نُشر هذا المقال في ن بوست بتاريخ ١٤ مارس ٢٠١٥ وفي الشروق بتاريخ ٢٠ مارس ٢٠١٥
تخيل أنك روسيّ استيقظت في يوم من الأيام لتكتشف أنه بسبب مشكلات المرور التي لا تُحتمل في العاصمة موسكو، قرر الكرملين أن يُنشئ، لا نظام نقل جماعي جديد، لكن عاصمة جديدة بالكامل. أو، إذا كنت صينيًا، وبسبب مشكلة التلوث المستوطنة في بكين، قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وبدلًا من استصدار قوانين جديدة للحد من انبعاثات الكربون والتقليل من عدد السيارات الخاصة، نقل العاصمة إلى موقع آخر غير معلوم حتى الآن. وإذا كنت إيطاليًا، تخيل أن حكومتك قررت التخلي عن روما كعاصمة ونقل الأخيرة إلى الساحل لتكون قريبة من الطرق البحرية.
تخيل في كل هذه الحالات أن حكومتك فعلت ذلك بدون أن تجري نقاشًا عامًا حول موضوع بهذه الأهمية، ناهيك عن استشارتك كأحد ساكني أي من هذه المدن القديمة أو كمواطن في أي من هذه البلدان.
هذا بالضبط هو ما فعلته الحكومة المصرية أمس؛ ففي خطوة مثيرة، وفي عرض لخططها المستقبلية، كشفت الحكومة فجأة عن خطة لبناء عاصمة إدارية واقتصادية جديدة لمصر، تبعد نحو 50 كيلومترًا في الشرق من المدينة ذات الألف سنة: القاهرة.
نحن، القاهريون والمصريون، لم نجر حوارًا مجتمعيًا حول هذه الخطوة المحورية، وبالطبع لم تتم استشارتنا حولها.
المدينة الجديدة المقترحة، كما أُعلن عنها في الموقع الإلكتروني للمشروع، تحوي صورًا متلألئة لمباني ما بعد حداثية، ناطحات سحاب مثل دبي، وصورًا لامعة لـ “مدينة عالمية ببنية تحتية ذكية لمستقبل مصر، والتي ستوفر العديد من الفرص الاقتصادية وكذلك نمطًا مميزًا من الحياة”، يشير الموقع الإلكتروني أيضًا إلى “كابيتال سيتي بارتنرز”، وهي شركة استثمار عقاري خاصة يرأسها الإماراتي محمد العبار، العبار هو أحد المستشارين الرئيسيين لحاكم دبي، محمد بن راشد آل مكتوم، وهو أيضًا الرئيس التنفيذي لشركة إعمار، الشركة الرائدة التي قامت ببناء برج خليفة في دبي، والتي لديها مشاركة واسعة النطاق في قطاع الأعمال في مصر.
لن أطيل الحديث عن الانبهار بدبي كنموذج للتنمية الحضارية وكيف أنه غير مناسب للتطبيق في مصر، حيث يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 8% من مثيله في الإمارات العربية المتحدة، ولن أطيل الحديث أيضًا عن اللامساواة السياسية والاجتماعية الكامنة تحت القشرة المتلألئة في دبي، ولا عن الآثار السياسية الخطيرة التي يبشر بها هذا النموذج إذا طُبق في العاصمة الجديدة المقترحة لمصر.
أنا أود فقط أن أطرح بعض الأسئلة للنقاش العام حول هذه القضية المحورية.
أول هذه الأسئلة يبدو كأنه سؤال شكلي أو إجرائي ولكني اعتبره لب الموضوع، وهو يتعلق بطريقة إخبارنا بهذه الخطوة الخطيرة، فقرار بناء عاصمة جديدة لم يتخذه مجلس النواب (لأننا لا نملك هذه المؤسسة بعد بسبب النزاع القانوني الذي تأجلت الانتخابات على إثره لأجل غير مسمى)، ولم تتداوله وسائل الإعلام حتى تلك التي أصبحت فعليًا أبواق للحكومة، ولكنه أُعلن أمام مجموعة من قادة العالم والمستثمرين الأجانب الذين يدّعون أنهم يركزون جهودهم على تعزيز الازدهار في مصر والمنطقة، على حد تعبير وزير الخارجية الأمريكي جون كيري.
ثاني الأسئلة يتعلق بجدوى بناء مدينة جديدة ستكون مساحتها، حسب ما أُعلن، أكبر من مساحة برازيليا وإسلام أباد وتشانديجار مجتمعين، وهن أكبر ثلاث مدن بنيت من عدم في العصر الحديث.
في حديث لشبكة أخبار بلومبرج يوم 26 فبراير، وتمهيدًا لمؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، أعلن أشرف سالمان، وزير الاستثمار، أن مشروع العاصمة الجديدة سيتكلف 500 مليار جنيه سيتحملها المستثمرون الأجانب.
سؤالي يدور حول جدوى إنفاق هذا المبلغ الضخم على بناء مدينة جديدة، وبشكل أكثر تحديدًا حول إذا كان من الأفضل إنفاق هذا المبلغ على القاهرة الموجودة بالفعل، عاصمتنا لأكثر من ألف عام.
الرد التلقائي الذي يتداوله الكثيرون هو أن القاهرة أصبحت مدينة ميئوس منها، فمشاكل المرور والتلوث والضوضاء جعلت منها مدينة غير صالحة للسكنى أو على الأقل مدينة لا تصلح كعاصمة “تليق بنا”، والغرض من إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة هو تخفيف الضغط عن وسط البلد عن طريق نقل الوزارات والمكاتب الحكومية، بغرض جذب حوالي 5 ملايين نسمة عند إتمام المشروع.
ولكن إذا كان لدينا 500 مليار جنيه، أليس من الأفضل أن ننفق هذا المبلغ على حل مشكلة المواصلات في القاهرة؟ إن الكلفة الإجمالية للخط الأخير من مشروع مترو الأنفاق بلغت قرابة 15 مليار جنيه، وبعبارة أخرى، تكلفة بناء العاصمة الجديدة يمكنها أن تغطي كلفة إنشاء أكثر من 30 خط مترو في القاهرة.
طبعا نحن لسنا في حاجة لبناء 30 خط مترو في القاهرة، ولكن اعتقد أنه لو توافر لدينا هذا المبلغ لتمكنا من إيجاد حلول عملية لمشكلات النقل والإسكان والصرف الصحي والقمامة، بل اعتقد أيضًا أن بهذا المبلغ الطائل سنتمكن من حل مشكلات ما تسميه الدولة بمؤسساتها المختلفة “العشوائيات” أي تلك الأحياء التي يقطنها 63% من القاهرة؛ إذ يمكن لنا أن نوفر لهم الاحتياجات الأساسية التي حُرموا منها على مدار السنوات الخمسين الماضية: مياه الشرب النظيفة والرعاية الصحية والهواء النقي والمرافق الترفيهية وأكثر من ذلك بكثير.
بـ 500 مليار جنيه يمكننا أن نحسن مستوى معيشة الملايين من القاهريين والمصريين الذين يتم التعامل معهم، في أحسن الأحوال، كمواطنين من الدرجة الثانية في بلدهم، فهل فكرنا في عقد مقارنة بين فوائد بناء عاصمة جديدة وفوائد تحسين مستوى معيشة سكان العاصمة الحالية؟
بل يمكن طرح السؤال بشكل أوسع: هل أجرت الحكومة دراسة تقارن بين جدوى بناء عاصمة جديدة وجدوى صرف هذه الأموال الطائلة للتصدى لمشكلة الصرف التي تهدد الدلتا برمتها والتي رفعت من مستوى المياه الجوفية فيها وزادت من ملوحة الأرض الزراعية وأضعفت إنتاجية الفدان؟
ولكن قد يرد البعض ويقول إن هذا المبلغ ليس متوفرًا بالفعل، ولكنه مبلغ وعد به المستثمرون وأصحاب الشركات العقارية بغرض محدد وهو بناء هذه المدينة الجديدة، وهؤلاء المستثمرون ليسوا على استعداد لضخ أموالهم في مشروعات لحل مشاكل العاصمة الحالية.
وردي على هذه النقطة هو أننا يجب أن تكون لنا أولويات واضحة وثابتة وألا نُخضع تلك الأولويات لتوافر فرص التمويل الأجنبي، فهل تكمن أولوياتنا في إنشاء عاصمة جديدة سيتحمل المستثمر الأجنبي كلفة بنائها ولكن ستمدها الدولة بما تحتاجه من كافة المرافق، أم في العمل على تحسين خدمات المدينة القائمة بالفعل ومدها بما تحتاجه من مرافق، وخاصة “العشوائيات”، وتقديم مقترحات لمشاريع ربحية للمستثمر الأجنبي ليستثمر فيها؟
وإذا قيل إن المستثمر الأجنبي لن يرض بضخ أمواله في المدينة القديمة، فأرد بأننا نريد أن نعلم تحديدًا الشروط التي يشترطها المستثمرون الأجانب لبناء المدينة الجديدة، هل نحن الذين نضع شروط العمل؟ أم أننا بصدد مشروع عقاري ربحي يضع قواعده المستثمرون الأجانب بغرض الربح السريع؟
ولنا أن نتذكر أن مشروع قناة السويس (القديمة وليست الجديدة) كان قائمًا على نفس تلك العقلية “الريعية”: هناك مستثمر أجنبي لديه فائض نقدي، وهناك بقعة من الأرض تمتاز بتفرد موقعها وصلاحيتها لإقامة مشروع استثماري على مستوى عالمي، وهناك رغبة من الحكومة المحلية لتيسير العمل لهذا المستثمر الأجنبي، دي ليسبس، حتى يعم النفع على المستثمر والحكومة والمجتمع، وكلنا يعرف كيف أدى غياب أي رقابة مجتمعية إلى أن يتحول المشروع إلى مشروع ربحي أفاد المستثمر الأجنبي ولم يستفد منه المجتمع بالمرة.
ثالث الأسئلة يتعلق بموقع المدينة الجديدة، فعلى مدار اليومين الماضيين تعالت الأصوات قائلة إننا لسنا وحيدين في سعينا لإقامة عاصمة جديدة، وقد سبقتنا دول عديدة في هذا الصدد، ولكن بالمقارنة مع برازيليا أو أنقرة (والأولي استحدثت، أما الثانية فكانت مدينة عريقة في القدم جُددت)، فإن العاصمة الجديدة كانت تبعد آلاف الكيلومترات عن العاصمة الجديدة، وكان الغرض هو نقل مرتكز الحكم والإدارة إلى إقليم ناء حتى يصبح بدوره مركز جذب للسكان وللنشاط الاقتصادي والتجاري والإداري، أما في حالتنا وإذا أخذنا في الحسبان الزيادة السكانية والتوسع العمراني المرتقب، فإن العاصمة الجديدة ستصبح، عمليًا، حيًا من أحياء القاهرة، وإذا كان الغرض هو إقامة مدينة جديدة من عدم والابتعاد قدر الإمكان عن القاهرة بمشاكلها، فلم وقع الاختيار على مكان بهذا القرب من القاهرة المكتظة بسكانها؟ وهنا يقال إن العاصمة الجديدة ستكون بالقرب من طرق الملاحة العالمية التي تمثلها قناة السويس، ولكن ألم يكن من الأنسب، إذا كنا سننشئ مدينة من عدم، أن نفعل ذلك في الصعيد، ذلك الإقليم الذى نضن عليه بالموارد والذي يعاني من الإهمال الحكومي على مدى عقود إن لم يكن أجيال، هذا مع كونه يمثل مركز ثقل سكاني غني؟
رابع الأسئلة يتعلق مرة أخرى بالقاهرة الموجودة بالفعل وبمكانها في خطط الحكومة، أنا أطرح هذا السؤال لهاجس في نفسي، أتمنى أن أكون مخطئًا فيه، وهو أن الحكومة ومعها قطاع كبير من النخبة السياسية والاقتصادية والمالية، يبدو أنها قد ضاقت ذرعًا بالقاهرة وبمشاكلها وبسكانها، فبالإضافة إلى الزحام والضوضاء، هناك المظاهرات والهجمات الإرهابية، تخوفي هو أن يكون الغرض من إقامة المدينة الجديدة هو الهروب من المدينة القديمة وتركها لترزخ تحت وطأة مشكلاتها.
وعلى مدار اليومين الماضيين تلقيت الكثير من التعليقات التي تقول إن ذلك ليس بجديد؛ فتاريخنا، من إخناتون للخديوي إسماعيل، مليء بنماذج لحكام بنوا مدنًا جديدة وتركوا أخرى قديمة، وردي على هذه الأصوات هو الرجوع لتجربة الخديوي إسماعيل، فأنا دارس، على مدار أكثر من عشر سنوات، هذه التجربة تحديدًا، وأستطيع القول بثقة إن علي مبارك والخديوي إسماعيل ومستشاريهم العديدين عندما بنوا “الإسماعيلية” على الأطراف الغربية للقاهرة المعزية، لم يهملوا أبدًا المدينة القديمة،ً صحيح أنهم بنوا دار الأوبرا، وشقوا الشوارع المستقية، ونصبوا التماثيل في الميادين الجديدة، واستحدثوا طرازًا جديدًا للعمارة، ولكن ما من درب وما من حارة من “أثمان” القاهرة المعزية العشرة (الجمالية وباب الشعرية وقيسون والأزبكية والسيدة زينب والدرب الأحمر وعابدين والخليفة وبولاق ومصر القديمة ) إلا ونال حظه من الرعاية الحكومية التي كان من أهم سماتها تقديم الخدمات الصحية للأهالي.
سؤالي إذًا هو هل ستحذو الحكومة حذو الخديوي إسماعيل في عنايته بالقاهرة المعزية إضافة لاهتمامه بـ”إسماعيليته”؟ أم ستحذو حذو سلفه، سعيد، في استرضائه دي ليسبس وولعه بتلبية كافة طلباته؟
***
أنا أدرك أن هذه أسئلة صعبة وشائكة، لكني أظنها هامة ومن الضروري طرحها للنقاش المجتمعي وإدارة حوار حولها، وليس الغرض من هذا الحوار هو الوصول إلى اتفاق تام حولها أو العثور على إجابة نموذجية لها، فهذه أسئلة سياسية بطبيعتها، والسياسة يجب أن تكون محل خلاف لا اصطفاف وتوافق.
في أي مجتمع يوجد من يعتقد أن الناس بطبعها غير مؤهلة لحكم نفسها، وآخرون يرون أن الناس بطبيعتها تدرك مصلحتها وتسعى لسعادتها.
وبخصوص مدينتنا، سيكون هناك دائمًا من يعتقد أننا نستحق أن تكون عاصمتنا شيك، حضارية، ذات مسطحات خضراء، على مستوى عالمي، قريبة من طرق الملاحة الدولية، وسيكون هناك آخرون يرون أن ما نستحقه هو مدينة تحفظ لنا آدميتنا، وتقدم لنا الخدمات الضرورية، من صحة لمواصلات لفرص عمل لإسكان لأماكن للترفيه والمتعة.
وسيكون هناك دائمًا من يفضلون الأمن، النظام، البوابات، اللجان الأمنية، المولات التجارية المكيفة، والطرق الواسعة لسير العربات الخاصة، وآخرون يفضلون الميادين المفتوحة، قهاوي الرصيف، المواصلات العامة النظيفة والرخيصة، الشوارع المفعمة بالحياة، والدكك تحت الشجر.
فأي مدينة نبغيها عاصمة لبلادنا؟ هذا سؤال يبدو أن حكومتنا قررت ألا تشركنا فيه، ولكنه سؤال يهمنا جميعًا، سواء منا من سكن القاهرة أم لم يسكنها، إنه سؤال ضروري وأساسي يجب أن نطرحه على أنفسنا، ويجب أن نجتهد للتفكير فيه، ويجب أن نتعب للإجابة عليه.
لن نتوصل، بالطبع، لتوافق مجتمعي على إجابة هذا السؤال، فالاصطفاف والاتفاق على سؤال بهذا العمق لن يكون ممكنًا أو مرغوبًا، ولكن بما أني أؤمن أن مصر ليست مكتظة بسكانها بل منورة بأهلها فأنا على يقين أننا قديرون على التصدي لهذا السؤال وعلى قبول اختلافنا حوله.