الأستاذ محمد المهندس كتب بوست ثاقبا يتنقد فيه بمعمق (ولكن بعفة ورقة يحسد عليهما) ما كتبته هنا من يومين اعتراضا على فتوى الشيخ القرضاوي التي يبرر فيها العمليات الانتحارية (البوست في أول تعليق). وقد كتبت له ردي على انتقاداته الوجيهة ونشرتها على صفحته. ؤأنا أعيد نشرها هنا تعميما للفائدة وتوضيحا لموقفي.
عزيزي الأستاذ محمد،
أشكرك شكرا جزيلا على تعقيبك الثاقب وعتابك الرقيق. وأشكرك أيضا على توضيحك لي الكثير من النقاط التي كانت خافية علي.
وأود أن أبادلك بعض الأفكار لعلها توضح سبب صدمتي العميقة من رأي الشيخ القرضاوي واختلافي العميق فيما ذهب إليه في فتواه.
أولا، أنا لم أكن على دراية بآراء الشيخ القرضاوي المنشورة في كتابه فقه الجهاد، أو التوضيح الذي نشره مكتبه عام ٢٠١٥ توضيحا لمقطع الفيديو الذي نشرته على صفحتي. كما أني لا علم لي بما قام به عبد الله بن زايد من نشر لهذا الفيديو، وأسبابه من وراء ذلك.
ثانيا، أنا ما زلت أرى أن ما جاء في الفيديو لا علاقة له بفلسطين والاحتلال الإسرائيلي. الفيديو به إجابة الشيخ على سؤال واضح لا يشير فيه لفلسطين من قريب أو بعيد. السؤال يشير للوضع السوري حصرا وتحديدا.
ثالثا، ما هالني ليس فقط تبرير الشيخ للعمليات الاستشهادية بل أيضا تعليله لذلك. فالشرط الوحيد الذي وضعه هو ألا يكون هذا الفعل فعلا فرديا بل يجب أن يكون مشروطا بموافقة الجماعة. أنا واقف بالطبع على دلالة كلمة “الجماعة” وخلفيتها الفقهية، وأن المقصود بها ليس الجماعات المسلحة مثل تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها. على أنى ، ومن حيث المبدأ، ضد هذا المنطق برمته، أي ارتهان حياة الفرد برأي الجماعة، أيا كانت هذه الجماعة، دينية كانت أم علمانية، عسكرية كانت أم مدنية. لقد أمضيت سنوات طويلة من عملي الأكاديمي أدرس تأسيس الجيوش الحديثة والآليات التي تتحكم بها هذه الجيوش في أجساد جنودها وأرواحهم، وكتبت كتابا بأكمله أهاجم فيه هذا الحق الذي انتزعته الدولة الحديثة لنفسها باسم التجنيد، ولست مستعدا أن أتخلى عن اعتراضي المبدئي على تملك الجماعة لأرواح الآحاد من الناس لمجرد أن من يدعو لذلك ليس عسكريا بقبعة بل شيخا معمما.
رابعا، أنا من حيث المبدأ أقدس الحياة البشرية، وأرى أن الحق في الحياة حق أساسي لا يحق لأحد، أيا كان، أن ينتزعه. أنا عضو مؤسس في مجموعة ” ضد الإعدام” التي تجاهد لإلغاء أو على الأقل تعليق حكم الإعدام في مصر. وقد كتبت على صفحة المجموعة وفي أماكن أخرى أسباب اعتراضي المبدئي على هذه العقوبة البشعة. وبالتالي فأنا لا يمكن أن أقبل تبرير قتل الناس، خاصة إذا كانوا مدنيين عزل، تحت أي ذريعة، أيا كانت الظروف، حتى لو كانوا إسرائيليين.
خامسا، واستكمالا للنقطة السابقة، هناك سبب آخر لاعتراضي على تبرير العمليات الاستشهادية حتى في فلسطين. هذا السبب نفعي وليس مبدئيا، أي أنه مبني على التشكيك في النفع الذي يعود من تلك العمليات، وليس على التشكيك في أخلاقيتها. أنا أعترض على دولة إسرائيل جملة وتفصيلا، وأرى فيها نموذجا فجا لاحتلال استيطاني عنصري لا مثيل له في عصرنا الحالي. وأرى أن الفلسطينيين في الضفة والقطاع والداخل والمهجر يتعرضون لظلم بيّن قلما تعرض له شعب في تاريخنا المعاصر. ولكن فلسطين التي أمضيت عشرين عاما أدرس تاريخها وأدرّسه لطلابي أبغيها رحبة تتسع لمسلميها ومسيحييها ويهودها. الدولة التى أحلم بها في فلسطين دولة لا مكان للصهيونية فيها، دولة واحدة، ثنائية القومية يعيش فيها العرب، مسلمون ومسيحيون، مع اليهود، الأشكيناز والسفارديم، على قدم المساواة، ينعمون فيها بنفس الحقوق ويقومون بنفس الواجبات. هذه الدولة بالطبع بعيدة المنال، وذلك الحلم يبدو عصيا على التحقق. ولكن فتوى الشيخ القرضاوي، وتصويبه لها، لا يجعلان تحقيق هذا الحلم أسهل.
في النهاية، أكرر شكري لك على رحابة صدرك ونقدك الرقيق لكلامي. وأرجو أن أكون قد أوضحت سبب انزعاجي الشديد من كلام الشيخ القرضاوي واستنكاري العميق لموقفيه من العمليات الانتحارية، سواء ذلك الذي أتى بمقطع الفيديو، أو الذي صوبه لاحق. وبعد هذا التوضيح لا أعتقد أننا سنتفق تماما في الرأي أو الحجة، لكني آمل ألا يفسد اختلافنا في الرأي للود قضية. مع تقديري واحترامي، خالد فهمي