نُشر في فيسبوك في ٢ ديسمبر ٢٠١٥
انتهيت لتوي من متابعة الجلسة الماراثونية لمجلس العموم البريطاني المخصصة للتصويت على طلب رئيس الحكومة، دافيد كاميرون، بالسماح له بشن غارات جوية على داعش في سوريا (هناك بالفعل تصريح بقصف داعش في العراق صوّت عليه المجلس العام الماضي بأغلبية كبيرة). بعد عشرة ساعات من النقاش الحامي جاءت نتيجة التصويت كالتالي: ٣٩٧ صوتا مع قرار الحكومة، أي مع القصف، في مقابل ٢٢٣ صوتا ضد القصف. وبالتالي فسلاح الجو الملكي يمكن أن يبدأ غاراته ضد دعاش في الرقة في غضون ساعات قليلة (انطلاقا من قبرص).
من أهم النقاط التي أثيرت من الجانبين النقاط التالية: موقف المعارضين للقصف، وعلى رأسهم جيرمي كوربن، زعيم حزب العمال: القصف الجوي وحده لن يهزم داعش. القوات البرية الموجودة على الأرض مشذرمة، والحكومة لم توضح كيف ستستفيد هذه القوات من القصف الجوي للقضاء على داعش. من المؤكد أن القصف الجوي سيؤدي إلى مقتل مدنيين أبرياء. على المدى الطويل، داعش يقوى بالقصف والحرب وليس العكس، إذ أنه ينجح في استقطاب وجذب أنصار جدد. يجب التركيز على البدائل الديبلوماسية والاقتصادية حتى نهزم داعش. القصف الجوي سيزيد من تعقيد وضع الحرب الأهلية في سوريا. الحلول العسكرية أثبتت فشلها في أفغانستان والعراق وليبيا، بل أن هذه “الحلول” نفسها هي التي خلقت البيئة التي أنتجت داعش.
أما موقف المناصرين للقصف، وعلى رأسهم ليس فقط رئيس الوزراء، دافيد كاميرون، ووزير خارجيته، فيليب هاموند، بل أيضا وزير خارجية حكومة الظل، هيلاري بن (الذي تمرد على رئيسه كوربن): لا مهادنة مع تنظيم مثل داعش، فداعش فاشيون، والفاشيون يجب أن يقاتَلوا ويُهزموا. القصف الجوي أثبت نجاحه في الماضي القريب إذ أنه أوقف تمدد داعش. أجهزة الاستخبارات البريطانية تقدر حجم قوات المعارضة الموجودة على الأرض بسبعين ألف مقاتل. هؤلاء محتاجون لغطاء جوي يساعدهم في عملياتهم ضد داعش. هناك غطاء قانوني متمثل في قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٤٩ (الصادر يوم ٢٠ نوفمبر الماضي) الذي يعطي لكل دولة الحق في استخدام “كل الوسائل الممكنة … للتنسيق فيما بينها … للحد من الأعمال الإرهابية التي يقوم بها داعش ويوقفها.” لا يمكن السكوت على أعمال القتل والاغتصاب والذبح والسبي التي يقوم بها داعش. لا معنى للسماح بحرب داعش في العراق والامتناع عن حربه في سوريا، حيث رأس الأفعي (الرقة). إذا لم يقم سلاح الجو الملكي بضرب داعش في عقر داره فمن الممكن أن يقوم داعش بعمل إرهابي في لندن كما حدث في باريس. يجب الوقوف مع حلفائنا في فرنسا والولايات المتحدة وغيرهما وعدم التقاعس عن مساعدتهم.
وكما هو واضح، فلكل جانب حججه القوية، واعتقد أن المجتمع البريطاني، وليس فقط حزب العمال، منقسم بشدة، وأن هذا الانقسام يعكس نفسه في كل مدينة وكل حي وكل بيت. هذا، ومع انبهاري بالكلمة القوية التي ألقاها هيلاري بن مدافعا عن قرار القصف ومتمردا على حزبه، إلا أنني ما زلت مقتنعا بخطأ هذا الاختيار، وما زلت مقتنعا بآراء أبي هيلاري بن، طوني بن، الذي كان عضوا في مجلس العموم لمدة تقارب النصف قرن، والذي ألقي هو الآخر خطابا ناريا عام ١٩٩٨ معارضا ضرب العراق، وهو الموقف الذي ثبت صحته في النهاية.
تصويت اليوم في مجلس العموم ستكون له تبعات خطيرة، ولكني أود التوقف عند نقطتين تتعلقان بالإجراءات لا المحتوى. الإجراءات مهمة. ولا أقصد القواعد البيروقراطية التي تحكم طريقة عمل مجلس العموم، ولكن أقصد الأسلوب الديمقراطي الذي يتعامل به المجتمع البريطاني مع هذا الخطر المحدق.
الكل في بريطانيا مهموم بداعش، فبعد هجمات باريس، وقبلها تونس، حيث لقى ٣٣ سائحا بريطانيا مصرعهم على أيدي داعش، لا أحد في بريطانيا يمكنه أن يتغاضى عن هذا الخطر. فكما ذكّرنا الصديق عمرو غربية منذ يومين، رئيس الوزراء الفرنسي إبان الحرب العالمية الأولى، جورج كلمنصو، له مقولة مؤثرة: “الحرب أهم من أن تترك للجنرالات”. وكأن المجتمع البريطاني اليوم أدرك أهمية هذه المقولة، فأخذ يتدبر أمره ويتمسك بحق البرلمان في إعلان الحرب وفي رسم الخطوط العريضة لها. أما تفاصيل التنفيذ فتلك يجب أن يقوم بها رجال الحرب، أي الجنرالات.
أنا لست سعيدا بالقرار الذي اتخذه اليوم المجتمع البريطاني، ممثلا في برلمانه، إذ أني على يقين بأننا سندفع ثمنا فادحا له، ولكن هذا لا يمنعني من الإعجاب بالطريقة الديمقراطية التي يدير بها المجتمع نقاشاته ويتعامل مع اختلافاته. هذا ليس كلام إنشاء. فأنا لا أقلل من خطر داعش ولا أتهاون مع الإرهاب الذي يمثله ويقوم به. لكني مقتنع بأن الإرهاب لا يمكن أن يهزم بالحرب فقط، ولا الحلول الأمنية كفيلة بالقضاء عليه. الديمقراطية بما تحمله من معاني لقبول الاختلاف وبما تتضمنه من أساليب لإدارة هذا الاختلاف هي الوسيلة الأنجع لمواجهة الإرهاب. أما الاصطفاف وراء الحلول العسكرية في الحرب على الإرهاب دون نقاش أو مساءلة – هذا تحديدا هو الأسلوب الذي يتفهمه تنظيم مثل داعش ويزدهر تحت لوائه. أما النقطة الثانية التي أود التوقف عندها، هي أسلوب جيرمي كوربن، زعيم حزب العمال، في خوض هذا النقاش اليوم. صحيح أنه يبدو أن كوربن بدا وكأنه خسر خسارة كبيرة اليوم، فنتيجة التصويت جاءت في صالح الحكومة بفارق كبير. والأخطر من ذلك أن ما يقرب من ٦٥ عضوا من حزبه صوّت مع الحكومة. بل أن وزير خارجية حكومة الظل نفسه صوت ضد الحزب ومع الحكومة، وألقى واحدا من أقوى الخطابات في تاريخ مجلس العموم (حسب وصف فيليب هاموند).
ولكني أعتقد أن كوربن يخوض معركة أقوى وأعمق وأهم من معركة تصويت اليوم. ذلك أنني أري كوربن يحاول الالتفاف ليس فقط حول أعضاء حكومة الظل بل أيضا حول أعضاء البرلمان من حزبه وذلك للوصول إلى القاعدة الانتخابية العريضة للحزب. تلك القاعدة (التي استطاع كوربن أن يتواصل معها وأن يوسعها بشكل لم يسبق له مثيل) هي عماده في تغيير طريقة عمل الحزب. كوربن اتخذ قرارين حاسمين في سبيل إحداث طفرة في أداء الحزب: الأول هو استخدام اللقاء الأسبوعي في البرلمان المخصص لمساءلة رئيس الوزراء لتوصيل استفسارات الناخبين مباشرة وقراءة رسائلهم، وبالتالي توصيل صوت العامة داخل قاعة البرلمان. هذا إجراء لا يجب التقليل من أهميته، إذ أنه يوسع من مشاركة العامة في العملية الديمقراطية، ولا يحصرها في الصندوقراطية، أي عملية الاقتراع مرة واحدة كل أربعة سنين أو خمسة. الإجراء الثاني الذي اتخذه كوربن كان السماح لأعضاء حزبه في البرلمان بالتصويت حسب ضمائرهم وليس حسب قرار الحزب كما تنص التعلميات، وهو الإجراء الذي يفسر حجم الانشقاق في حكومة الظل وفي الكتلة البرلمانية. لأول وهلة يبدو هذا الإجراء كإجراء احترازي، حاول به كوربن أن يقلل من خسائره وأن يممنع استقالات من حكومة الظل إذ هو تمسك بفرض رقابة محكمة على تصويت الكتلة البرلمانية على قرار الليلة. ولكني أعتقد أن كوربن أذكى من ذلك، وأنه يفكر فيما أبعد من تصويت الليلة. أعتقد أن كوربن يراهن على القاعدة الانتخابية العريضة، الأغلبية الصامتة، لحزبه، ويحاول أن يعيد بناء القاعدة العمالية والنقابية والطلابية للحزب بعد أن تآكلت نتيجة عقود من الهجمات الثاتشرية والنيوليبرالية. هذه القاعدة تكره الحرب، وتود أن ترى بديلا للحلول العسكرياتية في مواجهة الإرهاب الدموي الذي يمثله داعش. وأعتقد أن كوربن، لو آمن فعلا لهذه القاعدة ولم يخنها، يمكن له أن يصيغ هذا البديل.