Press "Enter" to skip to content

تاريخ التعذيب في مصر

نُشر في “فيسبوك” في ١٠ ابريل ٢٠١٤

عمرو اسماعيل كتب بوست من شوية على صفحته عن التعذيب في مصر. فبعد ما خلص الفصل بتاع التحقيق مع ريا وسكينة والعصابة في كتاب صلاح عيسى، رجال ريا وسكينة، قال: “مثير جدا للانتباه إن التحقيقات لم تكن تشهد أي تعذيب أو ضغط بدني على المحقق معهم حتى في قضية بحجم ريا وسكينة وبعد اكتشاف بتاع ١٧ جثة في غرفتيهما…على حد علمي إن التعذيب لانتزاع الاعترافات كان هو السائد وكرومر بيحكي في كتابه عن مصر إن من الإصلاحات اللي الإنجليز أدخلوها من ١٨٨٣ هو منع التعذيب لانتزاع الاعترافات من المتهمين …ولكنه بيعترف إن التطبيق كان صعب وإن المحاكم وقتها – خاصة في الأقاليم – استمرت في تطبيق القسوة في التحقيق … في العشرينات بقى هل كانت الإصلاحات الإنجليزية ده فعلا مؤثرة لدرجة عدم تعرض المتهمين لأي تعذيب بالشكل ده؟ وإمتى بدأت الردة مرة أخرى لاستخدام التعذيب والقسوة في التحقيق؟

أنا كتبت تعليق على كلام عمرو وعلي تعليقات الأصدقاء عمرو عبد الرحمن وأبو العز مجاهد وعزة محمد صبور، إنما ما عرفتش أرفع التعليق على صفحة عمرو اسماعيل غالبا لطول التعليق، فقررت أرفعه هنا:

عمرو أنا سعيد فعلا بالأسئلة دي وبالحوار ده.

أنا شغال على تاريخ التعذيب من فترة وألقيت عنه مجموعة من المحاضرات (في اليابان وكندا وسويسرا) في الأسابيع القليلة ال فاتت.
باختصار دي المعلومات ال عندي:

التعذيب كان ساري بشكل عادي وقانوني في مصر قبل القرن الـ١٩.

التعذيب كان له وظيفتين أساسيتين: ١. كوسيلة لانتزاع الاعتراف من المتهمين في قضايا جنائية، ٢. كعقوبة قانونية، أي الجلد. ومن المهم هنا التأكيد على أن العقوبة هنا كانت قانونية وعلنية ومش سرية.

التعذيب كان برضه بيُمارس كوسيلة غير قانونية (يعني مش منصوص عليها في اللوايح والقوانين) لفرض سطوة الـ”ميري” على الفلاحين خاصة عند جمع الضرائب والتجنيد وجمع الأنفار للسخرة.

أخيرا وزي ما عمرو عبد الرحمن قال، التعذيب كان برضه بيُمارس بشكل غير رسمي في العزب والدواير والقصور من قِبل الباشوات وملاك الأراضي أسوة برجال الميري.

في ١٨٦١ صدرت لايحة مهمة ما حدش انتبه ليها قبل كده اسمها رسميا “لايحة استبدال الضرب بالحبس”. اللايحة دي في غاية الأهمية لتاريخ التعذيب بصفة خاصة وتاريخ القانون العقابي المصري بصفة عامة. أهميتها تنبع من إنها، أولا، لغت التعذيب كعقوبة واستبدلته بالسجن، وثانيا، إنها منعت استخدام التعذيب كوسيلة لانتزاع الاعتراف من المتهمين.

أنا درست اللايحة دي بعمق وخصصت لها فصل كامل في كتابي القادم ووصلت لنتيجة مبدئية مفادها إن اللايحة دي مش نتاج انتشار أفكار التنويرين داخل النخبة القانونية المصرية ولا هي نتيجة تأثر رجال الإدارة الخديوية بأوربا.

ال أنا شايفه إن اللايحة دي نتاج تطور داخلي في “الإدارة الخديوية” (أنا مدرك إن لفظ “الخديو” لم يُمنح لإسماعيل إلا بعد كده بسنوات)، وتحديدا إن رجال الظبطية (يعني البوليس) هم ال كانوا شايفين إن التعذيب كعقوبة وكوسيلة لإقامة الدليل القانوني وسيلة غير فعالة.
تحديدا، كانوا شايفين إن التعذيب كعقوبة ما بيساويش بين الناس علشان المدانين أقوياء البنية بيحتملوه أكثر من الكهول والضعفاء. وكانوا برضه شايفين فيه تشظي بمعني عدم القدرة على حساب كمية الألم وتحديدها بدقة بحيث إنه كان صعب التأكد إن واحد بيتجلد في أسوان نتيجة سرقته ١٠٠ قرش مثلا يكون بتقع عليه نفس كمية الألم ال بتقع على واحد بيتجلد في الإسكندرية نظير ارتكابه نفس الجرم، أي سرقته لـ١٠٠ قرش.

طبعا ده يجرنا لفكرة المساواة وامتى وأزاي أصبحت الفكرة دي ممكنة. فزي ما احنا عارفين، لا القوانين الجنائية العثمانية ولا الشريعة بتنظر للناس على قدم المساواة، فأول حاجة القاض الشرعي بيعملها علشان يبتدي ينظر في أي قضية إنه يأخد في عين الاعتبار ذكورية وحرية ودين المتقاضين. فدية الحر مش زي دية العبد، وشهادة المرأة مش زي شهادة الراجل، وحقوق المسلم مش زي حقوق الذمي. إنما في النظام القانوني المصري ال كان بيتبلور في القرن الـ١٩ أصبحت فكرة المساواة ممكنة لأول مرة. وده بدوره كان نتيجة ممارسات بيروقراطية متنوعة ساوت، بشكل فعلي وإن لم يكن نظريا، بين الناس. أنا هنا قصدي ممارسات زي التعداد والتطعيم ضد الجدري والتجنيد. دي ممارسات حولت الناس لـ”أفراد”، أي أرقام في متتالية عددية مكنت الإدارة من التعامل معاهم بمعزل عن الإطار المذهبي أو الطائفي أو الجندري ال كان بيحكمها قبل كده. وأول ما “ممارسة المساواة” (ومش هأقول “فكرة المساواة”) دي ظهرت أصبح التعذيب يسبب مشكلة لأنه ما بيساويش بين المجرمين، وأصبح من الضروري البحث عن عقوبة تانية بتحقق مبدأ المساواة ده. والسجن طرح نفسه بقوة كبديل “عادل” ومنجز لأنه بيحرم الناس، باختلاف مشاربهم، من شيء بيتمتعوا بيه طبيعيا : الحرية.

ثانيا، كانوا شافين إن التعذيب كوسيلة لإقامة الدليل القانوني غير فعال لإنهم أول من يدري إن كثير من الأدلة القانونية دي هي اعترافات وليدة التعذيب وملهاش صلة بال حصل بالفعل، وبالتالي كان رجال الضبطية بيقولوا أحيانا إن الاعترافات ال هم انتزعوها غير حقيقية.
دي مشاكل قديمة ومعروفة عند رجال الإدارة الخديوية زي ما كانت معروفة عنر رجال القضاء الشرعي عند تطبيقهم للحدود والتعازير: التعذيب غير فعال كوسيلة للترهيب وبالتالي كوسيلة لردع الغير وكوسيلة لإقامة البينة.

طب إيه ال جد في القرن الـ٩ ال خلى الإدارة الخديوية تصدر لايحة استبدال الضرب بالحبس سنة ١٨٦١؟

أظن إن ال جد تطورين أساسيين: ١. تطور فكرة السجن وطبيعته بحيث أصبح مكان للتأهيل والإصلاح مش مكان للنفي والموت. وده بدوره كان نتيجة جهود كلوت بيك وإدارته الصحية ال كانت متخوفة من الأمراض والأوبئة ال كانت بتنبع من السجون وأماكن الحبس. ٢. تطور الطب الشرعي نتيجة جهود خريجي قصر العيني وتمكنهم من البت في قضايا جنائية كثيرة (أنا درست العديد منها).

اللايجة دي كانت بالفعل محورية وتأثيرها مهم، ،بالفعل الأحكام ال صدرت بعديها ما كانتش بتنص على الجلد إنما كانت تنص على السجن. أما في مجال التحقيقات فبرضه أظن إن اللايحة كان لها تأثير لإني لقيت قضايا كثيرة سقطت قدام المحاكم (ال كان اسمها مجالس سياسية) نتيجة تقديم تقارير من الطبيب الشرعي (ال كان اسمه طبيب سياسي) يثبت إن الاعتراف كان نتيجة تعذيب.

كل ده بيخلليني أشك كثير في مزاعم كرومر إن هو ورجالته ال قضوا على التعذيب. كرومر كان من مصلحته إنه يصور مصر قاعا صفصفا علشان يتباهى إنه هو ال جاب الحضارة والمدنية وأعاد الهدوء والسكينة للبلد.

صحيح فيه أوامر كثيرة صادرة من سنة ١٨٨٣ وطالع بمنع التعذيب، إنما: ١. ده مش معناه إن ما كانش فيه أوامر مماثلة قبل ١٨٨٣، و ٢. إن كان فيه برضه أوامر مغايرة بإجراء التعذيب بعد ١٨٨٣، وأهمها قاطبة أحكام محكمة دنشواي ال بشوفها تعبر عن التضارب والتعارض الكامن جوه المشروع الاستعماري الإنجليزي.

الحقيقة إني شايف إن “التطوير” ال أحدثه الإنجليز خاصة بعد ما انتصروا على نوبار وبعد ما أحكموا قبضتهم على وزارة الداخلية هم ال أسسوا لاستخدام التعذيب كوسيلة ممنهجة وإن كانت غير قانونية داخل الإدارة المصرية. ودي ممارسة ورثها عنهم وزراء الداخلية المصرية في الفترة المسماة بالليبرالية. دي فترة أنا مش مالكها كويس ومحتاج أقرأ فيها كثير. فيا ريت تدلوني على مصادر كويسة عن وزارات إبراهيم عبد الهادي واسماعيل صدقي وغيرهم وعن تاريخ والبوليس السياسي.

أما فترات عبد الناصر والسادات ومبارك واستخدام التعذيب فيها فدي أمرها أسهل علشان عندنا شهادات ضحايا، ونصوص قوانين وتشريعات، ودراسات حقوقية كتيرة بتوثق للممارسة دي.

السؤال ال بأسأله لنفسي، بعص الوصف ده، أو بمعنى أدق، السؤال ال هانية الشلقامي طرحته علي بعد ما ألقيت محاضرة ماجيل في مونتريال الأسبوع ال فات هو: إيه الفرق بين طبيعة العنف الكامن داخل الدولة المصرية الحديثة والعنف الكامن داخل الدول الحديثة بشكل عام (الاستعمار، الحروب الأهلية، العبودية)؟ السؤال التاني ال هانية طرحته: إزاي نفسر الانتكاسات العديدة الي بنمر بيها في محاولاتنا القضاء على عنف الدولة ده؟ بمعنى آخر: لو كل الدول الحديثة، تعريفا، قايمة على احتكار أدوات العنف، ولو صحيح زي شميت ما قال إن القانون نفسه يحمل قدرا كبيرا من العنف، فإزاي نفسر قدرة مجتمعات تانية كثيرة على تطويع العنف ده “وتهذيبه” بينما عندنا في مصر الدولة الحديثة ما زالت بتثبت قدرتها على تعذيب مواطنيها بل قتلهم بدون دية وبشكل ممنهج؟

أي اقتراحات؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.