نُشر في “فيسبوك” في ٢٨ أغسطس ٢٠١٦
فوجئت اليوم فور استيقاظي من النوم بعدد غير قليل من الرسائل النصية والسمعية تتساءل عن حقيقة تنازل مصر عن الجزيرة التي تمتلكها في بحر إيجة بموجب اتفاقية ترسيم الحدود مع الحكومة اليونانية التي وقّعت أخيرا. ولتبين طبيعة تلك الأخبار دخلت على انترنت وأخذت أقرأ المقالات الإخبارية التي تتناول هذا الموضوع، واكتشفت قدرا كبيرا من التشوش والمعلومات غير الدقيقة. وبما أني درست تاريخ الممتلكات المصرية في اليونان، رأيت أن ألقي بعض الضوء على هذا الموضوع وأن أوضح ما أراه خللا جوهريا في طبيعة تعامل المؤسسات الحكومية مع المعلومات، التاريخية وغير التاريخية. قبل أن ألخص ما تيسر لي معرفته عن الشق التاريخي المتعلق بالممتلكات المصرية في اليونان، أعرض هنا، وباختصار ما تناولته الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي حول هذا الموضوع.
تتلخص المعلومات الصحافية المتاحة حول هذا الموضوع في النقاط الآتية:
- تدور كل الأخبار حول جزيرة يونانية تجمع أغلب الصحف على أن اسمها “تشيوس” تقع في بحر إيجة اليوناني.
- تتناقل أغلب المصادر أن هذه الجزيرة ملك مصر إذ أن السلطان العثماني كان قد وهبها لمحمد علي في القرن التاسع عشر.
- تقول المصادر أيضا إن الحكومة اليونانية كانت تدفع لمصر مبلغا سنويا مقداره مليون دولار نظير استئجارها لهذه الجزيرة بموجب اتفاق وقّع بين الحكومتين أثناء حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك.
- تضيف بعض المصادر إن أثينا امتنعت مؤخرا عن دفع هذه الإيجار اعتمادا على اتفاقية ترسيم حدود تم توقيها بين الحكومتين العام المضي.
- طالب عضو مجلس النواب هيثم الحريري الحكومة بتوضيح موقفها من الجزيرة.
- كما أقام المحاميان حميدو جميل البرنس وعلي أيوب دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري طالبت بإصدار حكم قضائي بوقف تنفيذ القرار الصادر بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، في ما تضمنته من التخلي والتنازل عن جزيرة “تشيوس”.
من ناحية أخرى، تناقلت المصادر المختلفة تصريحا لمدير عام إدارة الأوقاف بمصر سابقا، عاطف عثمان، قال فيه إن مصر تملك جزيرة “تشيوس” في اليونان، وأن الجزيرة مساحتها ٥٠ كيلو متر مربع، وأنها تضم قصرا لمحمد علي مملوك للأوقاف أيضا، وأنه تم الاتفاق على سداد مبلغ مليون دولار سنويا للأوقاف من الجانب اليوناني كحق إيجار للجزيرة، وأكد أن المبلغ كان يسدد باستمرار حتى خروجه إلى المعاش.
كما تنقل بعض المصادر عن هذا المسئول السابق في وزارة الأوقاف، أي عاطف عثمان، المعلومات الخمسة الآتية عن الجزيرة:
- خامس أكبر الجزر في اليونان، وتعد وجهة سياحية مهمة.
- تحتوي على العديد من المعالم السياحية سواء الإغريقية أو البيزنطية أو الإسلامية، أبرزها المتحف البيزنطي والمسجد العثماني القديم، وقلعة محمد علي.
- تتميز شواطئ جزيرة “تشيوس” بمناظرها الساحرة، كما أن الهدوء الذي تتميز به شواطئها يضيف لها سحراً خاصاً ويجعلها قبلة لراغبي الاستجمام والهدوء.
- لا تزال أسواق وشوارع الجزيرة تحتفظ بطرازها القديم، ما يجعل الجزيرة بمثابة متحف أثري مفتوح.
- تاريخياً تعتبر جزيرة “تشيوس” مسقط رأس الشاعر الإغريقي هوميروس مؤلف الملحمتين الشهيرتين “الإليادة والأوديسا”.
***
هذا ما تمكنت من جمعه من معلومات صحافية حول هذا الموضوع. وبقراءة سريعة لهذه النقاط توصلت إلى أن أغلب ما هو متداول
تنقصه الدقة بشكل فادح، وأن كله سمك لبن تمر هندي. وأن الأخبار المتداولة مصدرها معلومات مغلوطة مدعومة بحقائق ومعلومات خاطئة من ويكيبيديا.
وفيما يلي بعض النقاط التي قد تساعد على توضيح الأمور وإزالة اللبس.
***
نحن كمصريين لا نعلم تفاصيل اتفاقية ترسيم الحدود التي وقعتها الحكومة المصرية مع الحكومة اليونانية عام ٢٠١٥، وأي جزر ضمت أو استبعدت.
جزيرة “تشيوس” لم تكن أبدا من ضمن الممتلكات المصرية، لا في القرن التاسع عشر ولا في القرن العشرين. لا توجد جزيرة يونانية بهذا الاسم أصلا. هناك جزيرة يونانية اسمها Χίος وتكتب بالحروف اللاتينية Chios، وتنطق باليونانية خيوس. هذه الجزيرة تقع في شرق بحر إيجة قبالة مدينة تششمة التركية القريبة من مدينة إزمير التركية أيضا.
أما اسمها العربي أثناء الحكم العثماني فهو صاقز، وهذا هو الهجاء التي تظهر به في الخريطة الشهيرة للبحار العثماني الألمعي بيري ريس
١٤٦٥-١٥٥٥ .
أيا كان اسم هذه الجزيرة، فلا توجد، ولم توجد، لمصر ممتلكات عليها.
هناك بالفعل جزيرة يونانية توجد عليها ممتلكات مصرية تابعة للأوقاف. هذه الجزيرة اسمها
Θάσος وتكتب بالحروف اللاتينية Thasos
وتنطق باليونانية ثاسوس. أما اسمها العثماني فهو “طاشيوز”. وأغلب الظن أن موظف وزارة الأوقاف اختلط عليه الأمر عن أي الجزيرتين تمتلك مصر فيها أوقافا: تشيوس أم طاشيوز.
جزيرة ثاسوس/طاشيوز تقع أيضا في بحر إيجة، ولكن في أقصى الشمال قبالة سواحل مدينة قولة / كافالا / اليونانية.
وبالرغم من أن جزيرة خيوس/تشيوس/صاقز أقرب لمصر من جزيرة ثاسوس/طاشيوز، إلا أن الأخيرة هي التي تمتلك مصر فيها أوقافا، ولكني أشك أن الجزيرة تخضع لاتفاقية ترسيم الحدود الموقعة عام ٢٠١٥.
***
أما قصة هذه الممتلكات المصرية على جزيرة ثاسوس / طاشيوز، فقصة طريفة ومهمة، هذا ملخصها:
تبدأ القصة ليس في بحر إيجة بل في صحاري الحجاز. فبعد استيلاء الوهابيين على مكة عام ١٨٠٣ وعلى المدينة المنورة عام ١٨٠٤ أمر السلطان العثماني، سليم الثالث، الولاة التابعين له بتجريد حملة على الحجاز لاستخلاص الحرمين الشريفين من قبضة الوهابيين وأعوانهم السعوديين. وبعد أن وصل محمد علي للحكم في مصر عام ١٨٠٥، وبعد اعتلاء السلطان محمود الثاني أريكة السلطنة عام ١٨٠٨ تكررت أوامر الآستانة للقاهرة بتجريد حملة على الحجاز. بعد تقاعس دام ستة سنوات، أنفذ محمد على حملته الشهيرة بقيادة ابنه طوسون عام ١٨١١.
وبعد ثمانية عشر شهرا من القتال، نجح طوسون في طرد الوهابيين من المدينة المنورة في ديسمبر ١٨١٢. وعلى الفور أرسل محمد علي حامل مفاتيحه، لطيف أغا، إلى الآستانة ومعه مفاتيح المدينة بالإضافة إلى ٣٠٠ زوج من الآذان التي كانت قد بترت من جثث زعماء قبائل الوهابيين. واستقبلت الأنباء بالبهجة العارمة في الآستانة. وفي الشهر التالي (يناير ١٨١٣) استولى طوسون على مكة وكتب إلى أبيه يقول إنه كان قد نجح في زيارة المسجد الحرام ومقام إبراهيم في مكة. وكتب نحو واحد وثلاثون من كبار مشايخ مكة وأئمتها إلى محمد علي يشكرونه على تطهير المدينة المقدسة من الوهابيين وجاء في عريضتهم الكلمات الآتية: “ويعرضون بين يدى سيادتكم الفاخرة، بأنه قد وفدت عساكركم المنصورة، التى حفت بألوية التأييدات الالهية المنشورة، فأنقذتموهم من أيدى أولئك الشروق الخوارج المعتدين الطغاة، البغاة الملحدين، الذين سعوا فى جزيرة العرب بالفساد، وزيفوا عقايدهم بالحلول والإلحاد، واستحلوا دماء أهل الإسلام، وصدوا كل وافد إلى بيت الله الحرام، فشكراً لله صنيعكم على هذه النعمة العظيمة، والهمة العالية الكريمة، وجزاكم بأفضل الجزا فى الدنيا والآخرة”.
ولحرصه على إظهار ولائه للسلطان، لم يُضِع محمد علي وقتا وأرسل ابنه الثالث، إسماعيل، وهو في السابعة عشرة من العمر آنذاك، إلى الآستانة ومعه مفتاح المدينة المقدسة. لم يكن هذا بالإنجاز الهين، ولكي يظهر تقديره الشخصي لتابعه، كرم السلطان إسماعيل بحفل استقبال فخم دعي إليه جميع رجال الدولة، بل وفي لفتة نادرة جدا ظهر السلطان بشخصه واستلم مفتاح المدينة بيديه. ومكافأة لطوسون على استرجاع المدينتين المقدستين إلى الحظيرة العثمانية واسترداده بهذا هيبة السلطان، خلع السلطان محمود عليه ولاية جدة. كما عينه شيخ مكة. ومما كان له أهمية مساوية عند محمد علي ذلك الفرمان الذي تلقاه ويبلغه بصدور فتوى تسمح للسلطان محمود بإضافة لقب “غازي”، أي الفاتح، إلى
ألقابه السلطانية عرفانا بانتصاره على الوهابيين.
واستجاب السلطان بأن سمح له بإنشاء وقف من إيرادات طاشيوز. وكان هذا الوقف سيستخدم لبناء مجمع تعليمي هائل ضم مدرستين ابتدائية وإعدادية، و”عمارة” أي مطبخ لإطعام الفقراء والمحتاجين، ومسجدا وحماما . كانت “عمارة محمد علي”، كما صار هذا الوقف يعرف، تتسع لمبيت ما يزيد على 100 طالب وتقديم التعليم المجاني والطعام لهم طوال مدة إقامتهم. كان هذا أبكر، وبكل الاعتبارات أكبر، مؤسسة تعليمية أنشأها محمد علي.
ومن المهم توضيح معني كلمة “عمارة” هنا. فكالكثير من الكلمات العربية اتخذت هذه الكلمة معنى مغايرا عندما دخلت للغة التركية. فكلمة “عمارة” التركية لا تعني بناية كما هو
الحال في عربيتنا الحديثة، بل تعني وقفا خيريا يقوم بإطعام الفقراء والمساكين وأبناء السبيل.
وبمرور الوقت، ازدادت “عمارة محمد علي بقولة” شهرة وذاع صيت مصر وواليها في أنحاء قولة بل في كل أنحاء الدولة العثمانية. فهذه لم تكن “عمارة” صغيرة هينة، بل كانت عظيمة في مبانيها غنية بحدائقها وملحقاتها. كما كانت عظيمة في مصادر وقفها. فجزيرة طاشيوز هي الأخري لم تكن جزيرة صغيرة بل كانت من كبيريات جزر بحر إيجة. كما عملت إدارة الأوقاف الخديوية، وهي الإدارة التي كانت تشرف على الجزيرة، عملت على تعظيم الريع العائد منها، والذي كان مصدره الأساسي معاصر الزيتون ومناحل العسل. كما أضافت إدارة الأوقاف الخديوية لجزيرة طاشيوز أراضي وأطيانا في دلتا النيل للصرف على عمارة قولة. ونظرا لأهمية هذا الوقف كمصدر للخير وللشهرة معا، نالت عمارة قولة اهتمام كل خلفاء محمد علي حتى أن الخديو اسماعيل تذرع به لكي يزيد من تحكمه على جزيرة طاشيوز ويتدخل في شئون مدينة قولة الداخلية بالإضافة إلى تدخله في شئون البلدات الأخرى المحيطة بقولة مثل بلدتي نصرتلي ودراما (التي تأتي منها عائلة الدرمللي) الواقعتين شمالي قولة. ووصل به الأمر لأن طلب من السلطان عبد الحميد أن يسمح له بإرسال فرقاطة حربية لتجوب مياة طاشيوز والدفاع عنها من هجمات القراصنة الذين كانوا يطمعون في الجزيرة نظرا للإصلاحات التي أحدثتها مصر فيها على مدار العقود السابقة. ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن السلطان العثماني لم يعطِ جزيرة طاشيوز لمحمد علي كمِلك، بل منحه إياها كحق انتفاع نظير خدماته في الحجاز وفي مقابل بنائه للعمارة في قولة. بمعنى آخر، كانت طاشيوز هي مصدر الوقف، وعمارة قولة مصرفه. وكانت طاشيوز نفسها، أو على الأقل أجزاء منها، وقفا وليست مِلكا. وكانت إدارة الأوقاف الخديوية هي المعنية بإدارة الجزيرة وزيادة ريعها. ظل الأمر على هذه الحال إلى أن اندلعت حرب البلقان عام ١٩١٢ ثم الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤ ثم انهيار الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية عام ١٩٢٣. وفي أعقاب الحرب العالمية الأولي وتوقيع اتفاقيات عديدة بين اليونان والجمهورية التركية الوليدة اتفقت الدولتان على حل المنازعات العديدة حول ممتلكات الأتراك واليونانيين القابعة في بلديهما. وبناء على هذه الاتفاقيات تنازلت تركيا عن كل الممتلكات العثمانية التي أصبحت داخل اليونان. وهنا ظهرت مشكلة ملكية “عمارة قولة” ، فهي أولا كانت قد تحولت لوقف أي أنها خرجت من حيز الملكية، ثم أنها ثانيا لم تكن تابعة للدولة العثمانية بل كانت قد وهبت لحاكم مصر، ولكن، وثالثا، مصر نفسها وإن كانت خاضعة للدولة العثمانية إلا أنها قد استقلت عمليا، وإن لم يكن قانونيا، منذ حكم محمد علي، ورابعا فإن مصر وجدت نفسها أثناء الحرب العالمية الأولي تقع تحت الحماية البريطانية. كل هذه الأمور عقّدت وضع “عمارة قولة” والأوقاف المصري في جزيرة طاشيوز / ثاسوس. وبمرور الوقت، ومع استيلاء الدولة المصرية على الأوقاف كلها، بل مع تدهور حال مصر بشكل عام طوال القرن العشرين ضعفت السيطرة المصرية على الأوقاف المصرية في جزيرة طاشيوز وعلى عمارة قولة سواء بسواء. الأمر الذي نجد له أثرا واضحا في عدم إلمام موظف وزارة الأوقاف باسم الجزيرة التي توجد عليها الأراضي المفترض أن وزارته تباشرها وتشرف عليها.
أما “العمارة” نفسها فعانت من الإهمال والتخريب على مدار العقود، حتى أن مبانيها تلفت وجدرانها تهدمت وبالطبع توقفت عن أداء دورها التعليمي وانتهى بها الحال إلى أن تحولت لملجأ للاجئين النازحين من الحروب.
ولكن من أنقذ هذا الصرح الضخم من الانهيار التام هي سيدة جليلة، اسمها آنا مصريان، تنحدر من قولة نفسها (ولا تمت بصلة بمصر بالرغم من اسمها) رأت هذه الأثر الجميل يندثر بسبب الإهمال وعدم المتابعة. فتواصلت مع وزارة الأوقاف المصرية منذ حوالي ١٥ عاما ووقعت عقد إيجار لمدة خمسين سنة. ثم قامت بأعمال ترميم وتجديد وصيانة لا مثيل لها حازت إعجاب وموافقة جميع المتخصصين واستطاعت أن تعيد للمبنى رونقه وجماله، وحولته لفندق خمسة نجوم أصبح الآن مقصدا للسائحين. كما صممت هذه السيدة الجليلة على وضع علم مصر عاليا على مدخل الفندق، الذي اسمته
Imaret
وهو النطق اليوناني للكلمة العربية/التركية: عمارة.
وحسب علمي فإن إيجار “العمارة” يسدد بانتظام وبالتمام والكمال، وأغلب الظن أن ما يشاع حاليا عن إيجار غير مدفوع يتعلق بأطيان جزيرة طاشيوز وليس بعمارة محمد على بقولة.
أما الأوقاف المصرية على جزيرة ثاسوس / طاشيوز فقد قامت بعثة من مركز توثيق التراث الطبيعي والحضاري التابع لمكتبة الإسكندرية بزيارتها وتوثيقها عام ٢٠٠٧.
***
هذا، حسب معلوماتي، هو الوضع الحقيقي للجزيرة اليونانية التي تمتلك مصر عليها أملاكا. ومما سبق يتضح مقدار الخلط واللبس الذي شاب النشر عن هذا الموضوع. فكل المقالات التي اطلعت عليها مبنية على معلومات مغلوطة وبيانات ناقصة. ولكن من المهم جدا التأكيد أن هذا اللبس وهذه المغالطات ليسا نابعين من إهمال الصحافيين أو كسلهم بقدر ما هو نابع من نقص المعلومات المتاحة ومن سياسة إعلامية إظلامية ما برحت الدولة المصرية تتبعها منذ نيف وستين عاما.
المعلومات التي أوردتها في هذا البوست مستقاة كلها من دار الوثائق القومية (بالإضافة إلى زيارات شخصية قمت بها لطاشيوز ولقولة.) هذه الدار المفترض أنها تخدم الجمهور، وهي تحتوي على مصادر تاريخنا التي يجب أن تكون متاحة لنا. ولكن نظرا لسياسة أمنية عقيمة وبالية تتحكم الدولة في هذه المصادر وتمنعها عن جموع المصريين، وتتيحها لحفنة من المواطنين تُخضعهم لتفتيش ومراقبة دقيقين قبل أن تمنّ عليهم وتسمح لهم بالاطلاع على مصادر تاريخهم. وإن كنت أنا واحدا من المحظوظين الذين تمكنوا من الولوج لهذا الكنز الوطني، فقلبي يعتصر ألما كل مرة أجد باحثا نابها أو صحفية مجتهدة يمكن أن يجدا ضالتهما في دار الوثائق القومية ولكن تقف الأجهزة المسماة “بالسيادية” عائقا دون ذلك.
مشكلة جزيرتي تشيوس/صاقز وثاسوس/طاشيوز، مثلها مثل مشكله جزيرتي تيران وصنافير، تكمن، جزئيا، في وجود دولة على راسها بطحة، دولة تخشى أن تتيح المعلومات التاريخية وغير التاريخية للشعب، دولة تحتكر لنفسها الحق في توقيع المعاهدات وترسيم الحدود والتنازل عن الأرض دون السماح للشعب – صاحب الأرض والمدافع عن الحدود بدمه – بمراقبتها. ولكن كما رأينا في قضية تيران وصنافير، لا يضيع حق وراءه مطالب، وسيأتي يوم يمتلك هذا الشعب مصادر تاريخه، ولو بعد حين. وعندها ستتحول تلك الأجهزة السيادية إلى أجهزة ينحصر دورها في حماية الحدود وليس في مراقبة العقول.