نُشر في “فيسبوك” في ٢٣ مارس ٢٠١٦
لو عاوز تعرف سبب الهجمة الأخيرة على منظمات المجتمع الأهلي، أقرأ التحقيق دا اللي كاتباه بيسان كساب في “مدى مصر” . بيسان عامله شغل ممتاز ومتتبعة مراحل تأسيس صندوق تحيا مصر من أول يونيو ٢٠١٤ لحد دا الوقت، وبتوضح إزاى الصندوق ال بلغت إراداته ٤،٧ مليار جنيه بيدار “خارج الموازنة العامة للدولة دون رقابة تذكر،” حسب أسامة دياب، مسئول ملف الفساد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
المبادرة المصرية اللي أسسها حسام بهجت من أهم جمعيات حقوق الإنسان في مصر. على مدار أكتر من عشر سنين وثقت حالات عديدة لانتهاكات حقوق الإنسان تحت حكم مبارك، والمجلس العسكري، والإخوان، والسيسي. وقدمت دعم حقوقي للعديد من ضحيا الانتهاكات دي. وكتبت تقارير بالغة الدقة والأهمية والريادة عن مواضيع تتعلق بأصعب الملفات ال مجتمعنا بيواجهها: البيئة، الدعم، الإرهاب، الحريات السياسية، قانون الخدمة المدنية، تحكم الدولة في المجال الديني، سياسات الإسكان، قانون التظاهر، النيابة العامة، قضايا الرأي وازدراء الأديان — وكل دا من منظور حقوقي. التقارير دي تعتبر بحق من أدق وأهم ما كتب عن مصر في السنين الأخيرة، وتأثيرها عميق وبالغ الأهمية، لأنها مكتوبة بحرفية وبشفافية ومنهجية علمية صارمة. والواحد بالفعل شايف تأثيرها في المجال الأكاديمي: الكتب الأكاديمية المنشورة عن مصر بالإنجليزية بتستشهد بتقارير المبادرة وتعتمد عليها لمصداقيتها ومهنيتها، زي بيسان كساب ما بتستشهد في التحقيق دا بكلام أسامة دياب، مسئول ملف الفساد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. شباب المبادرة، ومعاهم زمايلهم في “نظرة” و”الشبكة العربية“، و”مركز التنديم” وغيرهم من مؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان، بيقولوا: “دي بلدنا، واحنا خايفين عليها. وشايفين إن مسئوليتنا إننا نقعد فيها ونشتغل على القضايا الحقوقية فيها وندافع عن المظلومين وضحايا حقوق الإنسان، ونفضح الفساد مش بس الشخصي ولكن الممنهج، ونرفع الوعي العام ونوضح للناس الحقائق بالوقائع والأرقام والتحليل.”
أما الدولة بمؤسساتها كلها فمش مستوعبة الشغل دا. مين العيال دول؟ إيه اللي شاغلهم؟ مين اللي بيحركهم؟ جابوا العلم دا منين؟ مين انتم؟ بالنسبة للدولة، العيال دي يا إما هُبل وعُبط ومش فاهمين إن شغلهم دا بيهدد استقرار البلد وإن دا مش وقته (“تنظير بعيد عن الواقع”)، في أحسن الظروف، أو عملاء وخونة ومأجورين، في أسوأها. الدولة مش قادرة تفهم إن على قد شغل منظمات حقوق الإنسان ما هو صادم ومحرج إلا إنه شغل جاد ورصين. الدولة مش قادرة تفهم إن مصلحتها هي، قبل ما تكون مصلحة غيرها، تكمن في الاستماع لمنظمات حقوق الإنسان، وللانتقادات العميقة اللي بتقدمها المنظمات دي لأن المنظمات دي بصراحة قدمت الحاجة اللي الأحزاب فشلت في تقديمها على مدار الأربعين سنة اللي فاتت: قراءة عميقة للواقع المصري، واقتراحات عملية لسبل تحسين الواقع دا. لكن بدل ما تستمع للآراء دي، وبدل ما تعتبرها آراء صادقة تعبر عن إحساس عميق بالمسئولية ونتاج جهد مضني، الدولة قررت تتعامل مع المنظمات دي من منظور أمني: “منين جبت الفلوس دي؟ رحتي بروكسيل ليه وقعدتي مع مين هناك؟ إيه علاقتك بمركز كذا وبفلان الفلاني؟” وبدل ما تفتح المجال قدام الجمعيات دي علشان تشتغل وتحتوي طاقة الشباب في عمل سلمي ومسئول ووطني، قررت تفرض عليهم وصايتها وتخيرهم بين العمل تحت رقابة خانقة ومقيدة وقاتلة (قانون الجمعيات) أو الإغلاق والسجن.
ما حدش بيقول إن الأمن ما لوش دور في اللحظة ال إحنا فيها، أو إن “الأجهزة السيادية”، يعني المخابرات العامة والمخابرات العسكرية وأمن الدولة، يقعدوا في البيت. لكن الحنكة السياسية بتقول إن المصلحة الوطنية واستقرار البلد بيتطلبوا المواءمة بين العقلية الأمنية وبين الحلول السياسية. وأهم الحلول السياسية هي فتح المجال العام واحترام أهم قواعد العمل السياسي: حرية الرأي وحرية الاجتماع السلمي. من غير احترام الحقين دول يبقى مفيش سياسة أبدا. من غير ما نسمح للناس إنها تتكلم وتقعد وتتناقش وتتبادل الرأي وتنتج فكر وتنشر الفكر دا علنا وبحرية، يبقى مفيش أمل ومفيش مخرج من مشاكلنا العميقة والمستعصية. ومن غير سياسة مفيش أمن، ببساطة ووضوح. أما ال بيقول: دا مش وقت حقوق إنسان، دا وقت التصدي للإرهاب، فالرد عليه هو: بالعكس، دا هو تحديدا وقت التمسك بحقوق الإنسان وبالقانون وبالدستور.
وقت الأزمات هو تحديدا الوقت ال لازم نتمسك فيه بالقانون لأن من غير قانون ومن غير حقوق إنسان ومن غير دستور نبقى احتكمنا لقانون الغابة، وفي قانون الغابة ممكن فعلا القوي ينتصر، لكن تكلفة الانتصار ممكن تكون قاتلة. في تعبير بالإنجليزي عن الانتصار دا :Pyrrhic Victory، يعني انتصار تكلفته عالية جدا لدرجة إنه، عمليا، مساوي للهزيمة. المسار ال الدولة واخدانه فيه يبدو لي على إنه مسار هتنتصر الدولة فيه علي الإرهاب في النهاية، ولكن تكلفة الانتصار ده هتكون التضحية بالمجتمع وبمؤسساته وبجيل كامل باعتبره من أخلص وأشجع وأكفأ الأجيال ال مصر شهدتها في تاريخها الحديث.
إحنا فعلا عاوزين ننتصر على الإرهاب، وعاوزين نساند الدولة في تصديها للإرهاب. لكن في وسط الأزمة العميقة دي مش لازم أبدا نضحي بالمجتمع وباستقراره، ولا بحرياتنا وحقوقنا. لإن ببساطة لو فرطنا في حقوقنا دي يبقى الإرهاب هو ال انتصر.