نُشر في “فيسبوك” في ٨ يناير ٢٠١٧
بؤس إننا نبقى مُخيرين بين ضحالة البرادعي وقذارة أحمد موسى.
اتفرجت على حلقة البرادعي واسترعى انتباهي قد إيه احنا (أو على الأقل أنا) كبرنا ونضجنا في الست سنين ال فاتوا.
أنا أتذكر أول مرة سمعت البرادعي سنة ٢٠١٠ وقد إيه انبهرت بيه. وقتها لما كان حد يتكلم عن الحقوق والحريات والدستور وضرورة التخلي عن حكم الفرد كنا بنعتبره ثوري، وإن الكلام دا عداه العيب. إنما بعد السنين دي، بل من أواخر ٢٠١١، والأحداث سبقت البرادعي وهو واقف محلك سر لسه بيتكلم عن الحكم الرشيد!! الراجل نزيه وأمين، أيوه. باحترم أخلاقه ونزاهته، أيوة برضه، إنما أأتمنه على مستقبل بلد أو حتى اهتدي بآرائه؟ طبعا لأ.
يعني مثلا، وعلشان ما يكونش الكلام في المطلق، حديثه عن ناصر وعن هزيمة ٦٧ المروعة وإزاي انها كانت نتيجة غياب الحكم الرشيد ينفع تغريدة من تغريداته، أو، وعلشان أكون كريم، ينفع بداية حديث. إنما ما ينفعش أنهي تحليلي عن أهم حدث في تاريخ مصر الحديث بالبقين دول. المذيع حاول يشجعه إنه يطور الفكرة، إنما هو فضل متمسك برأيه إن عبد الناصر همّش شعبه واعتمد على زمايله من القوات المسلحة، بالرغم من وجود كفاءات وخبرات في البلد، وشاور على نفسه وقال “خبرات زي والدي” (أو حاجة مشابههة).
أنا مش مختلف مع الفكرة دي مبدئيا، لكن إني أنهى تحليلي لـ٦٧ بالكلام دا يبقى تهريج. دا كلام ما يختلفش كتير عن مقولة أن عبد الناصر استعان بأهل الثقة واستبعد أهل الخبرة، ال، بالناسبة كانت بتتقال وقت عبد الناصر نفسه، ومش في السر ولا انتقاد، لأ دي كانت سياسة دولة وبتتقال بوضوح من أواخر الخمسينات. يعني ال يقول كدا النهار دا ما يكونش جاب التايهة.
السؤال بقى هو: مش “عبد الناصر عمل كدا إزاي؟” إنما “عبد الناصر عمل كدا ليه؟ إيه الظروف ال أجبرت عبد الناصر على تنحية أهل الخبرة جانبا؟” أو “ليه عبد الناصر، ال كان مدرك الأخطار المحدقة بالبلد والتحديات ال بيواجهها، اضطر في النهاية إنه ينحي الكفاءآت ال مالية البلد وحط البلد على المسار ال ودّاها في كارثة ٦٧؟”
أنا مدرك إن البرادعي مش مؤرخ، لكن دا مش سؤال بتاع مؤرخين، دا سؤال سياسي في المقام الأول، وهو واحد بيسترجع ذكرياته عن الفترة العصيبة دي، وأنا كمواطن مستني أسمع منه أفكاره عن اللحظة المحورية دي من تاريخنا، والدروس ال اتعلمها منها. إنما تمخض الجبل فولد فأرا: غياب الحكم الرشيد.
أنا بأتساءل التساؤلات دي لأني بقى لي يومين بأقرأ عن الاجتماع الشهير، والهزلي/درامي، ال عبد الناصر عمله يوم ١٧ مايو ١٩٦٧ وال دعا له أعضاء مجلس قيادة الثورة القديم. سبب اهتمامي بالموضوع دا هو اهتمامي بتاريخ تيران وصنافير ومحاولتي الإجابة على السؤال الأزلي ال كلنا بنسأله: إزاي الجيش ال حارب وضحى في سبيل الدفاع عن الأرض دي يتخلى عنها بالسهولة دي؟
فرجعت للاجتماع دا، وبقى لي يومين بأقرأ هيكل وفوزي وغيرهم عن ال حصل في الاجتماع دا، وإزاي اتُخذ قرار إغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائليلة بالرغم من إدراك عبد الناصر (ومعاه هيكل) إن القرار دا هيرفع احتمال الحرب لـ١٠٠٪ مع كون الجيش مش جاهز. يومها ما فيش غير صدقي سليمان، رئيس الوزراء، ال اعترض. والأصوات التانية ال كانت مترددة حسمت أمرها بعد عبد الحكيم ما قال إنه ما يقدرش يضمن جنوده طالما هم دا الوقت في شرم الشيخ وشايفين السفن الإسرائيليلة بتمر من تحت مناخيرهم.
البرادعي ما تتطرقش للاجتماع دا في حديثه مع تليفزيون العربي، لكني كنت باستمع ليه وأنا في بالي الاجتماع دا ونتيجته الكارثية. حسب منطق البرادعي، قرار إغلاق مضيق تيران ال أدى للحرب كان قرار غلط، وإنه نتيجة للحكم غير الرشيد ال عبد الناصر اتبعه. وبمعنى من المعاني، دا صحيح، فما فيش مراجعة من مجلس الأمة (ال كان رئيسه وقتها أنور السادات)، وما فيش مناقشة من الصحافة (ال كانت أتأممت)، وما فيش تقديرات دقيقة وحقيقية من المخابرات الحربية عن العدو (ال كانت مشغولة في التجسس على الجيش المصري).
لكن ال غايب عن التحليل دا ، وعن رؤية البرادعي، هو أي كلام عن الهيكل المؤسسي ال بتُتخذ فيه القرارات المصيرية دي. يعني ما فيش تحليل لمؤسسات الدولة وطبيعة عملها، مش رجالها وأخلاقهم. وتحديدا ما فيش تحليل للصراع الأزلي بين عبد الناصر وعبد الحكيم، وإزاي عبد الحكيم، بسيطرته على الجيش والمخابرات الحربية وأجهزة المخابرات التانية قسم البلد اتنين، وكان مش بس بيناوئ عبد الناصر من سنة ٥٧ (إن ما كانش من قبل كدا)، إنما زنقه لحد ما أجبره على تصعيد الأمور للحرب وطمّنه إن الجيش جاهز (عبارة “برقبتي يا ريس” الشهيرة)، واحتمى بالجيش وبالمخابرات وبالدولة داخل الدولة ال قعد يبني فيها من سنة ٥٧.
في رأيي ٦٧ ال احنا لسه عايشين نتيجتها لحد النهاردا، وال ذكراها الخمسين هتعدي علينا كمان كام شهر، محتاجة مننا تحليل أعمق وأدق من ال البرادعي قادر عليه.
والكلام دا ينطبق على حاجات تانية تتطرق ليه البرادعي من أول الاعتراض على القرار اللاتيني بسحب القوات، لاتفاقية فك الاشتباك التانية، لزيارة السادات للقدس، إلخ
وبالمناسبة دي أحب أشير لشغل حازم قنديل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة كامبريدج، ال في رأيي بيقدم تحليل ممتاز للتطور التاريخي للدولة المصرية على مدار الخمسين سنة ال فاتوا. حازم نشر ثلاث كتب من وقت قيام الثورة (ثورة يناير مش انقلاب يوليو) لحد النهار دا، وبيقدم فيهم تحليل دقيق لآليات الدولة ومؤسساتها. وفي كتابة الأخير، مثلث القوة، بيشرح تطور الصراع بين الجيش والأجهزة الأمنية والنظام السياسي في مصر على مدار الخمسين أو الستين سنة الماضية.
حازم برضه لسه ناشر حديث غاية في الأهمية في النيو لِفت ريفيو أهم بكتير من مقال هسلر بتاع النيويوركر. حديث حازم هنا:
تعليق أخير بخصوص تسريبات أحمد موسى. دا برضه دليل إضافي لدقة تحليلات حازم قنديل: الدولة المصرية ما فيهاش طبعا حكم رشيد، زي ما البرادعي بيقول. دا غني عن البيان. ولا الدستور ولا القانون بيستحقوا الحبر ال مكتبوبين بيهم. دا برضه غني عن البيان. ومؤسسات الدولة مستعدة تضحي بالدستور والقانون والحريات علشان يحرجوا راجل فعلا ما عندوش حاجة يضيفها. دا برضه غني عن البيان. والتضحية بالدستور والقانون والحريات تكلفتها عالية مش بس على الدكتور البرادعي وأنصاره، إنما على الدولة نفسها. دا برضه واضح (أو المفروض يكون واضح).
طيب نفسر دا إزاى؟ ما ينفعش نقول إننا ما عندناش حكم رشيد، لأن دا زي ال بيفسر الماء بعد الجهد بالماء.
أحسن تفسير ممكن استنتجه من قراءتي لحازم قنديل هو إننا بنشهد الفصل الأخير من فصول صراع الأجهزة والمؤسسات في مصر. الصراع النهار دا مش بين الدولة واستقرارها وديمومتها من ناحية، وبين الثوار والحكوكيين والبوب، من ناحية تانية. الصراع واضح إنه جوا تلابيب الدولة نفسها وبين أجهزتها. صراع بين الرئاسة والجيش والمخابرات الحربية والأمن الوطني والإعلام والبرلمان. وال مزنوق في النص بين صراع الجبابرة دول، وال هيدفع تمن الخناقة دي، هو احنا، الشعب، زي بالظبط ما حصل لنا في ٦٧.
كلام البرادعي بيلخص الموضوع او بيجمل حضرتك والاستاذ خالد قنديل بتفصلوا الموضوع في النهاية الحكم غير الرشيد هو مايدمر الدولة المصرية ويمزقها