Press "Enter" to skip to content

عمارة محمد علي في قولة

نُشر في “فيسبوك” في ٦ سبتمبر ٢٠١٦
ما زال الحديث يدور حول الممتلكات المصرية في اليونان وحول تقاعس أو إهمال المسئولين الحكوميين على مدار العقود في الحفاظ على هذه
الممتلكات الفريدة.
وقد كتبتُ هنا على فيسبوك منذ فترة أوضح تاريخ هذه الممتلكات وكيف ارتبطت بجهود محمد علي في حملة الحجاز عام ١٨١١، وكيف طلب من وكيله في اسطنبول، محمد نجيب أفندي، أن يتوسط له لدى الباب العالي لكي ينعم عليه بإعطائه جزيرة طاشيوز (ثاسوس) لكي يرصدها للإنفاق على ”عمارة خيرية“ في مدينة قولة مسقط رأسه.
وقبل التطرق لغرض محمد علي من بناء العمارة أود توضيح نقطة تناولتها في البوست السابق نشره هنا. فقد أشرتُ إلى أن محمد علي لم يُعطَ جزيرة طاشيوز كمِلك بل كحق انتفاع لكي يصرف من إيرادها على العمل الخيري الذي كان يقصد بناءه في قولة. ولكن د. إبراهيم بيومي غانم نشر مقالا في ”الشروق“ أثبت فيه أن السلطان محمود الثاني قد أعطى بالفعل جزيرة طاشيوز لمحمد علي كمِلك وليس كحق انتفاع. وبالتالي نشرتُ تصويبا هنا بهذا المعنى.
ثم راجعت كتاب د. إبراهيم غانم، الأوقاف والسياسة في مصر، الصادر عام ١٩٩٨ وقرأت فيه الكثير من التفاصيل المتعلقة بهذا الوقف الكبير، المعروف بوقف قولة. ومن أهم هذه التفاصيل تلك الواردة في صفحة ١٣٢ حيث يقول المؤلف: ”وكان محمد علي نفسه قد حصل على ملكية أشهر أوقافه – وهي جزيرة طاشيوز (أو تاسوس) ببحر اليونان – بموجب «منحة سلطانية» من السلطان محمود الثاني، الذي كافأه بها لانتصاره على الحركة الوهابية في شبه الجزيرة العربية، وأصدر له فرمانا بتمليكه هذه الجزيرة بتاريخ ٢٧ ربيع أول ١٢٢٨ هـ (٣٠ مارس ١٨١٣ م) ونص فيه على إعفائها من كافة الضرائب والتكاليف «ما عدا الجزية»، وقد وقفها محمد علي وقفًا خيريًا في نفس سنة حصوله عليها بموجب حجة مؤرخة بتاريخ ٢٥ جمادى الآخرة سنة ١٢٢٨ هـ [٢٤ يونيو ١٨١٣ م].“
جزيرة طاشيوز (ثاسوس)، من تصويري.
 ولكن يجب هنا التأكيد على أن حصول محمد علي على جزيرة طاشيوز كمِلك لا يعني بالضرورة أن تلك الجزيرة ملك مصر الآن. فأولا، هناك أكثر من مائتي عام انقضت بين حصول محمد علي على الجزيرة وبين يومنا هذا، وبالطبع وقعت أحداث كثيرة أثناء هذين القرنين أثّرت على ملكية مصر للجزيرة، ومن أهم هذه الأحداث على الإطلاق هو انتزاع السلطان عبد الحميد الثاني عام ١٩٠٢ للجزيرة من السيطرة المصرية وإخضاعها مرة ثانية للسيطرة العثمانية، الأمر الذي أثار غضب الخديوي عباس حلمي الثاني وحثه على بذل مساع ديبلوماسية عديدة لاستعادة الجزيرة، لكن دون جدوى.
ثانيا، هناك فرق بين الملكية والسيادة، ومن الواضح أن الحكومات المصرية المتعاقبة طوال القرن العشرين لم تمارس أيا من أعمال السيادة على الجزيرة، مثل جباية الضرائب، أو تطبيق القوانين المصرية، أو حماية الجزيرة داخليا عن طريق جهاز الشرطة أو البحرية المصرية. (وهذه بالمناسبة أهم نقطة تفرق وضع جزيرة طاشيوز عن وضع جزيرتي تيران وصنافير، فمصر مارست على هاتين الجزيرتين الأخيرتين سيادتها بأن وضعت على إحداهما، تيران، نقطة شرطة بل خاضت حربا من أجل الدفاع عنها).
ثالثا، هناك ما يشاع عن أن نظارة ثم وزارة الأوقاف قد باعت بشكل قانوني أراض زراعية على جزيرة طاشيوز، وبالتالي فمن الواضح أن ما تبقى من الممتلكات المصرية الآن أقل بكثير من مجمل مساحة الجزيرة التي يُفترض أنها كانت ملك محمد علي عندما تلقى فرمان الملكية من السلطان محمود الثاني عام ١٨١٣.
أيا كان الأمر بخصوص جزيرة طاشيوز (ثاسوس)، ما يعنيني الآن هو توضيح غرض محمد علي من بناء هذا الوقف الضخم في مدينة قولة (كافالا)، مسقط رأسه، وهو المبنى الذي أصبح الآن فندقا خمسة نجوم يحمل اسم إيماريت، Imaret.
صورة من الجو لعمارة محمد علي / فندق إيماريت
ما الذي حدا بمحمد علي أن يشرع في بناء هذا الصرح العملاق في العقد الثاني من القرن التاسع عشر؟
للإجابة على هذا السؤال قد يكون من المفيد أن نرجع للوراء قليلا و تحديدا إلى عام ١٨٠٩، فمن الملفت للنظر أن محمد علي شرع في بناء مدفن له ولأسرته في هذه السنة، وهو المدفن الذي يُعرف اليوم باسم ”حوش الباشا“ في الإمام الشافعي. وبالرغم من أن الشائع أن محمد على شرع في بناء هذا المدفن عام ١٨١٦، إلا أنني عثرت في إحدى المكاتبات في دار الوثائق القومية على ما يفيد أنه قرر بناء هذا المدفن في هذه السنة المتقدمة، أي سنة ١٨٠٩.

“حوش الباشا” بالإمام الشافعي، وبه مقابر عائلة محمد علي بمن فيهم زوجاته وأولاده
وهذا أمر بالغ الأهمية، إذ يوضح كيف أن محمد علي حتى قبل أن يتخلص من المماليك في مذبحة القلعة الشهيرة (١ مارس ١٨١١) وحتى قبل أن يهنأ بالاستقرار في مصر وبالطبع قبل أن ينال فرمان الوراثة بسنوات كثيرة كان قد عقد العزم على أن يتخذ من مصر موطنا، فالوطن ليس الأرض التي يولد فيها الإنسان بل تلك التي يود أن يموت ويدفن فيها.
على أن هذا لا يعني أن محمد علي لم يكن مهتما بموطنه ومسقط رأسه، قولة. صحيح أنه لم يزر قولة إلا قبل وفاته بعامين حينما توقف فيها أثناء عودته من زيارته الأولى والأخيرة لعاصمة السلطنة (عام ١٨٤٦) ، إلا أن قولة كانت دائما في قلبه، وأنه كان يفتخر دوما بانحداره منها وبكنيته بها، فكان يعرف بـ ”قوالةلي محمد علي“.
ومن المدهش أن هذا الرجل الأمي الذي لم ينحدر من أصول رفيعة والذي لم يأت من داخل أروقة الحكم في اسطنبول بل الذي لم يزر أيا من حواضر السلطنة بما فيها مدينة سالونيك القريبة، هذا الرجل كان مدركا إدراكا جيدا لطقوس الملك وعلامات الجاه. فنراه وهو لم يمض إلا سنوات قلائل كوال على مصر ينشئ لنفسه بلاطا ويحيط نفسه بحاشية يحاكي بهما بلاط وحاشية الباشوات العثمانيين.
ومن أهم مظاهر تشبهه بالباشوات والأعيان الكبار تذكره لمسقط رأسه واستثماره فيها حتى وإن لم يستقر بها. كان هذا تقليدا عثمانيا معروفا، فالكثير من الباشوات والوزراء العثمانيين كانوا يبنون مساجد أو يقيمون تكايا في قراهم وبلداتهم حتى بعد رحيلهم عنها واستقرارهم في عاصمة السلطنة، وكل ذلك يتم من حر مالهم وليس من المال العام. بل نرى بعضهم يقف أوقافا على الكثير من أعمال البر (تكايا، مساجد، أسبلة، بيمارستانات، مكاتب، أي مدارس لتحفيظ القرآن) ليس فقط في مسقط رأسهم ولكن أيضا في عاصمة الولايات التي عينوا بها طوال حياتهم الوظيفية. وبمرور الوقت أصبح من علامات الجاه ورفعة الشأن أن يقيم الباشا أو الوزير وقفا يحمل اسمه يقتطعه من ماله الخاص ويرصده لأعمال البر، وتكفي زيارة لأي حاضرة من حواضر الدولة العثمانية العديدة للوقوف على أهمية وعظمة المباني الخيرية التي كانت أوقافا أوقفها آل عثمان (وأهمهم زوجات السلاطين وأمهاتهم) والباشوات العظام.
الحمام الذي أوقفته في اسطنبول ”خرِم سلطان“، أشهر زوجات السلطان سليمان القانوني

 

فنرى في مدينة قولة نفسها، مسقط رأس محمد علي، مباني جليلة أقامها باشوات مشهورون من حر مالهم، ومن أهم تلك المباني مجرى العيون الذي ترجع أصوله للإمبراطورية الرومانية والتي أعيد تشييده من جديد أثناء حكم السلطان سليمان القانوني (حكم من ١٥٢٠ إلى ١٥٦٦). أما الشخص الذي أنفق أمواله على هذا الصرح العملاق فكان إبراهيم باشا، الصدر الأعظم (أي رئيس الوزراء) الذي كانت تربطه بالسلطان صداقة قديمة تعود لطفولته التي قضاها في البلاط السلطاني بعد أن خطفه القراصنة من بلدته ”براجا“ (في غرب اليونان اليوم، ولكنها كانت خاضعة لجمهورية البندقية وقتئذ، أي في أوائل القرن السادس عشر). أمضى الطفلان، الأمير سليمان والطفل اليوناني الذي أسلم ومُنح اسم إبراهيم، أمضيا طفولتهما معا ونشأت بينهما صداقة قوية إلى أن وجد سليمان نفسه سلطانا وسرعان ما أن عيّن صديقه في مناصب رفيعة كان من أهمها ولاية مصر عام ١٥٢٥ بعد إخماد ثورة أحمد خاير/خاين بك، ثم ولاية قولة.

إبراهيم باشا المقبول/المقتول
وتعمقت صداقة السلطان سليمان بإبراهيم باشا حتى زوجه شقيقته، خديجة سلطان، ثم منحه أرفع منصب في السلطنة، أي الصدارة العظمى، وهو المنصب الذي شغله من ١٥٢٣ إلي ١٥٣٦ م. ومن وقتها أصبح إبراهيم يُكنى بلقب ”المقبول“. ولكن وكما قال الإمام الشافعي ”إن الملوك بلاء حيثما حلوا .. فلا يكن لك في أبوابهم ظل“، سرعان ما أن انقلب سليمان على صديقه وأمر بقتله، ومن ثم أصبحت كنية إبراهيم باشا ”المقتول“ بل من ”المقبول“.
على أن ما يهمنا هو أعمال إبراهيم باشا المقبول/المقتول في قولة، فكما قلت نراه يساعد في تشييد سور العيون الضخم الذي زود المدينة بالماء (على أن أوليا شلبي، الرحالة الشهير، يقول إن من شيد السور السلطان سليمان وليس إبراهيم باشا).

 

سور العيون في قولة المعروف شعبيا بـ”كماريس” أي سور الكمارات، من تشييد إبراهيم باشا المقبول/المقتول (من تصويري)
كما بنى إبراهيم باشا حماما، ومكتبا لتعليم القرآن (وهو ما نسميه في مصر ”كُتّاب“)، ووكالة للتجار، و“عمارة“ لتزويد عابري السبيل بالطعام. ولكن لم يتبق من المباني التي أوقفها إبراهيم باشا في قولة سوى المسجد الذي عُرف باسمه، والذي لا يزال يحتل مركز المدينة، إلا أنه تحول لكنيسة وأضيف له برج للنواقيس في العشرينات من القرن العشرين.

 

مسجد إبراهيم باشا سابقا / كنيسة القديس نيقولا الآن بمدينة قولة (من تصويري)
ومن تتبع أعمل محمد علي في قولة نستطيع أن نرى مدى تأثره بإبراهيم باشا المقبول/المقتول، وكيف اقتفى أثره في الاهتمام بالمدينة والاستثمار فيها، حتى نستطيع
القول بدون مبالغة إن مدينة قولة بناها اثنان: إبراهيم باشا في النصف الأول من القرن السادس عشر، ثم محمد علي في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقبل
التطرق لـ“عمارة“ محمد علي يجدر بنا أن نلفت النظر لكتابة واضحة على سور العيون بقولة:
تاريخ تجديد محمد علي لسور العيون بقولة: ١٢٣٤ هـ ∕ ١٨١٨-١٨١٩ م. (من تصويري)
هذه الكتابة تشير بوضوح لسنة ١٢٣٤ هجرية الموافقة لسنة ١٨١٨-١٨١٩ ميلادية، وهي السنة التي شرع محمد علي في بناء عمارته. وللتأكد مما إذا كان محمد علي هو بالفعل من رمم السور أمضيت صيفا كاملا في دار الوثائق القومية أبحث عن وثائق تتعلق بالسور، وبالفعل وُفقت في العثور على الوثائق الثلاث التالية:

 

مكاتبة من محمد علي إلى محمد افندي، أمين كمرك قولة، يحثه فيها على ألا يدخر جهدا في الانتهاء من ترميم مجرى المياة بقولة، ٢٣ جمادى الثاني ١٢٣٨ / ٧ مارس ١٨٢٣.
مكاتبة من محمد علي لوكيلة في عاصمة السلطنة، القبوكتخدا، بخصوص متابعة ميزانية أعمال ترميم مجرى المياة بقولة، ١١ شوال ١٢٤٥ / ٥ ابريل ١٨٣٠

 

مكاتبة من محمد علي إلى الدفتردار بك بخصوص كيفية إنفاق الأموال المخصصة لمجرى المياة وتعيين المأمورين لمتابعة أعمال الترميم، ٢٧ جمادى الآخرة ١٢٤٥/ ٢٤ نوفمبر ١٨٢٩.
ومما يؤكد اهتمام محمد علي بقولة مسقط رأسه نصّان آخران نجدهما في اللوحات التأريخية التي تزين مداخل ”العمارة“، ففي اللوحة المعلقة أعلى الباب المؤدي إلي الدرسخانة نقرأ البيت الشعري التالي (البيت الثالث):
قواله قلعه سن اعماره مصروف ايليوب عزمن مقدم ايلمشدي أهل علمه مدرسه انشا
وترجمته (غير الحرفية):
وقد صرف أموالا لتعمير قلعة قولة وكان قد أنشأ هنا مدرسة (دينية) من أجل أهل العلم

 

اللوحة التأريخية والتي يشير البيت الثالث فيها إلى ترميم محمد علي لقلعة قولة، واللوحة تشير إلى عام ١٢٣٦ هـ / ١٨٢٠-١٨٢١ م (من تصويري)

 

(قلعة قولة (من تصويري
أما النص الثاني فهو بيت شعري آخر منقوش علي لوحة تأريخية أخري:
فالبيت الرابع، ذو الثلاث أشطار، يقول:
احساننه سير أولي عموم اوزره برايا / بر مدرسة ياپدي صلة رحم ايڇون أول / اولدي قواله ڇونكه علوم أهلنه مأوا
وترجمته (غير الحرفية) تقول:
وجميع البرايا نعموا بنتائج إحسانه (أي محمد علي) / ونظرا لرغبته في صلة رحمه قد بنى مدرسة كملتقى لأهل العلم / ذلك أن قوالة ملأى بأهل العلم.
ومن هذا يتضح مدى اعتزاز محمد علي بمسقط رأسه، قوله، ورغبته في العمل على رفعة شأنها والعناية بها والاهتمام بمرافقها.
أما سبب عنايته بالعلم تحديدا ورغبته في إنشاء مؤسسة تعليمية تقدم خدماتها لفقراء المدينة مجانا فذلك موضوع بوست لاحق.
اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.