عرض لكتاب “السعي للعدالة” بقلم محمود الورداني، نُشر في مدى مصر بتاريخ 19 سبتمبر 2022
للمؤرخ والمفكر الكبير خالد فهمي مشروع كبير وممتد في التاريخ المصري، لتأسيس معرفة متكاملة للجذور التي ﻻ نزال نعيش في تأثيراتها إلى هذا الحد أو ذاك، متخذًا من حكم الباشا محمد على نقطة انطلاق، وعكف بدأب وهمّة على الوثائق والسجلات الوفيرة المحفوظة في دار الوثائق القومية، والتي تعد كنوزًا ما زالت تنتظر من يفض مغاليقها، ويبذل الجهد الأسطوري لتفكيك لغة مطلع القرن التاسع عشر التي تختلط فيها عامية ذلك الزمان، بلغة الأوامر والمكاتبات الرسمية وتحقيقات أجهزة الضبط والرقابة والإدارة.
يعود جهد د.فهمي إلى سنوات طويلة، على الأقل قبل عام 2001 عندما صدر كتابه «كل رجال الباشا»، وترجمه د.شريف يونس، ترجمة محترمة حقًا. الكتاب في الأصل رسالة فهمي للدكتوراه، التي حصل عليها من جامعة أوكسفورد، ورأى البعض محتواها باعتباره تحديًا للنمط الوطني السائد في الكتابة التاريخية، الذي يركّز على تاريخ الحكام والقادة، بينما غاب تاريخ «الأنفار» من الرجال والنساء، هؤلاء الذين تم تجاهلهم وتغييبهم، من العساكر والمصريين العاديين «العوام»، بينما تركزت معالجة فهمي على الجيش المصري الذي أسسه محمد علي، في ضوء فلسفة السلطة التي كانت تُخضع هذه المؤسسة لانتصارات السادة. طوال الوقت كان اسم الباشا أو ابنه إبراهيم باشا أو القادة الكبار يتردد وتسطّر المعارك والانتصارات بأسمائهم، وينعم عليهم بأكاليل النصر، بينما الأنفار لا يُعنى أحد بذكرهم.
أما في كتابه الثاني «الجسد والحداثة: دراسات عن الطب والقانون في مصر الحديثة»، ترجمة د.شريف يونس أيضًا، فقد تناول في فصوله تطور الطب بمعناه الحديث والنظام القانوني الجديد، غير المستوحى من الشريعة الإسلامية، وقدّم بالفعل رؤية جديدة ومشتبكة مع الكتابات السائدة للتاريخ الاجتماعي للقانون والطب.
وفي كتابه الأخير «السعي للعدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة»، يواصل هذا المشروع الطموح، ويقطع في سبيل تحقيقه خطوات، بل قفزات. الكتاب أصدرته دار الشروق في 539 صفحة من القطع الكبير، وعكف على ترجمته الكاتب حسام فخر، وأنتهز الفرصة لأحييه وأشكره على الترجمة المقتدرة الطلقة التي جعلت القارئ أكثر قدرة على الولوج إلى نص حافل يُعنى بتاريخ مصر الخديوية، بكل ما يعنيه ذلك من إشكاليات تتعلق بلغة الوثائق وغيرها من كتابات تلك الفترة.
على أي حال، ينطلق الكتاب من حدث يعتبره د.فهمي «فاصل»، وهو انعقاد أول درس تشريح في مدرسة الطب، التي كانت قد أنشئت في أبي زعبل شرق القاهرة. وكانت المدرسة التي أوكل الباشا محمد علي مهمة إنشائها إلى الطبيب الفرنسي كلوت بك، مهمتها تكوين خدمة طبية لجيشه الذي كان قد بدأ في تأسيسه عام 1822. والتشريح يعني بطبيعة الحال جثة يتولى المعلم تقطيعها أمام الطلاب ليتعلموا. وبتوالى تشريح الجثث، لم يعد التشريح لأسباب تعليمية فقط، بل أيضًا لأغراض قانونية، مثل تحديد سبب الوفاة وغيرها من المسائل التي يخرج «النفر» بمقتضاها وتتسلمه السلطة.
وهكذا ينتقل الكاتب لطرح الأسئلة التي رافقت حدثًا بتلك الضخامة، خصوصًا وأن التشريح والمعاينة الظاهرية للجثث «كانا جزءًا من ممارسات أوسع تبنتها الدولة منذ القرن التاسع عشر لتحكم سيطرتها على الأهالي»، مثل قيد المواليد والتطعيم والتجنيد الإجباري والكشف الطبي الدوري وتصاريح السفر. كيف واجه الناس هذه الأحكام الجديدة، وكيف تعاملوا معها «لمراقبة أجسادهم ومتابعتها والتحكم فيها»؟ من جانب سُلطة الدولة، وغيرها من الأسئلة.
ليس هذا فقط، بل إن قوات الشرطة باتت تلجأ لاستخدام المعاينة والتشريح في التحقيقات الجنائية التي تُستخدم في المحاكم الحديثة (محاكم مصر الخديوية بطبيعة الحال)، وهو أمر مختلف تمامًا عن المحاكم الشرعية التي اعتاد عليها الناس طوال الحكم العثماني. وهكذا أيضًا لعب التشريح الجنائي والتعليمي دورًا في بناء «صرح حداثة مصرية ترتكز على دعامتين أساسيتين هما الإصلاح الطبي والإصلاح القانوني»، حسبما ذكر د.فهمي.
وعلى مدى الفصول الخمسة التي يضمها هذا المجلد الثري، فإن السعي للعدالة، أي النظام السياسي والاجتماعي وجملة القوانين والتشريعات والأوامر الإدارية التي رافقت بناء الدولة الجديدة، دولة محمد علي وأبناؤه..هذا النظام هو موضوع الكتاب ولحمته وسداه. وليست مصادفة أبدًا اعتماد الكتاب على وثائق محفوظة في دار الوثائق التي تبيّن بالتفصيل كيف تم تطبيق الشريعة مثلًا، وهذه نقطة بالغة الأهمية، وربما كانت هي أهم إضافة في مشروع فهمي، حيث يطرح بالتفصيل، وعلى نحو لم يحدث من قبل، ما يسمى بمجالس السياسة التي أغفلها الكثيرون أو تعاملوا معها بسطحية ودون اهتمام.
وما فعله المؤلف هو الغوص طويلًا وبأناة وصبر في الوثائق القومية المصرية، وهي تزيد على أربعة آلاف سجل، حفظت لنا ما يشير إلى نظام قانوني كفء وشديد التعقيد، من أهم ما يتميز به ما كان يسمى بمجالس السياسة. ويضم «السعي للعدالة» أول سرد كامل لتلك القصة، اعتمادًا على سجلات النظام الحاكم، وليس من خارجه أو اعتمادًا على تأويلات أو تفسيرات من خارجه.
جهد فهمي لم يتوقف عند الوثائق المشار إليها بعاليه، بل امتد أيضًا لسجلات مدرسة ومستشفى قصر العيني، فضلًا عن سجلات المؤسسات الطبية ومؤسسات الصحة العامة، وما يرتبط بها من مراسلات بيروقراطية عديدة عن العمل اليومي لتلك الأجهزة المؤسسات.
من جانب آخر، يؤكد الكتاب أن مصر الحديثة، إذا اعتبرنا أن بدايتها الدولة التي أسسها محمد علي «أنشئت من خلال وضع أساليب وتقنيات مكّنتها من الرقابة على أجساد رعاياها والتحكم فيها» فالحجر الصحي الذي يقضي بمنع دخول وخروج الناس مثلًا، وتسجيل المواليد الذي يمنع وجود آخرين خارج سلطة الدولة، كلها أساليب جعلت أجساد المصريين «موضوعًا لرقابة ومتابعة وتحكم لم يسبق لها مثيل، من المهد إلى اللحد وربما إلى ما بعده أيضًا».
ويحدد فهمي في مقدمة مجلده الزاخر أن الفصول الواردة تم تبويبها لتدور حول الحواس الخمس: البصر والسمع والشم والتذوق واللمس. فالفصل الأول مثلًا يستخدم حاسة البصر لعرض عمليات التشريح التي تُرى بالعينين، ولبيان كيفية إدخال علم التشريح الطبي إلى مصر. وهنا مثلًا يتطرق إلى الأكاذيب التي ارتقت في الكتابات الغربية لتصبح حقائق مسلّم بها، من بينها أن الإسلام يعتبر التشريح تدنيسًا وانتهاكًا للجسد، بينما تؤكد الوقائع والوثائق التي أوردها فهمي أن هذا الكلام الذي ردده كلوت بك مؤسس مدرسة الطب عارٍ تمامًا من الصحة، وليس في الإسلام ما يمنع ذلك.
وإذا كانت الركيزتان الأساسيتان للكتاب هما القانون والطب، فإن الفصل الأول دار حول الطب ممثلًا في التشريح وما أحاط به، بينما عرض الفصل الثاني للركيزة الثانية وهي القانون من خلال حاسة السمع. لذلك عُني الفصل بوصف النظام القانوني لمجالس السياسة -أهم ما كشف عنه هذا العمل بكامله- وطريقة عملها، وتصويره لتلك المجالس باعتبارها جزءًا من نظام الشريعة.
على هذا النحو يمضي الكتاب في الفصول الثلاثة الباقية. فالفصل الثالث يطرح تحليلًا للصحة العامة من خلال البرنامج المعقد للصحة الذي قام على مايسمى بـ«نظرية الأوخام والهواء الملوث» وهنا تدخل حاسة الشم. وكان الفصل الرابع الذي يتناول حاسة التذوق، مخصصًا للطرق التي تمت بها مراقبة أسواق الطعام في القاهرة خلال تلك الفترة، كما كان فرصة للإدلاء برأي حاسم فيما يتعلق بمفهوم الحسبة الذي يستخدمه السلفيون ويدعون للأخذ به. وأخيرًا تأتي حاسة اللمس في الفصل الخامس، عند تناول «الجَلْدْ» كأسلوب من أساليب التعذيب، آخذًا في اعتباره أن هناك لائحة صدرت عام 1861 منعت استخدام الجلد، سواء كوسيلة لانتزاع الاعترافات أو كأحد أشكال العقاب.
وأخيرًا، يحفل «السعي للعدالة» بالوثائق الكاشفة، من بينها قضية زهرة بنت سيد أحمد، التي أصرّ ابنها على تشريح جثتها لإثبات شكوكه في أن زوج شقيقته هو من ضربها حتى الموت. هنا يبدو واضحًا أن السعي للعدالة هو ما دعا المصريين للمطالبة بالتشريح والإصرار عليه. والسعي للعدالة أيضًا هو ما دعا أهالي إحدى قرى مديرية جرجا إلى إغلاق قريتهم ومنع الجنود من دفن إسحاق طانيوس عندما تأكدوا أن وكيل المديرية قد ضربه حتى الموت. والسعي للعدالة أيضًا وكذلك المعنى الحقيقي لإنشاء الدولة الحديثة في عيون المصريين يكمن وراء قضية الشابة محبوبة.
في صيف 1857 قام علي جاد الله، زوج محبوبة، وحماته بمقاومة الظلم والسلطة، بل وعرّضا نفسيهما للانتقام من جانب شيخ القرية الذي عذّب محبوبة تعذيبًا أفضى بها إلى الموت. وبسبب تعقيدات قانونية أفلت شيخ القرية، وهنا حمل علي وحماته محبوبة على جمل وطافا بها الناحية بحثًا عن حكيم، وعثرا بالفعل على حكيم ناظر الجثة، وأكد أن محبوبة تعرضت للتعذيب قبل موتها.
هناك قصص عديدة أوردها خالد فهمي، الذي يمكن اعتبار عمله واحدًا من الصروح الكبرى التي تعيد النظر مرة أخرى في المسلمات، وفي الوقت نفسه تكشف لنا عن حقائق تم تغييبها عمدًا. ولعلي أنتهي إلى مطالبة فهمي، إذا كان ذلك ممكنًا، بالكشف عن المزيد من الوثائق ونشرها، خصوصًا وأن هناك ما يزيد على أربعة آلاف سجل من الوثائق المحفوظة في دار الوثائق حسبما ذكر.
بالتوفيق
عقارات في شارع التسعين