Press "Enter" to skip to content

المعددة والطاعون

في عام ١٨٣٥ اجتاح الطاعون البلاد، وفي غضون شهور قليلة سقط ٢٠٠ ألف شخص صرعى ذلك الوباء الفتاك في وقت كان عدد السكان لا يكاد يتجاوز أربعة ملايين نفس.

وكان الوباء على أشده في المحروسة (أي القاهرة) التي فقدت ربع سكانها في غضون شهور قليلة، وفي أشد فترات الوباء فتكا بلغ عدد المتوفين ٧٠٠ و٨٠٠ في اليوم الواحد.

وتعددت الجنازات التي كانت تخترق أزقة المدينة وشوارعها، والتي كانت تذكرهم بحتمية الموت وقربه.

ولم تكن الجنازات مناسبات رهيبة بقدر ما كانت مشاهد صاخبة يتخللها نواح الندابات والنائحات اللاتي كن يسرن خلف الجنازات ويصحن بكلمات اختيرت بعناية ومهارة لاستدرار الدموع والبكاء.

ومن أمثلة الندب للفتيان:

قنديل منور انطفى ضيه

سوق البحيرة ما التقاش زيه

ومن أمثلة الندب للبنات والفتيات:

حريرهن لبسوه وانت حريرك في التراب حطوه

 حريرهن زاهي، وانت حريرك غبّره السافي

حريرهن يزهي، وانت حريرك غبّره اللحدِ

عزالك جديد، ما ترفعي تلميه

عجاج اللحود غبّر الل فيه

ومش عزومة دا اللحد نازلة فيه

عزالك جديد، ما ترفعي أكمامك

مهاش عزومة دا اللحد نازله له

 

كان الندب ممارسة قديمة، ولم تظهر الندابات فجأة في القرن التاسع عشر. ولكن في أعقاب اندلاع الوباء وازدياد معدلات الوفيات اليومية صدرت الأوامر بضرورة التصدي لهذه العادة القديمة. ومن اللافت للنظر أن من تصدى للندابات لم يكن المشايخ ورجال الدين بل الأطباء ورجال الصحة العامة. فمدرسة الطب البشري (قصر العيني) كانت قد أسست عام ١٨٢٧ وبدأت في تخريج أوائل طلابها، فتعاون هؤلاء الخريجين الجدد مع أساتذتهم الأوربيين في صب جام غضبهم على الندابات وعلى حرفتهن القديمة.

فقد شاعت نظرية طبية كانت ترى أن الخوف والجزع يضعفان البنية، وبالتالي يجعلان الجسم أكثر عرضه للإصابة بالوباء. وبما أن تزايد معدلات الجنازات في اليوم الواحد كان يصيب الناس بالذعر، ونظرا لاستحالة منع الجنازات، فقد تقرر استهداف الندابات والعمل على منعهن من ممارسة مهنتهن.

وفيما يلي نص قرار بهذا المعنى صدر في أوج احتدام الوباء في مايو ١٨٣٦:

“خلاصة من مجلس مُلكية في ٢٩ محرم ١٢٥٢ لديوان خديوي وديوان أشغال المحروسة وضابط بك [أي مدير أمن المحروسة]:

إنه على مقتضى الأمر العالي الصادر لحضرة ناظر المجلس بناء على القرار العالي السابق إعراضه على الأعتاب السنية من مجلس مُلكية قد استقر الرأي به من مقتضى الحكومة والديانة منع قلق الجيران الذين بجوار منزل المتوفي من الصريخ والأصوات الحاصلة من الحريمات المعددات أنواعا كصوت الحمار الكريه. فيصير جلب مشايخ الحارات والأثمان ونظار الأربع بديوان أشغال المحروسة، وتنبه عليهم فرداً فرداً بأنه من الآن وصاعدا إذا كان يصير استماع صوت وصريخ معددة بمنزل أحد المتوفين في أي حارة كانت فيصير إجرا [معاقبة] شيخ تلك الحارة بدون إهمال، وكذا تنبه على من يلزم لعدم حصول أصوات وصريخ من أحد المعددات المذكورة من خلف الجنازات بالأسواق وغيره، وعدم سماع صوت كريه مثل ذلك كليا بمنازل المتوفين. وإذا كان لا يزال بعض النسا قليلين الأدب لم يصير منهم الإصغا بذلك ويتصدوا في إجراء أفعالهم هذه القبيحة والكريهة يضبطوا ويرسلوا إلى الديوان الخديوي، وبمعرفته يجري حبسهم أول دفعة في منزل أمام القلعة، وفي الدفعة الثانية إذا ضبطوا يرسلوا إلى جهة الصعيد.”

دار الوثائق القومية، مجلس الأحكام، سجل س/٧/٣٣/١ ، ص ٢٢٥، في ٢٩ محرم ١٢٥٢ هـ / ١٦ مايو ١٨٣٦ م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.