نُشر في “فيسبوك” يوم ٤ فبراير ٢٠١٧
يوم الأربعاء الماضي (١ فبراير ٢٠١٧) عرض برنامج “السلطة الخامسة” تقريرا متميزا من إعداد وائل ممدوح وسيد تركي، وتقديم يسري فودة.
التقرير اسمه “رحلة الكورنيت”، ويتناول طريقة حصول تنظيم داعش الدموي الإجرامي في سيناء على صواريخ متطورة (الكورنيت) .
التقرير يتساءل عن المكان الذي حصل منه مجرمو داعش على هذا السلاح المتطور، وبعد أن يرصد عدة بدائل يتتبع واحدا بعينه: ترسانة أسلحة القذافي في ليبيا، وكيف وقعت في أيدي مهربي الأسلحة، وكيف طور هؤلاء المهربون أساليبهم ليسلموا بضاعتهم القاتلة لمجرمي داعش في سيناء.
التقرير يتتبع أيضا أساليب الدولة المصرية في رصد هؤلاء المهربين، سواء جهود القوات المسلحة واستهدافها لقوافل سيارات الدفع الأمامي التي تنقل السلاح، أو جهود محافظ مطروح وحثه للأهالي على تسليم سلاحهم.
على أن أكثر ما يميز التقرير هو عرضه لطريقة عمل الفريق الصحفي: تمكنهم من تحديد أرقام شحنات الصواريخ، وتتبعهم لهذه الأرقام عن طريق مضاهاتها بقاعدة بيانات تجارة السلاح الشرعية، وتمكنهم من تحديد الزمان الذي وصلت به هذه الأسلحة لليبيا.
ثم مقابلات حصرية مع واحد من المهربين الذي يشرح عمل المهربين والتفافهم على كمائن المرور واستخدامهم أجهزة تليفون متطورة تكمنهم من تحديد أماكنهم في الصحراء بدقة.
كل هذه مشفوع بخرائط واضحة تعين المتفرج على متابعة القصة المعقدة.
هذا عمل صحفي على أعلى مستوى، وينم عن مهنية عالية وجهد دءوب هما العلامة المميزة ليسري فودة ومدرسته الصحفية.
على أن أهمية هذا التقرير، وأمثاله، لا تكمن فقط في تقديم صحافة مهنية تحترم قارئها ومتصفحها، لكنها أيضا تكمن في حث القارئ / المتفرج دائما على التفكر والتأمل، مقدمة له، في نفس الوقت، المادة التي تمكنه من التفكر والتأمل.
وفي رأيي أن هذا النوع من الكتابة الصحفية هو خير وسيلة لمواجهة نظريات المؤامرة والتفسيرات الغيبية التي تسيطر على إعلامنا الرسمي والأصفر على حد سواء.
فجاذبية نظرية المؤامرة تكمن دائما في طرح أسئلة وجيهة دون تقديم إجابات، أو معلومات قد تقدم إجابات، أو طريقة للتفكير في إجابات.
والنتيجة أن القارئ يسقط في يده، فبعد أن يقرأ أسئلة محيرة وخطيرة وملغزة يجد نفسه في حيرة من أمره، فلا هو يعرف كيف يفكر في الموضوع، ولا توجد تحت يده معلومات أو بيانات تعينه على التفكير في الموضوع، ولا يستطيع أن يتغاضى عن الموضوع نظرا لأهميته، ولا يوجد لديه أحد ينير له الطريق للتعامل مع الموضوع.
فطبعا ينتهي به الحال في النهاية بالتسليم بأن هناك مؤامرة.
على أن الأمر لا ينتهي هنا. بل ينتهي في أغلب الحال بتسليم أمره لـ”ولاة الأمر”. هؤلاء فقط هم من يمكنهم الوصول للحقيقة، لأن المؤامرة كونية، عالمية، معقدة، تتطلب تدخل أجهزة الدولة السيادية، أو العناية الإلهية، أو كليهما سوا (إذا كانت الأجهزة السيادية مدعومة بالعناية الإلهية).
أما القارئ/ المتفرج فيمكنه الآن أن يستريح ويخلد إلى النوم.
وكمثال على هذا الأسلوب المؤامراتي، الذي يفسر الجهد بعد الجهد بالماء وينتهي يالتأكيد على وجود مؤامرة لا حول لنا بها ولا قوة، أنصح بقراءة مقال عبد الله السناوي “خط الجرذان الآخر” الذي نشره في “الشروق” بتاريخ ٥ مايو ٢٠١٤.
المقال يطرح نفس السؤال: كيف حصل تنظيم داعش الدموي في سيناء على هذه الأسلحة؟ ولكن عوضا عن أن يحرك ساكنا، أو أن يجهد نفسه في عمل استقصائي وبحثي دءوب اكتفي السناوي بعرض مقال للصحفي الأمريكي المخضرم، سيمور هيرش، وبنقل بعض المعلومات منه (مع الإشارة للمصدر).
ما يلفت النظر في مقال السناوي هو اكتفاؤه بالمؤامرة كتفسير للغز المحير وكإجابة على تساؤلاته.
فبعد أن ينقل عن هيرش قوله إن هناك ” أطرافا إقليمية ودولية اتفقت سياسيا ونسقت استخباراتيا ووفرت التمويل المالى والغطاء السياسى لتهريب السلاح الليبى للداخل السورى عبر ما أطلقت عليه الاستخبارات المركزية «خط الجرذان»”، يتساءل السناوي: “هل هناك «خط جرذان آخر» شملته صفقات وتفاهمات أطراف سياسية واستخباراتية إقليمية ودولية وفر الدعم المالى واللوجسيتى والسياسى لشحنات السلاح إلى مصر عبر الحدود الليبية؟”
هذا سؤال مهم ومحوري. ولكن عوضا عن أن يجهد نفسه كما فعل يسري فوده وفريقه للإجابة على هذا السؤال، يكتفي السناوي بالتأكيد على أن هناك ” بعض الأطراف الدولية والإقليمية (المتورطة) فى عمليات قذرة (والتي تفكر) فى تهريب سلاح مماثل لمصر من مخازن العقيد «معمر القذافى» بعد إسقاط نظامه ومخلفات حلف «الناتو» بعد انتهاء عملياته العسكرية.”
وبالرغم من تأكيده على أن “التكهنات تغلب المعلومات والشهادات مازالت فى مكامنها”، إلا أنه أنهى مقاله بطرح التساؤل التالي: “إذا كان مستحيلا بشهادة الوقائع والمصالح والرهانات أن تتورط السعودية فى دعم الإرهاب فى مصر فإلى أى مدى تورط الأتراك والقطريون؟”
تساؤل وجيه. لكن السناوي لا يقدم معلومات أو بيانات أو شهادات أو وقائع أو مقابلات أو صورا أو تسجيلات قد تعين القارئ على التفكير في إجابة على هذا التساؤل الوجيه.
أما يسري فودة وفريق عمل برنامج “السلطة الخامسة” فقدموا عملا يحترم القارئ/المتفرج، وعرضوا معلومات وبيانات وشهادات ووقائع ومقابلات وصورا وتسجيلات تبدأ في تقديم تفسيرات مقنعة لهذا السؤال الذي يجب أن يشغل بال كل مصري غيور على أمن وطنه واستقراره: كيف حصل تنظيم داعش الإجرامي في سيناء على سلاحه؟
“رحلة الكورنيت” تقدم صورة أوضح، وأخطر، من تلك التي يقدمها “خط الجرذان الآخر”.