تابعت مع ملايين المصريين أخبار المخترع الصغير، وليد عبادي، واختراعه العظيم للمفاعل النووي ال بيشتغل بالطاقة الشمسية، وإزاي الاختراع دا هيغير مستقبل مصر، وابتكاره لمنظومة مضادات مغناطيسية لمنع وصول الصواريخ للطائرات الحربية، وغيرها من الاختراعات المذهلة.
وتابعت احتفاء الصحافة ووسائل الإعلام ال بقت تابعة تماما لأجهزة المخابرات – تابعت احتفاءها بالكيان العلمي وبمشروعه “اختراع مستقبل مصر”.
وتابعت كمان الأخبار الأخيرة ال بتشكك في إن الصبي دا ممكن يكون اكتشف حاجة ذات قيمة، وإزاي طلع إن الجوايز الدولية ال نالها ما لهاش وجود من الأساس، وإن ما لوش علاقة بنادي أرشميدش للعلوم (ال فعلا بيدي جوايز محترمة)، وإن الجايزة الوحيدة ال حصل عليها عن جدارة (يعني مش فنكوش) كانت تتعلق بالآفات الزراعية، علما بأن والده، الدكتور محمد أحمد عبادى، بيشتغل أستاذ قسم البساتين بكلية الزراعة جامعة دمنهور.
والحقيقة أنا ما استغربتش أبدا من احتفاء الصحافة بابتكارات ما لهاش وجود، ولا بالمخترع ال ما اخترعش حاجة، فبعد ال شفناه من جهاز الكفتة، وبعد تأكيد مدير المتحف الحربي على إن أهم معارك الجيش المصري عبر العصور “كانت معركة حطين ال خاضها الملك رمسيس الثالث ضد الحيثيين” (معركة حطين كانت بين صلاح الدين الأيوبي والصليبيين سنة ١١٨٧ ميلادية، وما لهاش علاقة برمسيس الثالث أو أي رمسيس تاني)، وبعد اعتماد الجيش على خبير في طب الأعماق علشان يؤكد علـي اشتراك الجيش المصري في الحرب العالمية الأولى (ال هو ما اشتركش فيها أصلا) — بعد كل الفناكيش دي مش غريبة فعلا إن كل وسائل الإعلام تحتفي بالكيان العلمي ال خرج من ضلع واحد.
لكن بعيدا عن التريقة على الهبد دا، وإضافة للسؤال المهم ال صفحة “الموقف المصري” طرحته عن السبب ورا غياب أي حس نقدي للصحافة، أنا عاوز أطرح سؤال جاد: إيه هي الطريقة المثلى ال ممكن الدولة بيها تشجع العلم والبحث العلمي عند الشباب والصبايا ال في سن وليد عبادي؟ يعني حتى بافتراض حسن النية، وبافتراض إن الولد بالفعل وصل لاكتشافات مذهلة، إيه ال الدولة ممكن تعمله علشان تحتفي بيه غير إنها تكرمه وتتصور معاه؟
باطرح السؤال دا وأنا في بالي قصة صبي تاني في عمر وليد تقريبا. الصبي التاني اسمه وليام جاداوري، كندي عايش في بلدة صغيرة في ولاية كيبك في كندا. في مايو ٢٠١٦ وليام اسمه ظهر وانتشر في العالم كله، مش بس في كندا، ودا كان لأنه قال إنه اكتشف مكان مدينة قديمة من حضارة المايا (في المكسيك حاليا). المدينة دي اندثرت من زمان، وما كانش معروف مكانها لأن الغابات والأدغال طمرتها تماما. لكن وليام، الشغوف بالخرايط والأطالس القديمة، تمكن من تحديد موقع المدينة دي.
https://www.youtube.com/watch?v=RLhx3p2YpBM
من ضمن المصادر ال اعتمد عليها وليام “أطلس” قديم اسمه “مخطوطة مدريد” يعود لعصر ما قبل كولومباس وهو عبارة عن ٥٦ لوحة مرسوم ومكتوب عليها من الوجهين، وتشمل كتابات ورسومات عن الأبراج والمواقيت كان الكهنة في حضارة المايا بيستخدموها في طقوسهم وقرابينهم الدينية.
وبعد دراسته للـ”خرايط” دي، ال هي في الحقيقة خرايط فلكية بتوضح أماكن الأفلاك والأبراج، اعتقد وليام إنه لقى جواب علي سؤال كان بيلح عليه: ليه المايا كانوا بيبنوا مدنهم في أماكن بعيدة عن الأنهار والسواحل؟ دراسته لعلم الفلك بتاع المايا أعطته حدس مهم: مواقع مدن المايا كانت تقابل الأبراج والنجوم.
في سنة ٢٠١٤ (وكان عمره وقتها ١٤ سنة) وليام قدم بحث في معرض سنوي للعلوم في مدينة كيبك. في بحثه درس ٢٢ برج وقارنهم بموقع ١١٧ مدينة أثرية من المايا، ولقى إن بعض المدن دي مواقعها متطابقة مع شكل بعض الأبراج. وبناء على النظرية دي قال إنه يعتقد بوجود مدينة قديمة مندثرة تحت الغابات الكثيفة، وقدر يحدد مكانها من غير حتى ما يروح هناك.
هنا بقي الحبكة: لما وليام جاداوري قدم البحث دا في المعرض العلمي استمع ليه مندوب من وكالة الفضاء الكندية، وعرض عليه إنه يقدمه للمسئولين في الوكالة.
المسئولين استقبلوا وليام بحفاوة وقرروا يساعدوه، مش بتكريمه ولا باستضافته في برنامج حقائق وأسرار بتاع التليفزيون الكندي، لكن بإعطاءه صور التقطها القمر الصناعي “رادارسات ٢” بتاع وكالة الفضاء الكندية، للموقع ال تنبأ وليم وجود المدينة المندثرة فيه.
وبالفعل أظهرت الصور ال التقطها القمر الصناعي علامات لوجود المدينة تحت الغابات الاستوائية الكثيفة.
نظرية وليام جادوري ثبت خطأها فيما بعد، وطلع علماء آثار وأنثروبولوجي وفلك يدحضوا ادعاءاته، ويقولوا إن قراءته لـ”خرايط” المايا قراءة سطحية وغير علمية، وإن ما فيش دليل علمي يؤكد على إن ما أظهرته صور القمر الصناعي مدينة قديمة. ومنهم ال قال إن من جايز جدا إن ال الصور بتوضحه مزرعة ماريجوانا مش مدينة قديمة.
مجلة ناشيونال جيوجرافيك عملت مقابلة مع وليام بعد ما ثبت خطأ نظريته. في المقابلة وليام رد بطلاقة عن الأسئلة وما بانش عليه الإحباط ولا الأسف. ولما الصحفية سألته إذا كان عنده حاجة يقولها للطلبة الصغيرين ال العلماء المخضرمين بيشككوا في أبحاثهم، فقال “بقول لهم يتطلعوا لأبعد الحدود، وما يبطلوش شغل، وما يتخلوش عن أحلامهم.”
وبالفعل واحد من الأركيولوجيين المتخصصين في المايا عرض على وليام إنه يروح معاه للأدغال للتنقيب عن المدينة المفقودة. وطبعا وليام فرح بالعرض دا.
الشاهد في القصة دي إن وليام جاداوري، بالرغم من إن نظريته ما ثبتش نجاحها، إلا إن الدولة، بصحافتها ومؤسساتها العلمية وشخصياتها العامة ومجتمعها العلمي، احتفوا بيه وبعقليته وشغفه بالعلم وبالتاريخ، لدرجة إن وكالة الفضاء الكندية، بجلالة قدرها، وجهت قمر صناعي ضخم وعملاق، علشان يلتقط صور تخدم وليام وتثبت نظريته.
دي هي طريقة تشجيع الشباب وحثهم على الإقبال على العلم: تكريس طاقة الدولة ومؤسساتها لخدمة الشباب والصبايا دول، حتى لو وصل الأمر لأعطاء معلومات دقيقة وحساسة لهم ممكن يكونوا محتاجينها لدراستهم ولأبحاثهم.
فلو احنا جادين بالفعل في تكريم ولادنا وبناتنا علي الإبداع والتفكير العلمي فدا ما يكونش باستضافتهم في برامج تليفزيونية مضللة ولا بالاحتفاء بجوايز ما أخدوهاش، ولكن بفتح المكتبات، وبإقامة المتاحف، وبإتاحة أكبر قدر ممكن من المعلومات، وبالتأكيد على حرية الحصول على المعلومات وتداولها.
الشباب بيبدع مش بغرز قيم الانتماء وتقبيل الأيادي، ولكن باحترامهم وبتشجيعهم على التمسك بأحلامهم.
https://www.youtube.com/watch?v=h1e33nkTbwE