مقال لعبد العظيم حماد نُشر في “مدى مصر” يوم ٢ نوفمبر ٢٠١٨
«هزمناهم على تويتر.. وهزمونا إعلاميًا.. الإعلام السعودى ميت دماغيًا».
كاتب هذه العبارات -التى تدخل فى باب العجائب والغرائب- هو الأمير خالد بن عبد الله آل سعود، ولا أدرى إن كان ابن الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، أم ابن عبد الله آخر من الأمراء السعوديين، لكن هذا لا يهم كثيرًا أو قليلًا.
كان هذا الحكم على الإعلام السعودى الممتد عبر الكرة الأرضية، والأكثر تمويلًا فى العالم كله، في مواجهته مع خصومه الإعلاميين في قضية جريمة مقتل الصحفي المرحوم جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول.. كان هذا الحكم بالهزيمة والموت الدماغي هو مدخلي للحديث في ورشة عمل، نظمها معهد الأصفري بالجامعة الأمريكية في بيروت، يوم 22 أكتوبر الماضي، وكانت الورشة مخصصة لبحث المشهد الإعلامي العربي، وكان المطلوب أن أتحدث حول خطوط الانقسام والمواجهة في الإعلام العربي بين السعودية وإيران.
العنوان العريض، في رأيي، لهذه المواجهة هو التناقض ضد الاتساق، أو اللا مشروع ضد المشروع، بالطبع ليس بمعنى المشروعية القانونية، ولكن بمعنى عدم وجود مشروع سعودي متسق في مواجهة مشروع إيراني محدد المعالم والحلفاء والأدوات، ولا يعني ذلك تأييدنا للمشروع الإيراني أو إعجابنا به، بل المسألة كلها هي رصد موضوعي مجرد لما يجري.
قبل الحديث عن التناقضات الأصيلة (أو البنيوية) في الخطاب الإعلامي السعودي تجدر الإشارة أولا إلى تناقضات الشكل أو الـ STYLE، ومنها أن أقوى وسائل الإعلام والصحف السعودية تعمل من الخارج، وهذا معناه أن البيئة المحلية السعودية لا تتسع لإعلام مهني بنسبة معقولة، ولا توفر أسباب قوته، وذلك بسبب القيود الدينية والاجتماعية والسياسية المعروفة للكافة، ولذلك كانت الصحف السعودية الكبرى، التي تصدر في لندن مثلا تخصص طبعات مختلفة عن طبعاتها الأصلية للداخل السعودي، ومن التناقضات في الـ STYLE أيضا البطء المعهود في المبادرة أو في رد الفعل السياسي الرسمي، مهما تكن جسامة الأحداث، وإلحاح الحاجة لتبيان الموقف الحكومي، مع حرمان الصحفي من الاجتهاد في الحصول على تعليق أو معلومات من مصادرها أو مظانها، بل وحرمان المسؤولين في المستويات الوسطى من المبادرة إلى التفاعل مع الأحداث، ووسائل الإعلام، وبالمناسبة فقد كان الخروج على هذا الـ Style من أسباب تفوق المرحوم خاشقجي مهنيًا، ومن أسباب انشقاقه، وبالتالي من أسباب التخلص منه في جريمة القنصلية.
تأكيدًا لسمة البطء في رد الفعل أو المبادرة، أذكر أننا في صالات التحرير كنا ننتظر حتى منتصف الليل ليأتينا بيان مجلس الوزراء السعودي حول الحدث المحلي أو الإقليمي أو الدولي، وذلك لأن المجلس لا يجتمع إلا مساءً، إما بسبب الاعتياد، أو بسبب تقدم عمر الملوك، ولكن هذا ما كان يحدث، وعندما تصدر المشهد السياسي والإعلامي بعض الأمراء والمسؤولين الشبان، لم يتحسن الوضع كثيرًا، إلا في حالات محددة، اتسمت بالرعونة والعشوائية، على نحو ما جرى ويجري في اليمن، وفي حالة معتقلى فندق الريتز كارلتون من الأمراء والوجهاء ورجال الأعمال، وعلى نحو ما حدث ويحدث في قضية المرحوم جمال خاشقجي حاليًا.
والآن إلى التناقضات الموضوعية، فقد أقامت المملكة السعودية (التقليدية) مشروعها السياسي على مضمون ديني سلفي وهابي، ووظفت هذا المشروع إقليميًا ضد المشروع القومي العربي، وضد مشروع اليسار الاجتماعي، أي أنها وظفت الإسلام ضد العروبة وضد الاشتراكية، فضغطت بقوة لتأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي بديلًا أو منافسًا لجامعة الدول العربية، وذلك بالتعاون مع شاه إيران «الشيعية» المخلوع، ولكن بعد ثورة الخميني وخلع الشاه تبنت السعودية خيار توظيف الإسلام السني ضد الإسلام الشيعي، ووفرت الحرب الأفغانية ضد الاحتلال السوفيتى الفرصة لقيادة سعودية نشطة لهذا الإسلام السني في حرب مقدسة ضد السوفييت، كانت القيادة الحقيقية الخفية فيها للولايات المتحدة الأمريكية، كذلك وفرت الحرب العراقية الإيرانية لمدة ثماني سنوات فرصة أخرى للسعودية لمساندة العراق باسم الإسلام السني ضد الإسلام الشيعي الإيراني.
لكن التطورات الضخمة التالية أحدثت شروخًا هائلة في السياسة السعودية، ونعني تحديدًا الغزو العراقي للكويت، ثم هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية على مدينتي نيويورك وواشنطن الأمريكيتين، وتحميل السعودية، مذهبًا ومجتمعًا وأموالًا، المسؤولية الكبرى عنها، والغزو الأمريكي للعراق، ثم ثورات الربيع العربي، والحرب الأهلية السورية والحرب الأهلية اليمنية، والمشروع النووي الإيراني، وهي كلها تطورات أفادت الجانب الإيراني استراتيجيًا بأكثر مما حلم به قادة طهران.
كيف حاولت الاستراتيجية السعودية موازنة أو تبديد تلك المكتسبات الإيرانية الضخمة؟
باختصار لم تسر السياسة السعودية في خطوط محددة تؤدي إلى تراكم الإنجازات، بل إنها كثيرًا ما تخبطت، واتبعت هنا سياسة متناقضة مع ما طبقته هناك، مثلًا؛ تحالفت مع السنة بمن فيهم المسلحين في السنوات الأولى للثورة ثم الحرب الأهلية في سوريا، ولم تنجح في تمتين تحالفها مع سنة العراق، بينما استخدمت كل الوسائل الممكنة لمحاصرة وإسقاط جماعة أو جماعات الإخوان المسلمين في مصر واليمن وليبيا، وبقية شمال إفريقيا، وسائر دول الخليج والأردن، ثم دعمت الرياض استراتيجية طويلة المدى لإقصاء الجماعة وفروعها نهائيًا من الحياة السياسية في كل هذه البلدان، وتبنت أسلوب وصم كل تنظيمات الإسلام السياسي بالتطرف والإرهاب، رغم تحالفها مع أشد الإسلاميين تطرفًا فى بدايات الحرب الأهلية السورية.
بالطبع لا ينفي هذا أن المناهضة السعودية للحكم الإخواني في مصر توافقت مع إرادة الأغلبية الشعبية الكاسحة، لكن هذا لا ينفي أيضًا تخبط المشروع السعودي للتحالف مع الإسلام السني في مواجهة تمدد النفوذ الإيراني، وموازنة وكبح تحالف طهران مع القوى السياسية الشيعية في سوريا ولبنان واليمن والعراق.
يزداد هذا التخبط وضوحًا بالاختيار السعودي النهائي لمبدأ التحالف مع إسرائيل، والتعاون معها إلى درجة مشاركتها أو إشراكها في ما يسمى بالتحالف السني ضد إيران، وهو مشروع لا يروق قطعا للأغلبية السنية في شتى بقاع الإقليم والعالم، إن لم يكن يثير أكبر قدر من الاستياء لدى هذه الأغلبية، ولم تكن هذه سوى قفزة واسعة في الظلام، لأن التحالف مع إسرائيل لا يساعد على الوصول إلى تسويات لأزمات المنطقة، التي تنغمس فيها السعودية، وإنما يؤدي إلى مزيد من الاستقطابات والصراعات.
إلى جانب ذلك اندفعت الرياض إلى محاصرة قطر (السنية)، وقيادة التحالف الرباعي المعروف لحصارها، الأمر الذي دفع القطريين إلى توثيق علاقتهم بإيران وتركيا، ليتسع الشرخ بين السعودية وتركيا (السنية)، ولينفرط عقد مجلس التعاون الخليجى برفض الكويت وسلطنة عمان مسايرة السياسة السعودية نحو قطر، وقد تفجرت أزمة مقتل خاشقجى في قنصلية بلاده على خلفية هذا الشرخ العميق بين الرياض وأنقرة، مما شكل ظرفًا مشددًا للموقف التركي من الأزمة .
وبالتأكيد فإن اتساع نطاق الحرب التي يقودها السعوديون في اليمن، لتشمل مدنيين، ودون أمل واضح في نهاية قريبة ساهم في خلق حالة استياء إقليمية وعالمية من الرياض.
عودة إلى «الإستايل»، ولكن هذه المرة في مجال السياسة الخارجية، فهنا أيضًا سنجد تخبطًا ما بين الرعونة والإملاء وغطرسة القوة وبين هدف تجميع الأنصار والمؤيدين، والأمثلة عديدة، أقربها ارتهان سعد الحريري رئيس وزراء لبنان وإجباره على إعلان استقالته من الحكومة اللبنانية من الرياض، عقابًا على تعاونه الاضطراري مع حلفاء إيران من خلال الائتلافات الحكومية، وتفجيرًا للأزمة اللبنانية، انتظارًا لتدخل إسرائيلي مسلح ضد حزب الله، كما نشر وقتها، وهو ما لم يسمح به الإقليم ولا العالم، ومن هذه الأمثلة وقف إمدادات البترول لمصر بسبب تصويتها على قرار لا تؤيده الرياض في مجلس الأمن، ومنها ردود الفعل الدبلوماسية والسياسية والإعلامية والاقتصادية المبالغ في حدتها ضد كندا لمجرد تغريد مسؤول كندي ضد اعتقال السلطات السعودية لفتاة دونت بعض الانتقادات.
في هذا السياق تدخل جريمة قتل خاشقجى، رغم أنها الأبشع والأكثر عشوائية واستهتارًا.
لا يكتمل الحديث عن أوجه التناقض في المشروع السعودي ( إن وجد ) دون أن نتذكر أن الأداة الرئيسية للدبلوماسية السعودية كانت ولا زالت وستظل البترودولار.
ربما تبرهن القصة التالية على قصور الاعتماد فقط على هذا البترودولار، فعقب نجاح الثورة الإسلامية فى إيران، وشعور الأسرة المالكة في السعودية بخطورة إلهام هذه الثورة، شكلت المملكة شبكة من الكتاب العرب والمسلمين للدعاية للنموذج الإسلامي لنظام الحكم السعودي، بوصفه التطبيق الصحيح للإسلام ككل، والإسلام السني على وجه الخصوص، وكان أحد الأعضاء البارزين في هذه الشبكة كاتب مصرى موهوب ودؤوب يعمل ويقيم فى بيروت، وقد كلف بتأليف كتاب يروج «للإسلام السعودى»، لكنه فوجئ بتخفيض كبير لمبلغ المكافأة المالية التي وعد بها عن الكتاب، فما كان منه إلا أن تفرغ لتأليف كتاب نقيض، موضوعه جناية السعوديين على الإسلام، وأرسل مسودته الى المسؤول السعودي الذي كان قد كلفه بتأليف الكتاب الأول، وذلك قبل أن يصدر هذا الكتاب المؤيد، طالبًا منه المكافأة المتفق عليها عن الكتاب الموالى، بالتمام والكمال، ومكافأة أخرى مساوية تعويضًا عن جهده في تأليف الكتاب النقيض، وإلا فإنه سينشر كتابه عن جناية السعوديين على الإسلام، ويتبرأ من الكتاب الأول، ويتهم ناشريه بالتزوير، إذا نزل إلى الأسواق… فلم يجد المسؤول السعودى حلا سوى الرضوخ.
فى المحصلة النهائية فإن السعودية لديها عملاء ومأجورين أكثر مما لديها من حلفاء وشركاء، على العكس من إيران التي يرتبط حلفاؤها بها بروابط المذهب والولاء والمصالح المشتركة، وليست النائحة كالثكلى، وكمثال وسؤال توضيحي: هل يمكن أن يعامل الإيرانيون حسن نصر الله، أو عبد الملك الحوثى مثلما عامل السعوديون سعد الحريري؟!
قد يظن البعض أن خطة ولي العهد السعودى للخروج من كل هذه التناقضات هو مشروع بناء دولة وطنية حديثة أو شبه حديثة، لكن من يصدق أن دولة وطنية حديثة تبنى بغير قانون، وبغير مساواة بين جميع المواطنين أمام هذا القانون؟ ومن يعتقد أن ما فشلت فيه الدول العربية الأحدث نظمًا وفكرًا وعلاقات عمل وإنتاج سوف تنجح فيه السعودية القبلية الريعية، حتى إن تغاضينا – جدلا – عن مضاعفات حادثة خاشقجى، التي تتوالى، والتي ستتوالى، فتحيل التناقضات إلى أنقاض؟!