفعت بمستوي معيشة الشعب وكان من أهمها نجاحهم بعد فوزهم في انتخابات بلدية اسطنبول عام ١٩٩٤ وإيجادهم حلول لمشاكل انقطاع المياة والمواصلات والزبالة. ذلك في رأيي هو سر نجاح إسلاميي تركيا: إدراكهم أن القضاء علي مشكلة الزبالة أهم من التأكيد علي هوية تركيا، فهل يتعلم إسلاميونا منهم؟