Press "Enter" to skip to content

علي الرجّال وتأريخه للداخلية المصرية

نُشر في “فيسبوك” في ٤ اغسطس ٢٠١٥

منذ عدة أيام نشر علي الرجال مقالا هاما في “السفير” اللبنانية بعنوان “الداخلية: أساس الحكم والحداثة في مصر”. المقال تناول تاريخ مؤسسة الداخلية في مصر عبر القرنين الماضيين، ولفت فيه علي الرجال النظر إلى أن الداخلية برغم من تحكمها في حياة المصريين عن طريق أجهزتها البيروقراطية وأدواتها القمعية وآليات المعرفة التي تهيمن عليها – بالرغم من كل هذا، لم تحظ باهتمام الباحثين ولم تنل ما تستحقه من الدراسة الجادة.

أتمنى أن يكون مقال علي الرجال بداية دراسة طويلة عن هذه المؤسسة القمعية المحورية، وأظنه كذلك لما حواه من أفكار ورؤي عميقة الدلالة.

وكنت قد كتبت بالفعل بعض الملاحظات وشرعت في نشرها هنا على فيسبوك، ولكن من الواضح أنها ضاعت بشكل ما، فأعيد هنا صياغة تلك الملاحظات بعد قراءة المقال مرة ثانية والتمعن في أفكاره الهامة. وطبعا المقصود من هذه الملاحظات ليس فقط إبداء الإعجاب بالمقال ولكن المأمول أيضا دعوة الأصدقاء والزملاء للاشتراك في النقاش وإثرائه بتعليقاتهم وآرائهم.

أول نقطة أود الاشتباك معها تتعلق بقول علي في صدر مقاله إنه بعد أن ” غاب الجيش، إما بسبب معاهدة لندن ١٨٤٠ والهزيمة، أو بسبب فشل الثورة العرابية والاستعمار ١٨٨٢، حضرت الداخلية بكل قوتها.” تحفظي هنا نابع من اقتناعي العميق بأن ١٨٤٠ لم تكن هزيمة بل قمة نجاح محمد علي وتتويجا لجهوده في تأسيس حكم أسري. أنا مدرك، بالطبع، أن هذا للرأي مخالف للسردية القومية التي ألفناها، ولست أقصد هنا الدخول في تفنيد هذه السردية، ولكني أذكرها هنا بغرض لفت النظر لنقطة ثاقبة الدلالة أوافق علي عليها، وهي إحلال الداخلية محل الجيش كالمؤسسة القمعية الانظباطية بألف لام التعريف. فإذا سلمنا بأن ١٨٤٠ لم تكن هزيمة بل انتصارا ساحقا نال به الباشا ما كان يطمح له دائما، ألا وهو تأسيس حكم أسري دائم له ولذريته من بعده، لاتضحت لنا طبيعة سياساته في السنوات الثماني المتبقية لحكمه، أي ١٨٤٠ إلي ١٨٤٨.

ففي هذه السنوات، وبعد أن حقق الباشا أسمى أمانيه، وبعد أن استقر له الوضع، عمل على تسريح الجيش وتوجيه كافة جهوده لإصلاحات داخلية غاية في الخطورة والأهمية. وكان من أهم هذه الجهود الداخلية القيام بحصر شامل للسكان، فردا فردا، ذكورا وإناثا، أطفالا وشيوخا، “محليين”، “داخل الحكومة” و”حماية” و”إفرنك” (أي أجانب). هذا التعداد، الذي عرف بـ “تعداد النفوس”، شُرع فيه عام ١٨٤٦، ولكن تلك المحاولة الأولى فشلت، فتكررت المحاولة في العام التالي ولكنها فشلت هي الأخرى، ثم كللت الجهود بالنجاح في عام ١٨٤٨ بعد أن دخل الباشا الكهل في شيخوخة الموت. المهم في الموضوع أن هذا التعداد يعتبر من أهم مشروعات محمد علي قاطبة، وتحتفظ دار الوثائق بسجلاته التي يبلغ عددها أكثر من سبعة آلاف سجل فيها حصر دقيق لسكان مصر بتفاصيل عن أعمارهم، ومحلات إقامتهم، وصناعتهم، وحالتهم الصحية، وإثنيتهم. هذه هي قاعة البيانات التي مكنت الداخلية من التحكم في حياة المصريين من ميلادهم لوفاتهم، حرفيا لا مجازا.

وأظن أن أية محاولة للتأريخ للداخلية المصرية يجب أن تتوقف عندها طويلا ودراستها بشكل عميق: كيف تم هذا التعداد؟ هل قاوم السكان أو مشايخ القرى هذا المشروع الذي أعطى لما نسميه الآن “الدولة” حق احتكار البيانات الحيوية؟ كيف ساهم هذا المشروع في إحكام قبضة الداخلية على المجتمع، كيف حرصت الداخلية على مدار العقود على تحديث بياناتها عن المجتمع عن طريق التحكم في قيد الواليد، والمتوفيين، وإجراء تعدا عام للسكان كل عشر سنوات؟

ويجب هنا الإشارة للمجهود الضخم الذي بذله مجموعة من المؤرخين والإحصائيين في التسعينات الذين عملوا تحت إشراف أساتذة فرنسيين من السيديج مهم جيلان آلوم وفيليب فارج. فريق العمل الضخم هذا انكب على دراسة سجلات تعداد النفوس ونسر بعض الملاحظات المبدئية عليه، إلا أن النتائج النهائية للدراسة لم تنشر ليومنا هذا (وقد أكون مخطئا، فأرجو من الصديق نادي عبد الغفار الذي عمل في هذا المشروع إفادتنا عما حل به.)

ثاني نقطة أتحفظ بها على مقال علي الرجال هي قوله إن نقل مقر الحكم من القلعة لعابدين أثناء حكم الخديوي إسماعيل يمثل “النقلة الأخطر في الحوكمة في مصر”. أنا لا أقلل من أهمية نقل مقر الحكم من القلعة لعابدين، ولكني اعتبر ما ترمز له هذه النقلة قد تم بالفعل في فترة سابقة. فأنا أوافق علي في ملاحظته الثاقبة أن هذه النقلة توضح التحول من نمط من الحكم يبغي الإخضاع والسيطرة إلى نمط جديد يعمل على “إختراق الأنسجة الاجتماعية للسكان والتدخل في إنتاج حياتهم وضبطها.” ولكن إذا سلمنا بأهمية هذا التحول في مفهوم الحكم، فيجب أن نسلم أن هذا التحول قي حدث بالفعل في الأربعينات والخمسينات من القرن التاسع عشر وليس في ستيناته. كما يجب أن نسلم أن مركز الحكم انتقل من القلعة للأزبكية وليس لعابدين. فالأزبكية كان فيها مقر “ظبطية مصر”، التي كانت بمثابة مديرية أمن القاهرة الآن، وكانت بها “الاسبتالية المُلكية” التي كانت تتم فيها عميلة التلقيح ضد الجدري وجمع الإحصاءات الحيوية، كما كانت الأزبكية مقر “محافظة مصر”، والعديد من القنصليات الأوروبية. وقد يسعفني الأصدقاء عماد هلال ونادي عبد الغفار للتأكد مما إذا كانت الأزبكية أيضا مقر ديوان خديوي أو ديوان الداخلية. أتخيل أنه إذا أردنا الوقوف على الطور الأول لتشكل ممارسات ومؤسسات الداخلية علينا أن نولي “حقبة الأزبكية” عناية خاصة.

ثالث نقطة هي نقطة اتفق فيها مع علي في تأكيده على أن كثيرا من ممارسات الداخلية الآن له أصول كولونيالية أرسى قواعدها كرومر. فمن المعروف أن كرومر كان يولي نظارة الداخلية أهمية خاصة، وأنه بعد أن أحكم سيطرته على نظارة الأشغال حول جهوده للداخلية، التي كانت آخر نظارة خضعت له بعد مقاومة ضروس من نوبار ورجاله. وأدعو هنا الصديقين آرون جايكس وحسين عمر للإدلاء بآرائهما القيمة وخبرتهما العميقة عن هذه الفترة. وألفت النظر إلى ضرورة التنبه إلى أن كرومر حتى بعد أن دانت له الداخلية فإن قصر الخديوي استعصى عليه، فقد استطاع الخديوي عباس أن يبني شبكة اسخباراتية واسعة دانت بالولاء له وليس لنظارة الداخلية وكانت ترفع تقاريرها للخديوي مباشرة لتفادي القبضة المحكمة التي فرضها كرومر ومستشاروه الإنجليز على الداخلية. (وهذا الكلام مستوحى من دراسة ماثيو إليس عن عباس حلمي الثاني).

نقطة رابعة تتعلق بقول علي إن الداخلية، عكس الجيش، لم تشهد قطيعة واحدة طول تاريخها. لا أظن ذلك، بل اعتقد أن هناك العديد من المراحل التي تمثل قطيعة أو لحظات تمحور رئيسية في تاريخ تلك المؤسسة الهامة. صحيح أن الداخلية كانت دائما مؤسسة قمع وظبط ومعرفة. وصحيح أنها لم تخضع قط لأي رقابة مجتمعية، وأن ما يحكمها هو ولاؤها للقصر سواء كان قصر الدوبارة، أو قصر عابدين، أو قصر العروبة. وصحيح أيضا أنها قلب البيروقراطية المصرية النابض وبالتالي فإنها عصب الدولة المصرية وعمودها الفقري. لكن يصعب قبول مقولة أنها لم تشهد قطيعة طول تاريخها. فأظن مثلا أننا لو أخذنا الفساد كمعيار للحكم لاستطعنا الوقوف على لحظات تمثل قطيعة في تاريخ الداخلية، فالفساد الذي من أمثلته الدالة (لا الحصرية) دفع الإتاوات والرُشى، أو التعذيب في أقسام الشرطة، أو سوء استخدام السلطة في المحليات – كل هذا اختلف كما ونوعا من فترة الاحتلال الإنجليزي، للفترة الليبرالية، للفترة الناصرية، ثم السادات، ثم فترة مبارك، ثم فترة ما بعد الثورة.

وأدعو هنا حنان حماد للإسهام بدراساتها عن سياسات الصحة العامة والسيطرة في منتصف القرن العسرين.

وفي الختام لا يسعني سوى أن أشكر علي شكرا جزيلا على مقاله القيم، فكما يتضح من هذه الملاحظات العابرة، أثار مقاله العديد من النقاط الهامة ولفت نظرنا إلى غياب الدراسات الجادة عن هذه المؤسسة المحورية التي تتحكم في أجسادنا وعقولنا وأرواحنا بشكل قل مثيله. وأعتقد أن دراسة مثل دراسة علي (على قصرها) تبعث الأمل بأن هذا الوطن بقدر ما فيه من ظلم وبطش ونصب حافل بقدرات وملَكات ومواهب خلاقة كفيلة بأن تعيد الأمور لنصابها الصحيح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.