هذه مقالة كتبها حسام بهجت ونُشرت في مدى مصر بتاريخ ٢١ أكتوبر ٢٠١٨
حين أُعلن في فبراير الماضي توقيع اتفاق بين ثلاث شركات؛ مصرية وإسرائيلية وأمريكية، لشراء الغاز الطبيعي الإسرائيلي وتوريده إلى مصر، رفضت الحكومة المصرية التعليق على الاتفاق. يومها اكتفى المتحدث باسم وزارة البترول ببيان مقتضب قال فيه «إنه ليس لدى وزارة البترول أي تعليق بشأن مفاوضات أو اتفاقيات تخص شركات القطاع الخاص بشأن استيراد أو بيع الغاز الطبيعي إلى إسرائيل».
فيما نقلت وكالة رويترز في اليوم نفسه عن مصدر حكومي مصري -طلب عدم نشر اسمه- قوله إن الاتفاق الموقع، والذي تبلغ قيمته 15 مليار دولار، لا يعني أن الحكومة بنفسها سوف تستورد الغاز من إسرائيل، وإنما «شركات خاصة دولية ستستورد الغاز من الخارج في إطار توفير احتياجاتها».
يومها اكتفت كافة التقارير الصحفية بالإشارة إلى أن الشركة «المصرية» في الصفقة هي دولفينوس القابضة، المملوكة لرجل الأعمال المصري علاء عرفة.
بالمثل، فحين تم توقيع اتفاق أوَّلي، في 27 سبتمبر الماضي، للاستحواذ على حصة من الشركة المالكة لأنبوب غاز شرق المتوسط الواصل بين عسقلان والعريش (المملوكة لشركاء من إسرائيل والولايات المتحدة وتايلاند ومصر)، تمهيدًا لاستخدام الأنبوب في نقل الغاز الإسرائيلي إلى مصر، سارع متحدث وزارة البترول لإصدار بيان «بخصوص الاتفاقيات المبرمة من قِبل شركات خاصة ذات جنسيات مختلفة من أجل تصدير الغاز المنتج من حقول ليفاياثان وتمار [الإسرائيلية] إلى مصر»، أكد فيه أن «الوزارة ترحب بهذه الخطوة الجديدة التي أقدمت عليها الشركات الخاصة القائمة على المشروع التجاري المزمع تنفيذه».
كان هذا البيان يشير إلى الاتفاق الموقع الشهر الماضي بين كل من شركة ديليك للحفر الإسرائيلية وشركة نوبل إنيرجي الأمريكية (صاحبتي امتياز حقلي الغاز الإسرائيليين) وشركة مصرية تحمل اسم «غاز الشرق».
خلال الأسبوع الماضي أدلى الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لغاز الشرق، محمد شعيب، بعدة مقابلات صحفية افتخر فيها بنجاح شركته في إتمام الاتفاق مقابل إسقاط عدد من قضايا وغرامات التحكيم الصادرة ضد مصر، وفي أعقاب عملية تفاوض قال إنها استغرقت 18 شهرًا بعد أن «قررنا في البداية التفكير خارج الإطار الحكومي».
لكن تحقيق «مدى مصر» في تفاصيل صفقة استيراد مصر للغاز الإسرائيلي بدءًا من العام المقبل يكشف أن التأكيد المتكرر للمسؤولين المصريين عن كون الاتفاق مقتصرًا على القطاع الخاص و«خارج الإطار الحكومي» لا يمثل سوى نصف الحقيقة.
تكشف المستندات أن شركة غاز الشرق -الرابح الأكبر من استيراد غاز إسرائيل وإعادة بيعه للدولة المصرية- هي بالفعل شركة خاصة، ولكن غالبية أسهمها مملوكة لجهاز المخابرات العامة المصرية، الذي يحصل على 80% من أرباحها لحسابه، وأن الرئيس التنفيذي للشركة محمد شعيب تم تعيينه بمجلس إدارتها ممثلًا عن الجهاز، بل وأن رئيس مجلس إدارة الشركة هو في الواقع كان دائمًا وكيل أو نائب رئيس جهاز المخابرات العامة.
كما تكشف المستندات وجود شركة أخرى دخلت فيها المخابرات العامة بقيمة النصف مع الشركة المصرية التي ستشتري الغاز الإسرائيلي؛ «دولفينوس القابضة».
ومن أجل إتمام الصفقة، مع إخفاء اللاعبين المصريين الحقيقيين والمستفيدين من أرباحها، وإعفائهم من دفع الضرائب، وحمايتهم من أية مساءلة قانونية محتملة، شهدت الأشهر الماضية نشاطًا مصريًا محمومًا لإنشاء عدد من شركات الواجهة، في شبكة تمتد بين جزر العذراء البريطانية ولوكسمبورج وسويسرا وهولندا، ولا تعبر الأراضي المصرية على الإطلاق.
رغم تعقيدها، فإن تتبع هذه الشبكة والكشف عن تفاصيلها لم يكن بالأمر العسير، ولم يستغرق أكثر من بضعة أيام، اعتمادًا على السجلات التجارية المتاحة في مصر ودول أوروبية. جميع المستندات المشار إليها في هذا التحقيق متاحة للعامة عبر الإنترنت، مجانًا أو مقابل سداد رسم يتراوح ما بين عشرة دولارات وخمسين دولارًا لشراء سجل الشركة الواحدة من السجل التجاري للبلد المعني. وتم تأكيد المعلومات الواردة في هذه المستندات عبر مقابلات أجراها «مدى مصر» مع مصادر على اطلاع مباشر على جوانب مختلفة من الصفقة، تحدثت بشرط عدم الكشف عن هويتها.
الطريق المعقدة نحو التعاقد مع إسرائيل
عندما قررت مصر مؤخرًا استيراد الغاز الإسرائيلي ظهرت الحاجة إلى رجل أعمال مصري ليلعب الدور الذي سبق وأن لعبه حسين سالم في عصر حسني مبارك، رجل الأعمال المقرب من السلطة والذي تم تكليفه بالتعاقد لتصدير غاز مصر إلى إسرائيل قبل ثورة يناير، في صفقة تم محاكمة جميع المسؤولين عنها في أعقاب الثورة بتهم التربح والرشوة وتكبيد مصر خسائر هائلة بسبب بيع غازها النادر لإسرائيل بأقل من السعر العادل.
هذه المرة وقع الاختيار على علاء عرفة، الطبيب السابق ورئيس شركة عرفة القابضة التي ورثها عن والده اللواء أحمد عرفة، الطيار العسكري السابق والصديق المقرب أيضًا لمبارك. كان علاء عرفة اختيارًا منطقيًا بالنظر إلى خبرته الطويلة في التعامل التجاري مع إسرائيل في مجال المنسوجات ضمن اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة (الكويز) الموقعة بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة في 2004، والتي تسمح للمنتجات المصرية بالدخول إلى الأسواق الأمريكية دون جمارك أو حصص محددة بشرط دخول نسبة من المكون الإسرائيلي في تصنيعها. وإلى جانب المنسوجات فإن شركة عرفة لاعب كبير في مجالات العقارات والزراعة والأسمنت والأغذية، وكذلك الطاقة.
مصدر مطلع على بدايات الصفقة ذكر لـ «مدى مصر» أن أهم ما يميز عرفة هو «قدرته على استثارة ثم استغلال شهية الإسرائيليين الهائلة لتعزيز تعاونها الاقتصادي مع مصر».
كان عرفة يملك بالفعل شركة واجهة خارج مصر تحمل اسم «دولفينوس القابضة»، قام بتسجيلها في الجزر العذراء البريطانية، إحدى الوجهات المفضلة للباحثين عن ملاذ ضريبي لتمرير أعمالهم من خلال شركات ورقية دون دفع ضرائب.
لم يستجب علاء عرفة لعدة اتصالات ورسائل من «مدى مصر» للتعليق على نتائج هذا التحقيق.
ووفقًا للمستندات التي حصل عليها «مدى مصر» فإن العملية تمت على النحو التالي:
الخطوة الأولى: تقرر إحياء نشاط دولفينوس واستعمالها كواجهة مصرية لاستيراد الغاز من إسرائيل. وفي ديسمبر 2015 منحت وزارة الطاقة الإسرائيلية مالكي حقلي ليفاياثان وتمار الإسرائيليين التصريح ببيع الغاز المستخرج منهما لحساب دولفينوس. (في تقريرها عن منح التصريح اختارت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عنوان: «وزير الطاقة يصرح بتصدير الغاز لحساب شركة مصرية مثيرة للشبهات» [كُتبت هكذا:«shady»]).
الخطوة الثانية: لأن عرفة لم يمتلك خبرة تُذكر في مجال الغاز الطبيعي، تقرر ضم عضو ثان إلى الفريق هو المهندس خالد أبو بكر، رئيس لجنة الطاقة في غرفة التجارة الأمريكية بالقاهرة، والرئيس التنفيذي لشركة «طاقة عربية» التابعة لمجموعة القلعة القابضة. (في رسالة نصية لـ «مدى مصر» قال أحمد هيكل، رئيس مجلس إدارة القلعة، إن شركاته غير منخرطة في صفقة شراء الغاز من إسرائيل سواء «بطريقة مباشرة أو غيرة مباشرة». وأكدت ثلاثة مصادر منفصلة أن هيكل رفض التورط في الصفقة، لذلك تقرر أن يلعب أبو بكر هذا الدور بصفته الشخصية وليس كممثل عن «طاقة عربية»).
اعتذر أبو بكر في رسالة نصية عن عدم الإجابة عن أسئلة «مدى مصر» نظرًا لسفره خارج البلاد.
دخل أبو بكر على الصفقة من خلال إقدام دولفينوس القابضة على إنشاء شركة تابعة في لوكسمبورج حملت اسم «بلو أوشن Blue Ocean». وتظهر أوراق تسجيل الشركة التي حصل عليها «مدى مصر» أن الشركة مملوكة بالكامل لـ «دولفينوس» القابضة، وتحمل الأوراق توقيع ثلاثة مديرين: علاء عرفة، وخالد أبو بكر، ومحمد طلعت خليفة عضو مجلس الإدارة والمدير المسؤول عن الاستثمار في شركة عرفة.
لماذا لوكسمبورج؟ في الأغلب لأنها تعتبر الملاذ الضريبي الأكبر في العالم، حيث تسمح للشركات بتحويل الأموال منها وإليها مع إعفاءات ضريبية هائلة ودرجة عالية من السرية. الأهم أن لوكسمبورج ترتبط باتفاقية لمنع الازدواج الضريبي مع إسرائيل، ما يعني أن عرفة وأبو بكر سيدفعان ضريبة قد لا تتجاوز 1% عن نشاطهما مع إعفاء إسرائيلي كامل من الضريبة على الدخل نفسه.
الخطوة الثالثة: كان لا بد من التحرير الكامل لقطاع الغاز الطبيعي المصري ليتمكن القطاع الخاص لأول مرة من استيراد وبيع الغاز الطبيعي في مصر. قدمت الحكومة مشروع قانون لتحرير التجارة في الغاز، وافق عليه مجلس النواب دون تعديل يذكر في يوليو 2017، وصدر بتصديق الرئيس عبد الفتاح السيسي بعدها بشهر واحد. بموجب القانون تحول دور الدولة إلى مجرد منظم لقطاع الغاز، وأصبح من حق الشركات الخاصة أيضًا استخدام الشبكة القومية لتوزيع الغاز الطبيعي وكافة منشآت البنية التحتية المملوكة للدولة في هذا القطاع.
أصبحت الطريق بذلك ممهدة لتشتري «دولفينوس» الغاز من إسرائيل ثم تبيعه لمصر. صدرت اللائحة التنفيذية لقانون الغاز الجديد في فبراير 2018 وبعدها بأسبوع وقعت «دولفينوس» اتفاق شراء الغاز مع ديليك الإسرائيلية ونوبل إنيرجي الأمريكية.
الخطوة الرابعة: لكن النظام الحالي، بخلاف مبارك، لم يكن ليترك الصفقة في يد علاء عرفة وخالد أبو بكر وحدهما، ولا ليسمح لهما بجني ثروة طائلة من وراء الاتفاق على غرار حسين سالم. فعلى عكس سالم، ضابط المخابرات السابق، فإن كلًا من عرفة وأبو بكر من المدنيين ومن عالم «البيزنس» الذي لا يثق فيه النظام الحالي كثيرًا.
دبلوماسي أجنبي مقيم في القاهرة قال لـ «مدى مصر» إن «الإسرائيليين يعلمون بالطبع أن عرفة ليس إلا مجرد وسيط fixer للدولة المصرية»، وأضاف أن «التقليد المستقر هو أن هناك دومًا ممثلون يثق بهم كبار رجال الدولة في الهيئات التي تدير مثل هذا الأمر، وعرفة ليس الرجل الأقرب للنظام في إدارة هذا الملف، خاصة وأن النظام لا يثق في مدنيين بالمطلق بما في ذلك حتى وزارة الخارجية».
لذلك، وعند هذه اللحظة ظهر دور محمد شعيب، الرئيس السابق للشركة القابضة للغازات الطبيعية والرئيس التنفيذي الحالي لشركة «غاز الشرق» المصرية التي يملك جهاز المخابرات العامة غالبية أسهمها (مع حصة صغيرة لكل من الهيئة المصرية العامة للبترول والشركة القابضة للغازات الطبيعية).
تواصل «مدى مصر» مع محمد شعيب للتعليق على محتويات هذا التقرير، لكنه اعتذر بكونه خارج البلاد. بينما طلب المتحدث باسم وزارة البترول، حمدي عبد العزيز، إرسال الأسئلة مكتوبة على تطبيق «واتساب»، وهو ما حدث بالفعل، ولم نتلق منه ردًا حتى موعد نشر هذا التحقيق.
في مايو 2018، بعد ثلاثة أشهر من توقيع اتفاق شراء الغاز الإسرائيلي، دخلت غاز الشرق (المخابرات العامة) في شراكة مع بلو أوشن -لوكسمبورج (عرفة وأبو بكر)، وأنشأ الطرفان شركة جديدة باسم «إنيرجي سولوشنز» Energy Solutions.
وقع الاختيار هذه المرة على سويسرا لتكون مقرًا للشركة. فبينما تمنح لوكسمبورج إعفاءات مريحة من ضرائب الأرباح الرأسمالية، فإن الشركة الجديدة تحتاج أيضًا لإعفاء من ضرائب النشاط التجاري، كشراء وبيع الغاز مثلًا، وليس أفضل في ذلك من سويسرا، وتحديدًا من مقاطعة زوج Zug التي تسجلت الشركة فيها، والتي تشتهر بكونها أفضل مكان في العالم في الإعفاء من ضرائب النشاط التجاري وتفتخر بذلك على موقع المقاطعة. ومثل لوكسمبورج، فإن سويسرا تربطها اتفاقيتان لتفادي الازدواج الضريبي مع كل من مصر (عام 1987) وإسرائيل (عام 2003).
يظهر السجل التجاري للشركة التي تسجلت في 17 مايو الماضي أن غاز الشرق تملك 40% من أسهمها، فيما تمتلك بلو أوشن الـ 60% الباقية. ولا يتجاوز رأس مال الشركة عشرين ألف دولار. ويضم مجلس إدارة إنيرجي سولوشنز -بحسب السجل- كلاً من محمد شعيب، رئيس غاز الشرق، وخالد أبو بكر وعلاء عرفة ونائبه محمد طلعت خليفة ورجل الأعمال المصري أحمد سمير عبد الفتاح غرس الدين.
هل تقرر أن تدخل غاز الشرق على الصفقة وأن تقتسم أرباحها مع رجال أعمال النظام لحسابها الخاص؟ لا يوجد حتى الآن ما يثبت ذلك. إلا أن تأسيس الشركة في وقت متزامن بالكامل مع اتفاق شراء الغاز الإسرائيلي ومع نفس الشركاء المصريين ووفق نظام قانوني يعفي من ضرائب النشاط التجاري، كلها مؤشرات على ترجيح هذا الافتراض.
الخطوة الخامسة: بعد توقيع الاتفاق بقيت عقبة واحدة أمام تدفق الغاز الإسرائيلي إلى الأراضي المصرية: إسرائيل لا تملك بنية تحتية لتسييل أو نقل الغاز إلى مصر. وإنشاء خط بحري بين البلدين أسفل مياه المتوسط سيكلف ثروة طائلة ويستغرق وقتًا طويلًا، وهو السبب الرئيسي لحرص الإسرائيليين الشديد على توقيع الصفقة مع القاهرة التي ستخلصها من ورطة عدم وجود مخرج لغازها الحبيس.
هنا ظهرت فكرة الاستحواذ على الأنبوب المملوك لشركة «غاز شرق المتوسط» من ملاكها من الإسرائيليين، والموجود بالفعل بين عسقلان الإسرائيلية والعريش المصرية، والذي كان يستخدم من قبل في تصدير غاز مصر إلى إسرائيل، ثم تعديله فنيًا ليضخ الغاز في الاتجاه المعاكس.
من سيربح الأنبوب؟
بعد أيام من توقيع اتفاق شراء دولفينوس للغاز الإسرائيلي في فبراير من العام الجاري، نقل «مدى مصر» عن مصدر قريب من الصفقة أن شركتي ديليك الإسرائيلية ونوبل إنيرجي الأمريكية «قد بدأتا التفاوض مع المساهمين في شركة «غاز شرق المتوسط» تمهيدًا لشراء حصص المساهمين في الشركة، وذلك حتى تمتلكان الحصة الحاكمة في الشركة لاستخدام خط أنابيب الغاز الواصل بين مصر وإسرائيل في توريد الغاز الإسرائيلي لمصر وفق الصفقة الجديدة».
ربما كانت هذه هي الخطة الأصلية، لكن تغييرات هامة طرأت عليها في ما بعد: فقد أدرك المسئولون في القاهرة أن صفقة الاستحواذ -في حال إتمامها- ستبقي على الحصة الضئيلة لمصر في ملكية «غاز شرق المتوسط»، وهي نسبة 10% من أسهمها تمتلكها الهيئة المصرية العامة للبترول. كما أن «شرق المتوسط» ستحصل في حال استخدام أنبوبها على رسوم نقل الغاز من عسقلان إلى العريش. فلماذا لا تحصل المخابرات العامة، ممثلة في شركتها الخاصة «غاز الشرق» على حصة من ملكية الأنبوب، وفي الوقت نفسه على جزء من رسوم النقل؟
هكذا تقرر أن تدخل غاز الشرق شريكًا مع ديليك ونوبل في مفاوضات الاستحواذ على «شرق المتوسط». من أجل ذلك قررت غاز الشرق تأسيس شركة جديدة باسم «سفينكس»، وسجلتها خارج مصر -في هولندا- ربما لأن القائمين على الأمر في القاهرة وجدوا أن دخول المخابرات العامة في شراكة مباشرة مع شركة إسرائيلية ليس بالأمر اللائق. وهولندا بالطبع هي أكبر معبر لأنشطة التفادي الضريبي في العالم في ما يخص ضرائب الشركات، فضلًا عن ارتباطها باتفاقيتين لمنع الازدواج الضريبي مع كل من إسرائيل (عام 1973) ومصر (1999).
يظهر السجل التجاري الهولندي لشركة سفينكس أنها قيدت منذ أقل من شهرين، في 31 أغسطس 2018. المسؤول الوحيد للشركة هو نفسه محمد شعيب، رئيس غاز الشرق، التي تملك 100% من الأسهم. رأس مال سفينكس ألف دولار فقط.
بعد أيام قليلة دخلت سفينكس (غاز الشرق/المخابرات العامة) شريكًا مع كل من ديليك ونوبل إنيرجي في شركة جديدة تسجلت أيضًا في هولندا باسم «إيميد» EMED، بنسبة 50% للشركة المصرية، وفقًا لمذكرة الإفصاح التي أرسلتها ديليك إلى البورصة الإسرائيلية. وفي نهاية سبتمبر أعلنت إيميد نجاحها في شراء حصة 37% من غاز شرق المتوسط (من رجلي الأعمال يوسي ميمان وسام زيل)، وحصة 2% من الشركة يملكها علي إيفسن، رجل الأعمال التركي (وواجهة حسين سالم تاريخيًا وربما الآن). بالتوازي حصلت الشركة المصرية كذلك على حصة إضافية من أسهم إيفسن تقدر بـ 9% من الشركة، مقابل التنازل عن كافة قضايا التحكيم المصرية ضده، والتي تم تحريكها في أعقاب ثورة يناير 2011.
كان محمد شعيب ذاته هو من اتخذ قرار وقف إمداد إسرائيل بالغاز عام 2012، حين كان رئيسًا للشركة القابضة للغازات الطبيعية. ونتيجة لهذا القرار الذي اعتبرته شركة غاز شرق المتوسط خرقًا للاتفاق أقامت الشركة ثلاث دعاوى تحكيم منفصلة ضد مصر: الأولى أمام غرفة التجارة العالمية طالبت فيها بتعويض بقيمة 1.6 مليار دولار؛ والثانية أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، طالبت فيها بتعويض بقيمة تتجاوز 800 مليون دولار؛ والثالثة أمام المحكمة المنشأة بموجب لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي طالبت فيها بما يقارب 757 مليون دولار.
بموجب اتفاق الاستحواذ، فبعد إضافة الأسهم المشتراة إلى الـ 10% التي تملكها الهيئة المصرية العامة للبترول أصبحت لدى الطرف المصري قوة تصويتية في مجلس إدارة شرق المتوسط تسمح بإسقاط قضايا التحكيم هذه ضد مصر، وهو ما كان شرطًا أساسيًا أعلنه المسؤولون المصريون مرارًا مقابل مساعدة إسرائيل على تصريف غازها الحبيس: الاستيراد مقابل الغرامات.
كما ينص الاتفاق الموقع بشأن الأنبوب على حق ديليك ونوبل في استعمال أنبوب آخر يربط بين العقبة الأردنية والعريش المصرية من أجل توريد أية كميات إضافية من الغاز الإسرائيلي في المستقبل.
ووفقًا لنص الاتفاق وكذلك للمصادر الرسمية المصرية، فإن من يملك خط أنابيب العقبة-العريش بالكامل هي، أيضًا، شركة غاز الشرق المصرية.
هكذا أصبحت شركة غاز الشرق (أو بالأحرى المخابرات العامة المصرية) شريكًا في ملكية خط الغاز مع إسرائيل، وشريكًا في الوقت ذاته لـ «دولفينوس» التي ستشتري الغاز الإسرائيلي، إلى جانب كونها المالك الوحيد لخط الغاز مع الأردن، والذي سيستخدم في نقل الغاز الإسرائيلي إلى مصر في حال تعرض الخط الإسرائيلي للهجوم في سيناء أو اكتشاف عدم صلاحيته فنيًا.
لا يتوقف الأمر هنا، فقد كشفت مصادر مطلعة على الصفقة النهائية لـ «مدى مصر» أن الخطة الآن هي أن تشتري دولفينوس (أو واجهتها بلو أوشن) الغاز من نوبل وديليك، ثم تبيعه في عسقلان إلى شركة غاز الشرق المصرية نفسها، والتي ستضخه عبر أنبوب شرق المتوسط إلى العريش، وهناك ستبيعه غاز الشرق إلى الدولة المصرية، ممثلة في الشركة القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس)، التي ستتولى استخدامه في مصر أو تصديره للخارج.
بذلك ستكسب شركة غاز الشرق (أو بالأحرى المخابرات العامة المصرية) لحسابها الخاص من رسوم نقل الغاز من إسرائيل إلى مصر عبر الأنبوب الذي أصبحت تمتلك حصة فيه، ثم ستكسب من إعادة بيع الغاز نفسه، بعد إضافة هامش ربح، إلى الحكومة المصرية، كما ستكسب من أي صفقة لنقل المزيد من الغاز الإسرائيلي من الأردن إلى مصر ثم إعادة بيعه للحكومة المصرية بهامش ربح بعد أن تكسب بالطبع رسوم نقل الغاز عبر أنبوب العقبة-العريش الذي تملكه.
ومع كل هذه الأرباح فإن الشركة المملوكة للمخابرات، والعدد المحدود من رجال الأعمال من شركائها قد نجوا من دفع الضرائب عبر تسجيل كافة أنشطتهم التجارية في ملاذات ضريبية مختلفة خارج مصر، فضلًا عن البقاء خارج مظلة مساءلة أو عقوبات القوانين المصرية بالكامل في حال حدوث أية تطورات سياسية غير متوقعة.
حكاية «غاز الشرق»
مثل بقية الشركات التجارية التي يملكها جهاز المخابرات العامة المصرية، فإن الجهاز لا يتعامل مع ملكيته لشركة غاز الشرق بوصفها سرًا جديرًا بالحماية المشددة، وفي الوقت نفسه فإن الجهاز كما جرت العادة لا يصرح علنًا بملكيته للشركة أو أسماء ملاك أسهمها والقائمين على إدارتها.
وباستثناء المقابلات المحدودة التي أجراها الرئيس التنفيذي للشركة محمد شعيب على مدار الأسبوعين الماضيين، لا توجد معلومات تذكر عن باقي مسؤولي الشركة -الواقعة في شارع النبوي المهندس بحي السفارات في مدينة نصر. لكن تبعية الشركة للمخابرات أمر معلوم بالضرورة لدى أغلب العاملين في نشاط تجارة ونقل الغاز في القطاعين العام والخاص على السواء.
لم يقابل «مدى مصر» أية صعوبة في استخراج نسخة رسمية من السجل التجاري لغاز الشرق (رقم 67352)، والذي يضم نشاط الشركة وأسماء أعضاء مجلس إدارتها وكل تغيير في عضوية المجلس منذ تسجيل الشركة في 2013.
تولى رئاسة مجلس إدارة الشركة عند تسجيلها الفريق عبد الوهاب سيد أحمد، نائب رئيس المخابرات العامة منذ عهد رئيس الجهاز عمر سليمان. وفي 2016 أصبح رئيس مجلس الإدارة هو اللواء طارق سلام، نائب رئيس الجهاز في عهد رئيسه السابق خالد فوزي. وبعد خروج سلام من الجهاز وتعيينه في العام الماضي سفيرًا لمصر لدى أوغندا (كما انفرد «مدى مصر» في أغسطس 2017)، حل محله الرئيس الحالي لمجلس الإدارة، اللواء إبراهيم عبد السلام، الذي جرى تداول اسمه في الصحف كمرشح لرئاسة الجهاز بعد الإطاحة بخالد فوزي في يناير الماضي وقبل أن يتم تكليف عباس كامل مدير مكتب رئيس الجمهورية بتولي رئاسة المخابرات.
وبحسب نسخة السجل التجاري الصادرة بتاريخ 3 أكتوبر الجاري، فإن عبد السلام كان لا يزال رئيسًا للشركة حتى وقت انعقاد آخر اجتماعات مجلس الإدارة في أغسطس الماضي.
إلى جانب تولي قيادات الجهاز مسؤولية إدارة غاز الشرق منذ تسجيلها، فإن السجل التجاري يظهر بوضوح أن غالبية مقاعد مجلس الإدارة -وبالتالي غالبية ملكية أسهم الشركة- تنتمي حصريًا إلى ضباط بالمخابرات العامة، يتم تعيينهم في مجلس الإدارة كممثلين عن «الشركة المصرية للمشروعات الاستثمارية»، المعروفة في عالم الأعمال بكونها الذراع التجارية للمخابرات العامة.
لا يؤدي البحث في المصادر المفتوحة إلى العثور على أي معلومات عن الشركة المصرية للمشروعات الاستثمارية باستثناء عنوان في شارع عبد المجيد الرمالي بمنطقة باب اللوق. لكن المعلومات المسجلة عن الشركة لدى قاعدة بيانات Orbis المملوكة لوكالة موديز للتصنيف الإئتماني (متاحة للبيع للجمهور) تشير إلى أن الشركة مسجلة منذ عام 1958. وفي يوليو 2013 كان يرأس مجلس إدارتها الفريق عبد الوهاب سيد، نائب رئيس جهاز المخابرات العامة وقتها، (ورئيس مجلس إدارة غاز الشرق في الفترة ذاتها)، وكانت أسهمها -وفقًا لتقرير أوربيس- موزعة بالنصف بين مالكين اثنين: السيد/ أحمد إبراهيم العوضي، والسيد/ محمد أحمد الجندي.
يقود البحث عن اسمي المالكين إلى شخصين لا يجمع بينهما سوى كونهما من قيادات حرب أكتوبر 1973 السابق تكريمهما من قِبل الدولة: اللواء أركان حرب/ أحمد إبراهيم العوضى، قائد سلاح الصاعقة السابق، وعضو مجلس النواب حاليًا عن حزب حماة الوطن ممثلًا عن دائرة السنبلاوين بالدقهلية، وعضو لجنة الدفاع والأمن القومي بالمجلس. واللواء طيار/ محمد احمد كمال الجندي من القوات الجوية، والحاصل على وسام النجمة العسكرية ونوط الواجب ونوط الشجاعة.
لم يستجب النائب اللواء العوضي لاتصالات ورسائل «مدى مصر» لشرح علاقته بالشركة.
يظهر السجل التجاري لغاز الشرق أنها بدأت نشاطها منذ عام 2006. وتبعية الشركة للمخابرات العامة، ودخول أرباح الشركة من التجارة في الغاز المصري إلى حسابات الشركة والجهاز وليس إلى الموازنة العامة للدولة، أمران مثبتان بملف محاكمة ستة من قيادات قطاع البترول في عصر مبارك، المعروفة بقضية فساد تصدير الغاز إلى إسرائيل (الجناية رقم 41 لسنة 2011). ففي محضر سؤال المتهم إبراهيم طويلة، رئيس الهيئة العامة للبترول الأسبق، قال طويلة للنيابة العامة إن شركة غاز الشرق كانت «الشركة الوسيطة الناقلة» للغاز المصري إلى الأردن قبل ثورة يناير، وأنها «كانت تحصل على نصف قيمة التعاقد مع الأردن» والبالغ قدره مليارًا وثمانمائة مليون دولار. وطبقًا لأقواله للنيابة فإن غاز الشرق «شركة مصرية مملوكة بنسبة 80% من أسهمها للأمن القومي المصري، في مقابل 20% من قطاع البترول». (في 2015 قضت محكمة جنايات القاهرة ببراءة جميع المتهمين).
ليس ذلك سرًا بطبيعة الحال. ففي أبريل 2015 نشرت صحيفة «المصري اليوم» مقابلة مطولة أجرتها مع رجل الأعمال -الهارب وقتها- حسين سالم في منفاه الاختياري في إسبانيا (قبل أن تعلن الحكومة المصرية في 2016 التصالح معه وإسقاط كافة الأحكام الصادرة بحقه مقابل رده مبلغ خمسة مليارات ونصف المليار دولار تقريبًا) ونشرتها الصحيفة تحت عنوان «حسين سالم: كل مشروعاتي بتوجيه من المخابرات». وفي المقابلة، وفي ما بدا وكأن هدفه إتاحة الفرصة لسالم لتبييض صفحته ونفي الاتهامات الموجهة إليه، سألته الصحيفة: «وهل كان إنشاؤك لشركات الغاز بتكليف من المخابرات؟» ليجيب سالم بصراحة ووضوح: «نعم، كلفني الجهاز بتأسيسي شركة الشرق للغاز لتصدير الغاز إلى الأردن، وتنازلت عن أسهمي في الشركة وكل ما دفعته فيها للمخابرات دون مقابل وعن طيب خاطر، ثم كلفت بتأسيس شركة البحر الأبيض المتوسط للغاز لتصدير الغاز إلى إسرائيل».
وفي ختام المقابلة سألت الصحيفة: «كل المشروعات التي نفذتها كانت بتوجيه من المخابرات، فهل هذه كانت سياسة للمخابرات في استخدام رجال الأعمال في بعض المشروعات؟» ليجيب سالم:
«طبعاً.. هناك إدارة في المخابرات أسستها أيام حرب الاستنزاف في الستينيات، تحولت إلى وحدة وهى متخصصة في عمل منظمات ومؤسسات تكون واجهة للجهاز، وهذا معروف في العالم…لأن ميزانيات أجهزة المخابرات ليس بها بنود للصرف على أشياء معينة، وهدف هذه المؤسسات تحقيق إيراد خارج الميزانية الرسمية».
هل حقًا «مصر جابت جون»؟
بعد يومين من الإعلان عن استيراد مصر للغاز الطبيعي الإسرائيلي في فبراير الماضي، وأثناء افتتاح الرئيس السيسي لمركز لخدمة المستثمرين تطرق السيسي إلى الصفقة في كلمة مرتجلة نقلتها قنوات التليفزيون، مجيبًا عن سؤال لم يطرحه أحد علنًا بشأن سبب الاستيراد من إسرائيل في ظل الحديث عن ضخامة إنتاج حقل «ظهر» المصري في البحر المتوسط: «فأنا لقيت الناس يعني إيه، مممم، يعني مستغربة، إزاي إنت بتقول حقل ظهر، وهايحققلنا الاكتفاء الذاتي، وفي نفس الوقت انت، هتجيبوا غاز من حتة تانية [يقصد إسرائيل دون تسميتها]… ما إحنا لو نجيب من حتة تانية، هانجيب طبقا لآليات السوق، يا رب توصلكوا القصة دي.. يعني هانشتري بكام؟ مش كدا؟ هانشتري بكام؟ إنتو عارفين إحنا بنشتري إزاي حاجتنا؟ عارفين؟ (يضحك) لا ده إحنا بفضل الله سبحانه وتعالى، وأنا مش بقول كلام أرجو إنه يصل ليكو، لا إحنا جبنا جون، إحنا جبنا جون يا مصريين في الموضوع دوّت. مش كده ولا إيه؟» لتشتعل القاعة بالتصفيق.
ربما جاءت كلمات السيسي تلك للرد على حرج قد يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو قد تسبب فيه للحكومة المصرية، حين خاطب بدوره الإسرائيليين بالفيديو في نفس يوم توقيع الصفقة قائلًا: «هذه الاتفاقية ستدخل المليارات إلى خزينة الدولة وستصرف هذه الأموال لاحقا على التعليم والخدمات الصحية والرفاهية لمصلحة المواطنين الإسرائيليين». وهي الكلمة التي اختتمها بالقول: «هذا هو يوم عيد».
أما السيسي فقد عاد في ختام كلمته نفسها ليلخص ما يقصده بشأن صفقة الاستيراد من إسرائيل: «وبقولكو إنت ما تعرفش الشركات القطاع الخاص اللي اشترت دي، هو في حد في القطاع الخاص بيخسر؟ هو في حد بيخسر في القطاع الخاص؟ (يضحك) ده هم اشتروا الغاز ده بشطارة أكتر ما إحنا كدولة نقدر نشتريه، بصراحة يعني».
وبصرف النظر عن الإشارة المتكررة إلى «آليات السوق» وإلى «القطاع الخاص»، فربما كان السيسي يظن وقتها بالفعل أن مصر حصلت على الغاز الإسرائيلي «بشطارة» وبفضل مهارة المفاوضين المصريين من القطاع الخاص. وربما كانت هذه هي المعلومات التي قدمتها له الجهات التي قامت بالتفاوض. لكن المؤكد هو أن المفاوضين أنفسهم، والذين قاموا بتوقيع الصفقة مع شركائهم الإسرائيليين، يعرفون أن هذه «الشطارة» محل شك، على أقل تقدير.
ففي يوم 31 يوليو 2018، تلقى محمد شعيب، الرئيس التنفيذي لغاز الشرق، تقريرًا بالإنجليزية من إعداد بنك الاستثمار «سي آي كابيتال» يحمل عنوان «مستقبل الغاز الطبيعي في مصر: تطورات القطاع تعيد التأكيد على حدوث عجز على المدى الطويل».
يعد سي آي كابيتال أحد أكبر ثلاثة بنوك استثمار عاملة في مصر (إضافة لإي إف جي هيرمس وبلتون). كما أن البنك مملوك لعلاء عرفة وشركاء آخرين استحوذوا عليه عام 2016 في صفقة بقيمة 683 مليون جنيه.
حصل «مدى مصر» على نسخة من التقرير غير المعد للنشر، والذي يشير في مطلعه إلى أنه أُعد خصيصًا من أجل محمد [شعيب] خليفة.
يتضمن التقرير تحليلًا مفصلًا لصفقة استيراد الغاز الإسرائيلي، وجاء فيه بالنص أن السعر الذي ستحصل به مصر على الغاز الإسرائيلي «مكلّف pricey». مضيفًا أن «القيمة التقديرية للاتفاق وهي 15 مليار دولار…مقابل 64 مليار متر مكعب ستترجم إلى سعر 6.5 دولار لكل وحدة حرارية وسُتدفع مباشرة إلى ديليك للحفر ونوبل إنيرجي وحدهما، بخلاف نفقات النقل والتوزيع المطلوبة لتوصيل الغاز إلى المستخدم النهائي».
ويستنتج التقرير أن هذه التكلفة سوف تعني بيع الغاز للمستهلك النهائي بسعر «يتراوح بين سبعة ونصف أو ثمانية دولار للوحدة الحرارية، وفقًا لحساباتنا»، مقارنة بتكلفة إنتاج الغاز المحلي في مصر (بين 1.75 دولار و3.5 دولار للوحدة الحرارية بعد اقتسام النفقات مع الشركاء الأجانب)، أو بسعر بيع الغاز في أوروبا (5.8 دولارًا للوحدة الحرارية).
وفي ضوء تلك التكلفة، يختتم التقرير تحليله برسم توضيحي تحت عنوان «السعر المرتفع للاتفاق يعني أن من غير المتوقع أن تتم إعادة تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا من وجهة نظرنا»، حيث يظهر في الشكل الفارق بين سعر استيراد مصر للغاز الإسرائيلي وسعر بيع الغاز في أوروبا:
بينما يكشف هذا الجدول الوارد في التقرير عن الفرق بين تكلفة إنتاج الغاز في مصر، وسعر استيراده من إسرائيل، ومقارنة بسعر بيعه في كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان.
تواصل «مدى مصر» هاتفيًا مع كبير المحللين الذي قام بإعداد وكتابة تقرير بنك سي آي كابيتال لحساب محمد شعيب وغاز الشرق، لكنه رفض الإجابة عن أية أسئلة بخصوص التقرير نظرًا لأن «سياسة البنك هي عدم الإدلاء بأي تصريحات للصحافة واقتصار تقاريرنا على العملاء من المستثمرين» على حد قوله. وأضاف المحلل -الذي نحتفظ باسمه- «موضوع الغاز بالتحديد لا نريد في الوقت الحالي الحديث عنه إطلاقًا».
ربما كان السبب هو أن التقرير يكشف أن عميل البنك محمد شعيب، الذي ذكرت المصادر أنه سافر بنفسه إلى إسرائيل للتفاوض بشأن الصفقة، كان يعلم أن تكلفة الاتفاق الذي أبرمه ليست في صالح مصر من الناحية الاقتصادية، على الأقل بحسب ذلك التقرير.
وقد يكون السبب أيضًا أن التقرير يحمل الكثير مما يمكن أن يزعج الحكومة في ما يتعلق بنيتها إعلان اكتفاء مصر ذاتيًا من الغاز الطبيعي المسال (صدر الإعلان بالفعل في 29 سبتمبر). فتقرير سي آي كابيتال يقدر أن ذلك الاكتفاء الذاتي لن يستمر لأكثر من عام أو اثنين قبل أن تعود مصر للاستيراد من جديد (وهو نفس السيناريو الذي شهدته مصر من قبل حين أعلنت الاكتفاء الذاتي لفترة محدودة عام 2004 قبل أن تعود لاستيراد الغاز بشراهة).
ويقول التقرير إن الإمدادات المحلية من الغاز، بما في ذلك إنتاج حقل ظهر «ورغم ضخامته، سيتم ابتلاعها بالكامل» بسبب إحلالها محل واردات مصر الضخمة من الغاز المسال، ونمو احتياج الطلب المحلي على الغاز، والحاجة إلى إحلاله محل المازوت المستخدم حاليًا في تشغيل محطات الكهرباء بآثار سلبية اقتصاديًا وتقنيًا، فضلًا عن الانخفاض التدريجي الحتمي في إنتاج حقول الغاز الأخرى بخلاف ظهر.
وهنا يظهر الفارق بين الغاز المتاح في مصر مقارنة باحتياج مصر إليه خلال السنوات القليلة القادمة:
في صيف 2018 رفعت الحكومة سعر الغاز الطبيعي المقدم للمواطنين في المنازل بما يقارب 50%. لكن التقرير يتوقع استمرار خفض الدعم الحكومي للغاز واستمرار رفع سعره على المواطنين. ومع تحقق التحرير الكامل لسعر بيع الغاز المصري للمواطنين دون دعم حكومي، فإن التقرير يتوقع تحمل المستهلكين في المنازل لزيادة عن السعر الحالي بنسبة قدرها 127%.