مقال للدكتور علاء غنام نُشر في الشروق يوم ٦ سبتمبر ٢٠٢٢
السعى للعدالة هو عنوان كتاب مرجعى للدكتور خالد فهمى أحد أهم المتخصصين فى التاريخ الاجتماعى والثقافى فى الشرق الأوسط، والذى درس الدراسات العربية فى العديد من الجامعات العالمية المرموقة، والباحث الأهم حاليا فى تاريخ الصحة العامة والقانون فى القرن التاسع عشر لمصر.
يقوم الكتاب على دراسة دقيقة وتوثيق تطور المنظومة الصحية فى مصر، وكيف تعامل الناس مع التدخلات الطبية الحديثة فى ذلك الوقت مثل اللقاح ضد الجدرى، والتشريح. يعتمد الكتاب على المئات من السجلات والوثائق الصحية العديدة المحفوظة فى دور الكتب والتى من خلالها تتبع الدكتور خالد تاريخ الصحة العامة والقانون فى القرن التاسع عشر فى مصر.
الكتاب أكبر وأهم من تلخيصه فى سطور بسيطة. والحقيقة أنه يحتاج لنقاشات عديدة لاحتوائه على العديد من المعلومات والمواضيع المفيدة عن تاريخ تطور نظام الصحة العامة فى بلدنا. ولكن، سأتوقف عند واقعة واحدة يرويها الكتاب قد تكون لها علاقة بموضوع مطروح الآن للنقاش العام.
•••
تعرض الكتاب لحالة عن حادثة تم رفع شكوى فيها ضد طبيب عالى الرتبة فى مدرسة الطب، يدعى محمد الشباسى، أحد أعضاء البعثة الرابعة أقام بفرنسا 13 سنة لإتمام العلوم الطبية، وعندما عاد إلى مصر عين أستاذا للتشريح بمدرسة الطب، وله كتب ومؤلفات.
وحدثت واقعة قد تكون النواة الأولى لفكرة المسئولية الطبية فى تاريخ التشريع المصرى الصحى، عندما توفى المريض الذى أجرى له دكتور الشباسى العملية بعد أربعة أيام.
وبعد تحقيق فى المستشفى من مجلس شورى الأطباء، ألقى بالمسئولية كاملة على عاتق المريض المتوفى وتم إخلاء ذمة الطبيب، حسبما ينقل دكتور خالد فى كتابه.
ولكن، بعد ثلاث سنوات كاملة من مرور الواقعة، أعاد المجلس العمومى النظر فى القضية مرة أخرى ورفع تقريرا يدين الطبيب للوالى عباس باشا.
وينقل الكتاب التقرير كاملا فى صفحتين، وتمت إدانة الطبيب فى التقرير الثانى الذى جاء بعد 3 سنوات من مرور الحادثة.
وببعض التعميم يمكن اعتبار هذا التقرير أول أساس لما يسمى الآن بالمسئولية الطبية وحقوق المرضى، فلأول مرة فى تاريخنا الصحى الحديث، صدر قرار من ثلاث مواد جامعة لما أصبح يسمى الآن قانونا للمسئولية.
وفى هذا السياق، مع التطور والتعقيد السريع والكبير فى العلوم الطبية والتدخلات الطبية، أدى ذلك بدوره إلى زيادة الأخطاء الطبية التى قد تلحق بالمرضى. من هنا كان الاهتمام بوجود قانون لتنظيم العلاقة بين الطواقم الطبية والمرضى من ناحية، ومن ناحية أخرى لضمان حقوق طرفى المعادلة.
• • •
إن قانون المسئولية الطبية يتناول المساءلة القانونية عن الضرر الطبى والاقتصار على العقوبات المدنية فى حالة مسئولية الطبيب أو الطبيبة عن الضرر. فقد يقع الطبيب أو عضو الفريق الطبى خلال ممارسته للمهنة فى أخطاء تلحق الضرر بالشخص المريض فيسأل الطبيب عن ذلك، أو يقوم بتدخل يعتبر مخالفة لقواعد العلاج المعروفة مما يترتب عليه ضرر للشخص المريض. وهناك أخطاء تحدث معروفة مسبقا وفى حدود النسب الطبيعية ومن المفترض أن يكون المريض على علم بها ووافق على ذلك من خلال الموافقة المستنيرة، حينها لا يسأل الطبيب على الإطلاق.
بداية، فإن حقوق الشخص المريض أو متلقى الخدمات الصحية مصونة فى جميع أنحاء العالم بقوانين أو مواثيق مُلزِمة، محلية أو دولية، يتم بناء المنظومة الصحية على أساسها، وتُحدِد العقد الاجتماعى بين الشخص متلقى الخدمة ومقدمها. ولكن مصر تفتقر إلى هذا النوع من الوثائق حيث لا يوجد أى تحديد لحقوق الشخص المريض إلا من خلال لوائح شرفية غير ملزمة أو غير مفعلة، تفتقر آليات التنفيذ. ولدى نقابة الأطباء المصرية «ميثاق أخلاقى» تاريخى يذكر بعض الحقوق الأساسية للمرضى، إلا أنه لا يتمتع بقيمة قانونية ملزمة. وتعرض وزارة الصحة نسخا مختلفة من وثيقة باسم «حقوق المريض وواجباته» على جدران المستشفيات العامة، لكن باستثناء حقوق المرضى النفسيين، يمثل هذا قصارى الجهد المبذول لحماية حقوق المرضى. لذلك، حتى يحظى القانون فى حالة صدوره بدعم أوسع وتقبل من جميع الأطراف الفاعلة وأصحاب المصلحة فى القطاع الطبى.
فى السنوات الأخيرة، تثار ضرورة صدور تشريع للمسئولية الطبية على فترات متتالية كلما يحدث خطأ طبى تتناوله المواقع الصحفية بطريقة مثيرة، فيحدث متابعة أو اهتمام مؤقت، يتبعه قيام أعضاء البرلمان بتقديم مقترحات لقانون، غالبا ما تكون متسرعة ولم تمر بالنقاش الكاف والحوار المجتمعى الذى يستحقه قانون بهذه الخطورة.
كانت هناك محاولات منذ عشرين عاما من نقيب الأطباء فى ذلك الوقت لطرح ضرورة قانون المسئولية الطبية، ولكن لم يكتب لها النجاح.
وقد تكون أهم نقطة خلاف منعت وعطلت صدور القانون فى المحاولة الأخيرة هى مدى إلزامية تقرير اللجنة أو الجهة العليا التى تكتب تقرير المسئولية الطبية فى الحالات المعروضة عليها أمام سلطات القضاء. هل سيكون تقريرها ملزما أم استشاريا فقط؟ وإن كان استشاريا فقط فالبعض يرى أن ذلك يضعف فكرة القانون أصلا ويعيد تكرار نفس الخطوات البيروقراطية.
بالإضافة إلى المشكلة السابقة، فإن النسخ المختلفة من القانون تعرضت لمواضيع ليس من نطاق المسئولية الطبية التعرض لها لأنها بطبيعتها قضايا اجتماعية تمس الحريات المدنية والشخصية وعليها خلاف كبير وخاضعة للتطور والتغيير فى المجتمع، فليس من المنطقى أن يتم حسمها بقانون للمسئولية الطبية. على سبيل المثال، مواد تتعرض للتقنيات المساعدة على الإنجاب للمرأة.
الجزء الغائب أيضا عن قانون المسئولية الطبية، هو ضرورة صدور القانون بحيث يحمى حقوق السيدات/متلقيات الخدمة الصحية، أو ما يسمى الآن رعاية صحية تراعى النوع الاجتماعى، فجميع النسخ المطروحة خالية من هذا الموضوع. لذلك، من الضرورى أن يأخذ النقاش عن المسئولية الطبية وقته وأن يشارك فيه جميع الأطراف الفاعلة، وعلى رأسهم نقابة الأطباء، ومن المفترض أن يشارك باقى نقابات أعضاء المهن الطبية، وجمعيات حقوق المرضى والمهتمين بالصحة الإنجابية وغيرهم من الأطراف الفاعلة كالقطاع الخاص.
• • •
فى هذا السياق، من الإنصاف الإشارة للظروف التى يعمل بها الأطباء والتى جعلت أطباءنا يهاجرون بالآلاف، ونواجه عجزا شديدا فى عدد الأطباء والذى وصل إلى وجود 8,6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن ومواطنة بينما النسبة العالمية 23 طبيبا وطبية لكل 10 آلاف مواطن ومواطنة، مع وجود مؤشرات تشير إلى تفاقم هذا العجز منها خلال الخمس سنوات الأخيرة، وأيضا تدنى الأجور والمعاشات، وعدم الأمان الوظيفى والمهنى.
وعلى مستوى البنية التحتية، تفتقد معظم المستشفيات لنظام صيانة روتينى ودورى، وقلة أدوات التدريب للأطقم الطبية، وعدم اشتمال معظم المستشفيات على استراحات مناسبة للأطقم الطبية. ويتعرض الأطباء أيضا وباقى العاملات والعاملين بالقطاع الطبى خصوصا فى المستشفيات العامة لحوادث اعتداءات أثناء تأدية عملهم.
وفى الخلاصة، فإن القصة التى يوثقها دكتور خالد فهمى فى كتابه ملهمة ومهمة لأنها تثبت أن لدينا تاريخا عريقا من التشريع الصحى والبيروقراطية الصحية. وتأخذنا هذه القصة أيضا لضرورة سد الفراغ التشريعى الحالى بإصدار قانون للمسئولية الطبية لحماية المرضى، وحماية أطبائنا أيضا.