نُشر في فيسبوك في ٢٩ ديسمبر ٢٠١٤ ثم في جريدة الشروق يومي ٦ يناير و ٧ يناير ٢٠١٥
بالرغم من الاختلافات العديدة التي تفصل بين محمد على و عبد الناصر، وبالرغم من أن انقلاب يوليو أتى ليقضي على حكم الأسرة العلوية التى أسسها محمد على فى مصر، إلا أن كثيرا ما تعقد المقارنات بين الرجلين، بل أن كثيرين يرون عبد الناصر محتذيا حذو محمد على وسائرا فى ركابه ومستلهما الكثير من رؤاه فى كيفية حكم مصر والنهوض بها.
فى السطور القليلة التالية أعرض صورة مختصرة لتلك الرؤية التى يبدو فيها الرجلان مكملان لبعضهما البعض ومنتميان لنفس المشروع النهضوى الواحد. ثم سأقوم بتقديم نقد لتلك الرؤية مبنيا على قراءة لسيرة محمد على وسياساته، قراءة نابعة من إطار عثماني وليس مصريا خالصا. ثم سأختم بطرح تساؤل عما ستبدو عليه المقارنة بين الرجلين إذا نظرنا إلى محمد علي من داخل هذا الإطار العثماني.
يبدو كل من محمد علي وعبد الناصر كمصلحين عظيمين كانت لكل منهما طموحات ضخمة لمصر مبنية على قراءة دقيقة لتاريخها ولشعبها ولموقعها الإستراتيجى الفذ. ويعتقد الكثيرون أن تلك الرؤى العظيمة لم تكن مجرد أحلام بل ترجمت إلى حقائق ملموسة بناء على خطط محكمة أعدت بحنكة وعناية. وتبدو السياسة التعليمية كإحدى الدعائم الأساسية لسياسة الإصلاح الاجتماعى لكل من محمد علي وعبد الناصر. فكثيرا ما يشاد بمحمد على لإنشائه ديوان المدارس فى عام ١٨٣٨ الذى يعتبر أول وزارة للتعليم، ولافتتاحه العديد من المدارس فى طول البلاد وعرضها، ولإرساله البعثات العلمية لأوربا، بالإضافة إلى رعايته لمشروع ترجمة طموح استطاع أن يترجم المئات من الكتب الفرنسية والإنجليزية العلمية إلى كتب عربية طبعت فى مطبعة بولاق وجاءت لغتها جزلة رصينة. وبالمثل فإن الكثيرين يعتبرون أن من أهم إنجازات ثورة يوليو تلك السياسات التعليمية التى ضمنت بها الدولة تعليما مجانيا للجميع حتى المستوى الجامعي.
أما القاسم الثاني المشترك بين”مشروعي” محمد على وعبد الناصر فيتمحور حول الدور المركزي الذي لعبته الدولة فى كل منهما. فبالرغم من أن الرجلين أوليا عناية كبيرة للزراعة وتحديدا لمشروعات الرى الكبرى (القناطر الخيرية بالنسبة لمحمد علي والسد العالي بالنسبة لعبد الناصر) إلا أن الصناعة نالت هى الأخرى قدرا كبيرا من اهتمامهما. فيُشتهر عن محمد علي إنشاؤه لأول منشئات صناعية على ضفاف النيل إذ انتجت “فاوريقاته” الطرابيش والزجاج والبارود والأحذية والكيماويات وقلاع المراكب والعديد من المنتجات الأخرى. وقد زادت سياسة الاحتكار من قبضة الدولة على الإقتصاد ونُظر إليها على أنها جزء مكمل من سياسة إقتصادية محكمة. وبالمثل فإن قرارات عبد الناصر الاشتراكية فى أوائل الستينيات من القرن الماضي أخضعت المنشئات الصناعية لسيطرة الدولة وأعانت سياسة إحلال الواردات التى انتهجتها الدولة من إنتاج كل شيء “من الإبرة للصاروخ” حسبما ردد الشعار المشهور. ويسود الاعتقاد أن خلف تلك القناعة بأهمية الصناعة إيمان عميق بأنها توفر أفضل السبل للـ”لحاق بالغرب” والأهم، أن اضطلاع الدولة بهذه المهمة يمثل أقصر الطرق للوصول لتلك الغاية.
على أن أهم نقطة تجمع الرجلين هي إدراك كل منهما أنه حتى يكتب لمشروعيهما النجاح يجب على مصر أن تندمج وتنصهر في محيطها الجغرافى، وأن تتولى الدفاع عن عمقها الإستراتيجي، بل أن تخلق هذا العمق من الأساس إن استلزم الأمر. وبالتالي يُنظر لتوسعات محمد علي فى السودان والجزيرة العربية وكريت والشام وبسطه لنفوذه فى الأناضول كخطوة ضرورية لتأسيس شبه إمبراطورية متمركزة حول القاهرة قامت قوة عسكرية مبهرة بقيادة القائد الفذ إبراهيم باشا بحمايتها والذود عنها. ويرى الكثير من الدارسين أن تلك التوسعات الجغرافية لم يكن الغرض منها أية أطماع استعمارية، بل أملتها سياساته الاقتصادية حتى يتسنى للصناعة المصرية الوليدة أن تجد أسواقا لمنتجاتها. ويزيد بعض هؤلاء الدارسين أن كون أغلب المناطق التى بسط عليها محمد علي نفوذه تتحدث العربية لم يكن وليد الصدفة، إذ أن كلا من الرجل وابنه كانت لهما آمال في تأسيس دولتهما مترامية الأطراف على قاعدة صلبة من القومية العربية، حسب مقولة جورج أنطونيوس التى أطلقها فى كتابه الشهير، يقظة العرب، فى عام ١٩٣٩.
وبالمثل فقد حدد عبد الناصر الدوائر الثلاث التى تتحرك فيها مصر والتى تكتسب منها عمقها الإستراتيجى: العربية والإفريقية والإسلامية. ويُنظر عادة لتبنيه لفكرة الوحدة العربية كعنصر مكمل لسياساته الداخلية إضافة إلى كونها نابعة من إيمان عميق بوحدة التاريخ والمصير لكل العرب. إضافة إلى ذلك، فإن مساعداته الإيجابية للحركات الوطنية المناهضة للاستعمار فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية كسبت لمصر حلفاء استراتيجيين عديدين. وتبدو تلك النقطة تحديدا، أى محاولة بسط نفوذ مصر فى الخارج بناء على قراءة واعية للتاريخ والجغرافيا، كأهم نقطة يشترك فيها عبد الناصر مع محمد علي.
على أن من أهم تفاصيل تلك الرؤية التي تجمع الرجلين سويا فى منظومة فكرية واحدة تلك التى تحاول أن تشرح أسباب إخفاق هاتين التجربتين الطموحتين. فبالرغم من أن تلك الرؤية الشائعة عن الرجلين تعترف بوجود بعض الخلل الداخلي فى كل من التجربتين فإنها تؤكد على أن هذا الخلل لم يكن جوهريا وأن كلا التجربتين كان بوسعهما التغلب عليه لو لم تتدخل قوى أجنبية. ففشل تجربة محمد علي يعود، حسب هذه الرواية، إلى تواطؤ أوربا الاستعمارية الإمبريالية مع الدولة العثمانية الذليلة.، أما هزيمة المشروع الناصري فتعود إلى تواطؤ إسرائيل مع القوى الاستعمارية القديمة متمثلة فى بريطانيا وفرنسا فى أول الأمر ثم تواطؤ إسرائيل مرة ثانية مع الولايات المتحدة، القوة العظمى الجديدة.
وتذهب الرواية الشائعة إلى أن بريطانيا كانت مصممة على إجهاض جهود محمد على الطموحة بعد أن أدركت أن سياسة الاحتكار التى كان يطبقها فى الأراضي التى مد نفوذه عليها مكنته من إغلاق أسواق واسعة أمام المنتجات البريطانية. وأخذ عداء بريطانيا لمحمد على بعدا شخصيا متمثلا في اللورد بالمرستون، وزير خارجية الملكة فيكتوريا، الذى كان يحتقر محمد علي مشبها إياه بصبى القهوة. وتؤكد تلك الرواية الشائعة على أن عداء بالمرستون الشخصي لمحمد علي كان نابعا من إدراكه أن سياسة التصنيع التى انتهجها الباشا في مصر كانت تضر بالمصالح البريطانية أكثر من سياسة الاحتكار. وبالتالي فقد عقدت بريطانيا العزم على هزيمة محمد علي، والتخلص من صناعاته، وبعد أن فشلت فى تحقيق ذلك فى الجولة الأولى عندما تمكن محمد علي من أن يفيق من كارثة تحطيم أسطوله فى واقعة نفارينو عام ١٨٢٧ على أيدى الأساطيل البريطانية والفرنسية والروسية مجتمعة، فقد صممت على ألا يفلت منها فى الجولة التالية. وبالفعل فقد عقد بالمرستون مؤتمر لندن المشئوم عام ١٨٤٠ حيث دعت أوربا بزعامة بريطانيا محمد علي إلى التنازل عن جميع الأراضي التي كان يسيطر عليها وحرمته من ثمار انتصاراته العسكرية المتلاحقة على الدولة العثمانية. وإضافة إلى ذلك فإن تسوية ١٨٤٠-١٨٤١ يُنظر إليها عادة على أنها أجبرت محمد علي على أغلاق مصانعه وبذلك آلت كل التجربة للفشل.
وبطريقة مماثلة تلام العوامل الخارجية عادة على إفشال مشروع عبد الناصر. فقد تواطأت كل من بريطانيا وفرنسا من دافع انزعاجهما من سياسات عبد الناصر المناهضة للاستعمار والمهددة لسياساتهما فيما اعتبرتاها مناطق نفوذهما—تواطأتا مع إسرائيل التى شعرت بالتهديد لما يمثله عبدالناصر من إمكانية توحيد العرب ضدها، وشنت هذه الدول العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦. وعندما فشلت تلك القوى الاستعمارية من التخلص من عبد الناصر وعندما خرج منتصرا ومحلقا عاليا فى سماء العالم الثالث تحالفت القوى الرجعية مع الاستعمار مرة أخرى ضد مصر ونصبت لها شباك الغدر وساقتها إلى نكسة خطيرة فى عام ١٩٦٧.
وإذا قبلنا بتلك الرواية الشائعة لن يسعنا سوى أن نرى أوجه الشبه بين الرجلين وسوف ندرك مدى التطابق بين مشروعي النهضة اللذين حاول الرجلان أن يحققاهما فى مصر. ففي تلك الرواية يتجلى الغرب مهيمنا، وتتحمل القوى الغربية مسئولية فشل الجهود الحثيثة التى بذلتها مصر من أجل اللحاق بركب الحداثة. وبالتالى يبدو الرجلان كبطلين تراجيديين كانا يواجهان قوى أكبر منهما. وعلى عكس اليابان التى مكنها وضعها الجغرافي من تحاشي المؤامرات الأوربية فقد كان موقع مصر المتميز، ذلك الموقع الذى وصفه الجغرافي الشهير جمال حمدان بالعبقرية، بمثابة لعنة حيث جذب أنظار الأجانب لأهميته وزاد من قدرتهم على التدخل فى أمور مصر الداخلية وعلى إجهاض المشاريع النهضوية الوطنية.
وبالرغم من جاذبية تلك الرؤية إلا أنها تعانى من الكثير من التضاربات والمقارنات المخلة. فإذا جاز القول بأن الرجلين يشتركان فى بعض السمات إلا أن ما يفصلهما عن بعضهما أهم مما يجمعهما. كما أن تلك الرؤية الشائعة عن محمد علي وعبد الناصر مبنية على قراءة سطحية ومبسطة لهاتين الشخصيتين المعقدتين بالإضافة إلى ولعها بحشرهما فى سياق زمني تسلسل فيه الأحداث بشكل مبسط وسطحي. وإذا كان من الصواب التأكيد على أن تاريخ علاقة مصر بالغرب مليء بالمؤامرات والتواطؤات، فإن تصوير تاريخنا الحديث على أنه سلسلة من المؤامرات التي حيكت ضدنا (كما يحلو لأتباع نظرية المؤامرة ترديده) لهو تبسيط مخل لهذا التاريخ إذ أنه يسطح الغرب ويبرئ ساحة الكثير من الفاعلين المحليين من المسئولية التاريخية.
وعوضا عن تقديم قراءة جديدة للحقبة الناصرية فإن ما أعرضه هنا فى محاولة لنقد تلك الرؤية الشائعة هو إظهار مدى عدم دقتها فى التعامل مع فترة حكم محمد على. فالنظر إلى محمد علي على أنه سلف عبد الناصر كبطل وطني مصري أو قومي عربي لهو إسقاط منطق حديث على فترة زمنية كان فيها مفهوم الوطنية المصرية أو القومية العربية غير معروف. وبالمثل فإن القول بأن سياسات محمد علي الاقتصادية كانت تحتم توسعات جغرافية فيه إخلال بالمنطق الذى حكم سياسات الباشا العسكرية، كما أنه يفشل فى فهم العلاقة بين الاقتصاد والتوسع الحربي. أما القول بأن عداء بريطانيا لمحمد علي كان نابعا من القلق من منافسة الصناعة المصرية لمثيلتها البريطانية لهو نوع من السخف إذا أخذنا فى الاعتبار أنه لم توجد فى مصر وقتئذ سوى حفنة من ماكينات البخار التي لم تكن لتستطيع أن تهدد مصانع مانشستر وليفربول العتيدة. كما أن هذا القول يفشل في إدراك طبيعة المصالح البريطانية فى المنطقة والسبب الحقيقي لعدائها لمحمد علي. وفوق كل شيء فإن تلك الرؤية تفشل فى الوقوف على مطامع محمد علي في مصر وتصبغ على أفعاله منطقا غريبا لا يتماشى مع طبيعة الرجل وخلفيته وطبيعة نواياه.
إن فهمنا لشخصية محمد علي لن يكتمل إلا إذا وضعناها فى محيطها العثماني الذي أملى على الباشا سياساته وشكل معظم توجهاته. على أن التأكيد على أهمية هذا الإطار العثماني ليس مرده أن محمد علي نفسه انحدرت جذوره من قوله إحدى مدن البلقان التى كانت تابعة، كمصر، للدولة العثمانية، أو أنه كان يتحدث التركية وأن إلمامه بالعربية كان محدودا وتعامله بها منعدما. وليس مرده أيضا أنه كان يرى نفسه كوال عثماني أكثر من كونه سيدا مصريا (أيا كان معنى تلك العبارة). ولكن التركيز على هذا البعد العثماني عائد بالأحرى إلى أن مصر كانت عندما وفد إليها محمد علي عام ١٨٠١ ولاية من ولايات الدولة العثمانية، وأنه كان قد مضى عليها قرابة أربعة قرون وهى منخرطة داخل الدولة العثمانية وأن تلك القرون الأربعة قد تركت ولا ريب آثارا على حياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
على أن النقطة الأجدر بالذكر فى هذا السياق هى أن محمد علي أتى للحكم فى مصر بناء على فرمان من السلطان العثماني، سليم الثالث، يوليه الحكم فى مصر برتبة باشا. فكما هو معروف كانت القاهرة قبيل وصول هذا الفرمان تموج بـ”تحركات ثورية”، وقد قام مشايخ الأزهر بالتعاون مع كبار التجار باختيار محمد علي واليا عليهم واستطاعوا أن يطردوا الولاة الذين كانت الآستانة قد أرسلتهم الواحد تلو الآخر. وبالتالي يتضح أن محمد علي لم يكن الرجل المفضل من قِبل الباب العالي لولاية مصر، وإضافة إلى ذلك فقد حاول السلطان، دون جدوى، أن يعزله بعيد توليته، واختصارا يمكن القول بأن تولية السلطان سليم لمحمد علي كانت ضد رغبة السلطان وأنه قد أُجبر على اتخاذ هذا القرار عندما فشل فى تعيين أى وال آخر، وبمعنى آخر فإن محمد علي قد أُرغم على السلطان إرغاما.
ولكن وبالرغم من كل ذلك فإن مصدر شرعية محمد علي الوحيد كان تلك الورقة الآتية من الآستانة والحاملة لطغراء السلطان العثماني. ذلك أن محمد علي لم يكن فاتحا يمكن أن يبني شرعيته على السيف، كما أنه لم يكن من الأشراف حتى يستطيع أن يبني شرعيته على نسل رفيع، وهو أيضا لم يكن من الأمراء المحليين ذوى السطوة والجاه وبالتالي يمكن أن يُنعم ويغدق على أتباعه الهبات حتى يؤسس لشرعية جديدة. أما الزعامة الشعبية الممثلة فى المشايخ وكبار التجار الذين بايعوه واليا عليهم بشروطهم فقد عمل حالما وصله الفرمان السلطانى على التخلص منهم، فنفى عمر مكرم، قائد تلك الزعامة الشعبية، إلى دمياط ولم يسمح له بالعودة للقاهرة إلا بعد مرور سنوات طويلة، وأما بخصوص سائر المشايخ والتجار فقد صادر أملاكهم واستولى على أوقافهم ولم يأخذ برأيهم ولا استعان بهم فى حكم البلاد. وكدليل إضافي على الأهمية التى كان يوليها لمصدر شرعيته النابعة من الآستانة فقد كان يقيم احتفالا مهيبا فى القلعة عندما يصل التتر من عاصمة السلطنة مبشرا بتجديد الولاية له سنويا، وكان الفرمان يقرأ فى مواجهة حشد غافر من الأعيان والمشايخ والتجار مذكرا إياهم أنه، وقد وصله هذا الفرمان، صاحب الحق الأوحد فى الولاية والحكم.
وبعبارة أخرى فإن محمد علي كان مدركا أنه وإن استطاع أن يبسط سيطرته على الأمور فى مصر اعتمادا على الحامية الألبانية التى توفى قائدها طاهر باشا تاركا له أهم قوة عسكرية فى البلاد وقتئذ، فإنه أدرك في الوقت ذاته أنه لن يستقر له الحال فى مصر إلا إذا وصله فرمان من السلطان العثماني يصبغ الشرعية على أفعاله. وهنا تكمن أهمية فرمان ١١ يوليو ١٨٠٥، إذ ترجم ذلك الفرمان النجاحات التى حققها محمد علي على أرض الواقع بقوة السيف إلى حقائق قانونية جديدة غير قابلة للنقض. وربما يعطينا نص الخطاب النادر الآتي الذى بعث به محمد علي للسلطان فكرة عن الطريقة التى نظر بها محمد علي لنفسه ولوضعه داخل الدولة العثمانية (وكان ذلك فى أوائل حكمه وتحديدا فى عام ١٨١١ قبل أن يتحول على السلطان):
إن عبدكم الأحقر هذا [يقصد نفسه] مع كونه عبدا لا قيمه له من أداني أهالي قضاء قوله التى ما هى سوى قرية من قرى إقليم مصر قد حظي بالتصرف والولاية على إقليم عظيم مثل مصر برتبة الوزارة العالية تحت ظلال سعد السلطنة السنية من غير استحقاق ومن غير خدمة سابقة تستوجب ذلك، وقد نال عبدكم المملوك [يقصد نفسه مرة ثانية] زيادة على ذلك من أنواع التوجه والعطف والتلطف والعناية من حضرة صاحب الخلافة ما لم يتمكن من نيله عبيدكم الوزراء السالفة على إبرازهم مدى ثلاثين سنة أو أربعين سنة أنواع الخدمات المرضية للدولة العلية الدائمة الأبدية، فاعتلت هامة سروري وافتخاري بهذه المظهرية الفاخرة إلى مستوى واحد من الأوج الأعلى، والله يعلم أن نكران هذه العناية السلطانية والتقصير فيما يمكن إجراؤه من الحكمة والعبودية بمنزلة الكفر عند هذا العاجز…
على أن هذا الوضع المتميز الذى حازه محمد علي بعد سنوات قليلة من توليته، على أهميته، لم يكن خاليا من المشاكل، ففرمان تولية محمد علي على مصر، كسائر الفرمانات المبعوثة لولاة الدولة العثمانية العديدين، لم يكن لمدى الحياة، بل كان يجدد سنويا. وثانيا، كان هناك العديدون في عاصمة الدولة المتوجسون خيفة من هذا الرجل المجهول لديهم ولذلك كانوا، ومنذ اللحظة الأولى التى تولى محمد علي فيها الولاية، يحيكون ضده المؤامرات حتى يعزلونه من تلك الولاية المهمة والغنية. وكان على رأس هذا الحزب المناوئ لمحمد على خسرو باشا الذي كان قد وقع عليه اختيار السلطان لولاية مصر عام ١٨٠٣ ولكنه لم يستطع أن يصمد أمام محمد علي وجنوده الألبان واضطر إلى الرحيل فى خزي وهوان على متن سفينة أقلته إلى اسطانبول. وثالثا، وعلى عكس الولاة السابقين الذين كانت ولاية مصر تمثل لهم مرحلة هامة من مراحل الترقي الوظيفي في المراتب العليا من الهيراركية الوظيفية العثمانية، أتى محمد علي من خارج تلك الزمرة الحاكمة التى نظرت له ببعض الحيطة وبالكثير من الريبة والتوجس. ونظرا لعدم انتمائه لدوائر صنع القرار تلك فقد كان محمد علي بدوره يرتاب فى “رجال الآستانة” (كما كان يسمي تلك الزمرة الحاكمة) وكان ينظر للوعود التى كانت تصله بتوليته على ولايات أخرى بشك وريبة معتبرا إياها محاولة مبطنة للتخلص منه كلية. ورابعا، فقد ازدادت شكوك محمد علي فى نوايا الآستانة تجاهه عندما جاءته التوجيهات الواحدة تلو الأخرى يأمره فيها السلطان بمساعدته فى حروبه العديدة (ضد الوهابيين واليونانيين والصرب والروس) حتى يضعفه ويستنزف موارده.
وقد كان محمد علي مدركا لهذه المشاكل وكان مهموما بوضع حد لمركزه غير الواضح وغير المستقر فى مصر. وبالتالى كان شاغله الأول ليس وضع أسس دولة حديثة كما تذهب الرواية الشائعة بل العمل على تحويل مركزه الهش فى مصر الذي كان يعتمد على رغبات السلطان ومكائد البلاط إلى حقائق قانونية جديدة. ولم يدخر الباشا وسعا لتحقيق هذا الأمل، فقضى على المماليك الذين كانوا يناوؤنه فى الحكم، واستجلب إلى مصر أولاده وأقاربه ومعارفه القدامى من قوله حتى يشكل منهم حاشية وطبقة وسطى تعينه على حكم مصر وعلى تثبيت أقدامه فيها. كما عمل على استمالة أفراد الحاشية السلطانية فى الآستانة من وزراء وكبار ضباط وأعضاء البيت العثماني نفسه. وجاء على رأس محاولاته توطيد دعائم حكمه فى مصر إنشاؤه جيش حديث مبنى على تجنيد الفلاحين يستطيع به الذود عن مصر والدفاع عن مركزه فيها بالقوة إن استدعت الضرورة.
أما الباب العالي فقد انزعج من هذا الوالي المجهول ذي النشاط غير المحدود. فمن ناحية أعجب الباب العالي بنجاح محمد علي في القضاء على المماليك، الأمر الذي حاولت الآستانة أن تحققه مرارا وفشلت فيه المرة تلو الأخرى. ولكن في نفس الوقت امتعضت الآستانة من أن تلك الحركة الجريئة لم تعن بسط سيطرتها على مصر. وزاد من حيرة الآستانة تجاه محمد علي أنه كان يقوم بالكثير مما كانت ترغب فيه، فقد دأب على إرسال الجزية السنوية للباب العالي، وامتنع عن صك أية نقود باسمه مستخدما فقط العملة المتداولة فى الدولة العثمانية، وكان خطباء المساجد فى مصر يدعون للسلطان العثماني وليس له. وإضافة إلى ذلك فعندما فرغ من أول مشروع كبير للبنية التحتية وهو شق ترعة تربط الإسكندرية بالنيل أطلق عليها “ترعة المحمودية” تيمنا بالسلطان محمود الثاني. ولكن فى نفس الوقت كان الباب العالي يشك فى نوايا هذا الوالي الذى دأب على القيام بتلك الخطوات بمبادرة ذاتية منه دون انتظار للتعليمات والأوامر من اسطانبول.
ومما لا شك فيه أنه كلما طال له البقاء فى مصر كلما زاد إحساسه بالأمان فيها وكلما تقلصت فرص الباب العالي في التخلص منه. ولكن وبالرغم من هذا الشعور بالاطمئنان فلم يستطع محمد علي أن يتخلص نهائيا من صلته بالدولة العثمانية. فإدراكه أنه، أولا وقبل كل شيء، وال عثماني يستمد شرعيته من فرمان التولية الذى كان يتجدد سنويا حتم عليه أن يطيع الأوامر التي كانت تصله من عاصمة الدولة وأن يشير إلي نفسه فى مكاتباته إلى الباب العالي بـ”الخادم المطيع [للدولة العلية] “.
وجاءت لحظة التحول المحورية في علاقته بالسلطان فى منتصف فترة ولايته بالضبط، فعندما شرع فى تكوين جيش حديث سرعان ما أن طلب منه السلطان مرة أخرى أن يمده بالعون فى نزاعه مع الثوار اليونانيين، وبعد تردد قصير قام محمد على بإرسال سبعة عشر ألف جندي من الجنود المدربين حديثا إلى شبه جزيرة المورة جنوبي اليونان. وبعد بعض الانتصارات دارت الدائرة على الباشا وحلت كارثة نفارينو فى يوم ٢٠ أكتوبر ١٨٢٧ عندما حاصرت سفن الأساطيل الفرنسية والبريطانية والروسية الأسطولين المصري والعثماني مما أدى إلى غرق كافة سفن الأسطول المصري أو تحطمها. والجدير بالذكر أن تلك لم تكن نقطة تحول فى علاقة محمد علي بأوربا بل بالسلطان، فقد أدرك محمد علي أن هزيمته فى نفارينو كانت نتيجة للطريقة التى أدار بها الباب العالي الحرب، وأن تورطه فى حروب السلطان يعود عليه بخسارة أكبر من أى مكسب يناله بإظهار علامات الولاء والطاعة للباب العالي. لذلك عقد العزم على ألا يساعد السلطان فى حروبه المستقبلية، بل بدأت تختمر فى ذهنه فكرة تأسيس شرعية جديدة لنفسه بالسيف. ولمدة ثلاث سنوات عقب كارثة نفارينو أخذ محمد علي في تضميد جراحه أولا استعدادا لأهم عمل يستطيع به أن يرسخ من دعائم حكمه فى مصر: غزو الشام. وبالفعل فى حمله بحرية وبرية خاطفة في ديسمبر ١٨٣١ استطاع الجيش الجديد الذى أسسه قبل ذلك بعشر سنوات فقط من أن يغزو الشام، تلك الولاية التى كان يحتمل أن تشن منها الآستانة حملة عليه.
وتشير كل الدلائل إلى أن الغرض الرئيسي من غزو الشام كان تأمين الحدود الشمالية لولايته والدفاع عن مركز حكمه ضد أي هجوم محتمل قد تقوم به الآستانة لإنتزاعه من مصر بالقوة. وكان على رأس الجيش الذى قام بتلك الحملة ابنه القائد الفذ إبراهيم باشا، وساعده فى تلك الحملة عباس باشا الذى قاد السوارى (أي سلاح الخيالة) إضافة إلى إبراهيم باشا يكن (إى إبن أخت محمد علي) الذى قاد البيادة (أى سلاح المشاة). وجاءت انتصارات إبراهيم المتلاحقة وإبادته لثلاثة جيوش جمعها العثمانيون لصد هذا الخطر الآتي من داخل الدولة العثمانية نفسها، جاءت الانتصارات كمفاجأة ليس فقط للعثمانيين وللأوربيين الذين انزعجوا مما تشكله تلك الانتصارات من أخطار على استقرار الدولة العثمانية، بل أيضا لمحمد علي نفسه، فهو لم يكن مستعدا لهذا الزحف السريع ووجد نفسه وقد وصلت قواته لمشارف عاصمة السلطنة، وهو ليس مستعدا بمسودة معاهدة أو حتى أفكار عامة عما يمكن أن يطالب به. وبمعنى آخر فقد سبقت الأحداث فكره وتدل مكاتباته لإبراهيم وللباب العالى وللقناصل الأوربيين فى تلك الفترة (١٨٣٢-١٨٣٣) على أنه لم يكن لديه أفكار واضحة عن كيفية ترجمة هذه الانتصارات المذهلة إلى واقع سياسيي ودبلوماسى جديد.
وزاد من تعقيد الأمور أن العثمانيين، وقد أدركوا حجم الكارثة المحدقة بهم وأن دولتهم على شفى الانهيار، سارعوا فى طلب العون من البريطانيين. وقد كانت تلك المرة الأولى فى تاريخ الدولة العثمانية الطويل التي يطلب فيها السلطان من القوى الأوربية التدخل لتسوية نزاع داخلى بينه وبين أحد الولاة المارقين. وبعد أن خذل البريطانيون السلطان ورفضوا إرسال الأسطول البريطاني لنجدته تحول السلطان للروس طالبا العون. وسرعان ما أن أدرك الروس أن عليهم أن يقتنصوا تلك الفرصة الذهبية للتدخل فى شئون الدولة العثمانية، وبالفعل سرعان ما رسى الأسطول الروسى أمام عاصمة الخلافة.
ولم تسفر المفاوضات التى جرت بين السلطان والباشا بواسطة الروس والفرنسيين إلى حل نهائي للأزمة بينهما بل تمخضت عن هدنة عسكرية عرفت باسم “إتفاق كوتاهية”، حصل محمد علي بموجبها على كل من مصر والحجاز وكريت، أما إبراهيم فقد عينه السلطان واليا على الولايات الشامية كلها بالإضافة إلى إعطائه منصب محصل إقليم أضنه جنوبى الأناضول. وبالرغم من تلك المكتسبات فإنها كانت خاضعة للتجديد السنوى من قِبل الآستانة وبالتالى ظل محمد علي عرضة لدسائس العاصمة ومكائدها.
واستمرت حالة الـ”لا حرب ولاسلم” هذه مدة ست سنوات حتى اندلعت الحرب بين الطرفين مجددا عام ١٨٣٩. ومرةأخرى أثبت إبراهيم باشا عبقريته العسكرية وأوقع هزيمة ثقيلة بالجيش العثمانى في موقعة نصيبين (يونيو ١٨٣٩). وازداد موقف محمد علي قوة بعد وفاة السلطان محمود فجأة قبل أن تصله أنباء الهزيمة. ثم زاد الطين بلة أن أبحر أحمد فوزى باشا، القبوطان باشا (قائد الأسطول)، بالأسطول العثماني برمته وقدمه هدية لمحمد علي. وبالتالي فقدت الدولة العثمانية سلطانها وجيشها وأسطولها فى ظرف اسابيع قليلة وبدا وكأن السلطان الشاب، عبد المجيد، لن يتمكن من التصدي لمحمد علي الذى أثبت أنه شكل بالفعل أخطر تهديد للدولة العلية على مدار تاريخها الطويل. وفى اللحظة التى ظن فيها محمد علي أنه قد نال مأربه وأنه سيستطيع أن ينتزع من السلطان الجديد اعترافا بالواقع الجديد التى أنشأته جيوشه المنتصرة ظهر مجددا خسرو باشا عدو محمد علي اللدود وقلد نفسه صدرا أعظم أثناء جنازة السلطان محمود وبالتالى تولى هو وليس السلطان عبد المجيد مهمة المفاوضات مع محمد علي. وارتكانا على موقف أوربى موحد رأى في توسعات محمد علي تهديدا لكيان الدولة العثمانية وبالتالي تهديدا للسلم والأمن الأوربيين أرسل خسرو لمحمد علي إنذارا بسحب قواته من المناطق التي توسع فيها.
ونظرا لأن أوربا رأت أن استفحال النزاع بين القاهرة والآستانة لم يعد أمرا داخليا بل أصبح أمرا عالميا فقد عقد بالمرستون مؤتمرا فى لندن عام ١٨٤٠ أرسل بمقتضاه مجموعة من الإنذارات لمحمد علي لكي يسحب قواته ويعيد الأسطول العثماني للسلطان. وقد نصت تلك الإنذارات أنه إذا وافق محمد علي على سحب قواته من كريت والشام والحجاز فإن السلطان سيعترف به واليا على مصر لمدة حياته وسيقوم بتوريث هذه الولاية لمحمد علي من بعد وفاته. وبعد بعض التردد أدرك محمد علي أن ذلك هو ما كان يسعى إليه منذ اللحظة التى وطأت فيها قدماه أرض مصر: أن يتملك مصر وأن يورّث ذريته تلك البقعة الغنية والمميزة من الدولة العثمانية. وفى العام التالى قام السلطان عبد المجيد بإرسال فرمان الوراثة الشهير الذى ثبته على حكم مصر مع إقرار حقوق الوراثة لنسله وأعقابه، وقد جاء فيه “قد صممنا على تثبيتكم فى الحكومة المصرية المبينة حدودها فى الخريطة المرسلة إليكم من لدن صدرنا الأعظم ومنحناكم فضلا على ذلك ولاية مصر بطرق التوارث…”
وإذا أخذنا فى الاعتبار أن محمد علي كان قد وفد على مصر قبل ذلك بأربعين عاما من منطقة نائية من الدولة العثمانية وهو بعد شاب فقير لا صلة له بتلك الأرض الجديدة عليه، وأنه كان عليه مواجهة الكثير من الخصوم والمنافسين فى مصر وفى الآستانة حتى يستقر له الأمر، وأن ما نجح فى تحقيقه كان أمرا غير مسبوق، فلم يستطع أى وال فى تاريخ الدولة العثمانية أن يورّث ولايته لأولاده ونسله، إذا أخذنا كل ذلك فى الاعتبار لأدركنا أهمية ما نجح محمد علي في تحقيقه. ففرمان 1841 يعتبر قمة نجاح محمد علي وليس دليلا على انهزام مشروعه. وقد عاش السنوات المتبقية من عمره مستمتعا بهذا الإنجاز غير المسبوق ومصمما على العمل لكى يزيد من إنتاجية تلك الولاية التى كان يعتبرها دوما مصدر نعمته.
وبعد هذا العرض الموجز لتاريخ محمد علي فى مصر بوضعه فى إطاره العثماني الصحيح يمكن لنا أن نعيد عقد المقارنة بينه وبين جمال عبد الناصر، حيث ستتبدى فورا عشرة اختلافات تفصل بينهما.
فأولا، بينما يمكن اعتبار جمال عبد الناصر زعيما وطنيا مصريا، بل الزعيم الوطني المصري بألف لام التعريف، فالوطنية لا تصلح مطلقا كأداة تحليل يمكن بها فهم طبيعة حكم محمد علي. فكما هو معروف لم تظهر الوطنية كتيار فكري إلا فى أواخر القرن التاسع عشر. إضافة إلى ذلك فإن صراعات الباشا غلب عليها الطابع الأسري كما أنه لم يبذل حتى أى جهد لتصوير صراعاته على أن المقصود منها رفعة المصريين والنهوض بهم. وفى حين أن عبد الناصر كانت لديه بالفعل رؤية ما عن تاريخ مصر وعن دوره في هذا التاريخ، فإن دوافع محمد علي كانت شخصية وأسرية فى المقام الأول، فمصر بالنسبة له كانت ضيعة كبيرة تدر عليه دخلا مكنه من زيادة سطوته ومركزه، وكان المصريون فى نظره الأداة التى يمكن بها زيادة ريع هذه الضيعة، لذا وجب المحافظة عليهم. وبمعنى آخر وعلى عكس عبد الناصر الذى كان شعار “ارفع رأسك يا أخى” من أهم شعاراته، لم يدر فى خلد محمد علي أبدا أن المصريين يستحقون احترامه أو حتى مجرد التظاهر بذلك.
ثانيا، ومقارنة بالضربة القاضية التي تلقاها مشروع عبد الناصر عام ١٩٦٧ فإن عام ١٨٤١ يمثل قمة نجاح محمد علي وتتويجا لجهوده في أن ينتزع من السلطان اعترافا بوضعه القانوني الجديد وأن يؤكد هذا الاعتراف بحماية دولية وفرتها له القوى الأوربية.
ثالثا، بينما يمثل العدوان الثلاثي مؤامرة كلاسيكية قل نظيرها فى العالم المعاصر عندما تآمرت القوى الاستعمارية على التخلص من أحد زعماء العالم الثالث عقابا له على مواقفه المعادية للاستعمار، فإن كارثة نفارينو كانت نتيجة غير مقصودة لتحالف القوى الأوربية لمساعدة شعب قابع تحت الاحتلال الأجنبي (الشعب اليوناني). وإضافة إلى ذلك، بينما أظهرت حرب السويس عام ١٩٥٦ لعبد الناصر وجه الإمبريالية القبيح، كانت موقعة نفارينو مرحلة مفصلية في علاقة محمد علي مع السلطان العثماني وليس مع القوى الإمبريالية الأوربية كما سبق أيضاحه.
رابعا، إذا كان السبب وراء معادة بريطانيا لعبد الناصر، ذلك العداء الذى أخذ بعدا شخصيا فى شخص أنطونى إيدن، بسبب مناوأة عبد الناصر لمطامع بريطانيا الاستعمارية فى المنطقة، فإن عداءها لمحمد علي قبل ذلك بقرن من الزمان، ذلك العداء الذي تمثل فى شخص بالمرستون، كان سببه حروب محمد علي التوسعية والإمبريالية. فيجب هنا التأكيد على أن كراهية بالمرستون الشديدة لمحمد علي لم تكن نابعة من إدراكه للمخاطر التى كانت فاوريقات الباشا تمثلها للصناعات البريطانية، بل كان سببها سياسة الاحتكار التى اتبعها الباشا، إذ أدرك بالمرستون أن سياسة الاحتكار تلك تسمح للباشا من أن يحول الفائض من القطاعين الزراعي والتجاري إلى القطاع العسكري وبالتالي مكنته من بناء جيش وأسطول مرهوبي الجانب استخدمهما للتوسع خارج مصر على حساب الدولة العثمانية. وقد أدى ذلك التوسع إلى تهديد دعائم الدولة العثمانية وطرح فكرة بقائها أصلا للتساؤل. وليس معنى ذلك أن بريطانيا لم تكن بعدائها لمحمد على تحاول الدفاع عن مصالحها الاستعمارية، بل يعنى أن تلك المحاولات كانت موجهة ضد قوة توسعية عسكرية إمبريالية نابعة من داخل الدولة العثمانية ولم تكن موجهة لقوى وطنية لها عمق شعبي مثلما كان الحال بالنسبة لعبدالناصر (أيا كان حكمنا على طبيعة هذا العمق الشعبى).
خامسا، فى حين يمكن القول أن هزيمة إسرائيل لعبد الناصر كانت نابعة (إلى حد ما) من عدم إدراكه لطبيعة الصهيونية ولإصراره على النظر إليها على أنها ذيل من ذيول الاستعمار، فإن محمد علي كان على دراية تامة بطبيعة غريمه، أى الدولة العثمانية، وتحديدا لطبيعة خسرو باشا عدوه اللدود الذي كان له الدور الأكبر فى مناوأته فى عاصمة السلطنة وفى تزعم معسكر قوي هناك يرفض مطالبه ويشوه صورته لدى السلطان ورجال البلاط.
سادسا، فإن مما لا شك فيه أن عبدالناصر كان شخصية كاريزماتية وأنه استطاع أن يتواصل مع الجماهير وأن يعبئ المئات من المثقفين حتى يشكلوا وعي جيل بأكمله، وأن يبدو للملايين من المصريين كـالـ”ريس”الذى يطمأنوا لتسليم مقاليد حياتهم كلها له. وقد وصلت درجة هذا الاطمئنان والتماهي مع الـ”ريس” حدا غير معقول فى مظاهرات التنحى الشهيرة يومي ٩ و١٠يونيو عام ١٩٦٧ فى أعقاب الكارثة المروعة التى حلت بالجيش والتى أدت، كما بين شريف يونس ببراعة فى كتابه، الزحف المقدس، إلى أن تخرج الملايين إلى الشوارع مطالبة الـ”ريس”، المسئول الأول عن هذه الكارثة، لا بالرحيل أو حتى بمحاكمته على تلك المصيبة بل بالعدول عن قرار التنحى. وعندما مات الـ”ريس” بعد ذلك بثلاث سنوات سار أربعة ملايين من البشر فى جنازة مهيبة قل مثيلها فى العالم.
وعلى العكس من ذلك، فإن سياسات محمد علي، وإن راقت للكثير من المصريين فى فترات لاحقة لأسباب معقدة لا مجال للخوض فيها هنا، إلا أنها لم تلق أي قبول لدى المصريين المعاصرين له الذين رأو فيه حاكما مستبدا وصل جبروته واستبداده حدا لم يصله أي من الولاة العثمانيين السابقين. وبالتالي فعندما مات بعد فترة حكم امتدت لنصف قرن ذاق المصريون خلالها أنواعا عديدة من العذاب والهوان والذل لم يمش فى جنازته سوى حفنة من القناصل الأجانب بينما أحجم المصريون عن المشاركة فيها. أما الآلاف من المصريين الذين يزورون كل سنة المسجد المهيب الذي شيده فى القلعة يكادون لا يعبأون بأنه مدفون هناك وقليلون منهم يشعرون بأى أثر له قد يكون تركه على حياتهم.
سابعا، فى حين أن المشروع الناصري قد واجه بالفعل مشاكل هيكيلية قبل ١٩٦٧ نتج عنها عدم استكمال الخطة الخمسية الأولى، وبالرغم من أنه يمكن اعتبار ١٩٦٧ كعام وفاة المشروع الناصري (يعتقد البعض أن عبد الناصر توفى بالفعل عام ١٩٦٧ وأنه لم يدفن إلا فى عام ١٩٧٠، أما البعض الآخر فيعتقد أن عبد الناصر لم يمت أصلا بل أنه ما زال حيا يرزق)، إلا أنه يجب عدم الاستهانة بالدور الذى لعبه خليفة عبد الناصر، السادات، فى دق المسامير فى نعش الناصرية. فما يطلق عليها “ثورة التصحيح” كانت فى الحقيقة “انقلاب قصر” أطاح بأتباع عبد الناصر وزبانيته عن مركز صنع القرار؛ وسياسة الانفتاح لم تكن أكثر من تحطيم لما سمى بقرارات الستينيات الاشتراكية ؛ أما زيارة السادات للقدس عام ١٩٧٧ فكانت تحولا جذريا فى سياسة مصر الخارجية وكأن السادات أراد القول إن ذلك ما كان يجب على عبد الناصر أن يفعله في أعقاب هزيمة يونيو.
وبالمقارنة بالسادات فإن عباس باشا، حفيد محمد علي وخليفته (عادة ما تهمل فترة حكم إبراهيم باشا التى لم تتعد الشهور القليلة) وبرغم كل الانتقادات التي توجه إليه عادة، لم يكن خائنا لتركة سلفه. إن الصورة القاتمة التى يظهر بها عباس عادة فى الخطاب التاريخي المصري الحديث نتيجة مباشرة لافتراض أن جده كان صاحب مشروع تنويرى وأن عبقرية محمد علي تقاس عادة بمدى التخلف الذي كانت البلاد تعانى منه عند قدومه، من جانب، وأن من أسباب فشل مشروعه، من جانب آخر، هو عدم مواصلة أتباعه لجهوده فى الإصلاح والتنوير. على أنه قد يكون من الأصوب النظر لعباس على أنه كان متزعما جبهة داخل البيت الخديوي الحاكم رأت أن ذلك “الإصلاح” يسير بوتيرة أسرع من قدرة المجتمع على تحملها، وأن الفلاحين وبسطاء الناس هم الذين يدفعون ثمن ذلك التسرع فى سياسات “الإصلاح”. ولكن إذا اعتبرنا أن مقصد محمد علي الرئيسي كان دائما تثبيت حكمه فى مصر وتوريثه لنسله وأعقابه من بعده فإن عباس سيظهر حتما كالغيور على تركة جده وكالمدافع عن مشروعه، ذلك أن عباسا كان حريصا على ألا ينتقص الباب العالي من الاستقلال الذى كرسه محمد علي لأسرته، ونجح عباس إلى قدر كبير فى مناوأة السلطان عندما أراد ذلك الأخير مثلا أن يتنزع من والي مصر حق إعدام القتلة الذين ارتكبوا جرائمهم فى مصر، فقد اعتبر عباس أن تنفيذ حكم الإعدام فى حق القتلة من أهم مظاهر السيادة، ورفض بشدة أن يتنازل للسلطان عن ذلك الحق الذى ورثه عن جده. وهناك دلائل أخرى على أن عباسا كان مقدرا لجهود محمد علي الناجحة فى إنشاء حكم أسري فى مصر وأنه واصل تلك الجهود بنجاح.
ثامنا، كان عبد الناصر من أهم أنصار الطبقة الوسطى، وحققت السياسات التى اتبعها من تعليم مجاني وإصلاح زراعي وتوظيف مضمون في الحكومة والقطاع العام مكاسب هامة لتلك الطبقة مكنته ومكنت ضباط الثورة من أن يحيّدوا ويسترضوا أهم قطاع من قطاعات هذه الطبقة، أى المثقفين الذين أخذوا يمجدون فى”الثورة” وفى “إنجازاتها”. أما محمد علي، فكما كتب الشيخ الإمام محمد عبده فى مجلة المنار بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لتوليه الحكم، فقد قضى على الطبقة الوسطى “وأخذ يرفع الأسافل ويعليهم فى البلاد… حتى انحط الكرام وساد اللئام ولم يبق فى البلاد إلا آلات له يستعملها فى جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطيبة من رأي وعزيمة واسقلال نفس ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده على أثر اقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة.”
تاسعا، وبناء على ما سبق، يمكن طرح وجه اختلاف مهم يرتبط بالسؤال الذى يدور فى خلد أي متابع لهاتين التجربتين المتميزيتين: هل كانت نتيجة هاتين التجربتين حتمية؟ وأظن أن اللحظة التى يجب طرح هذا السؤال بخصوصها فى تجربة عبد الناصر هى لحظة ١٩٥٤ عندما كان ما زال بالإمكان عودة العسكر لثكناتهم وإقامة حياة ديموقراطية سليمة، أما وقد آثر العسكر التمسك بالحكم والتضحية بالديموقراطية بادعاء المحافظة على الـ”مكاسب الثورية” فقد استوجب ذلك التمسك بشرعية العسكر على حساب شرعية دستورية والانخراط فى تلك السياسات غير المدروسة التى كانت تدغدغ مشاعر الجماهير إلى أن وصل الحال بتلك الجماهير تسير وراء”ريسها” فى زحف مقدس إلى الهاوية، كما بين شريف يونس بجدارة.
وإذا طرحنا هذا السؤال بخصوص محمد علي فإن اللحظة المماثلة ستكون عام ١٨٠٥ عندما سنحت له فرصة تأسيس مرجعية شعبية تكون مصدرا لشرعيته. أما وقد آثر محمد علي التخلص من الزعامة الشعبية والارتكان على الشرعية التى كان يمثلها الفرمان الآتي من الآستانة فقد استلزم ذلك أن يأتي بأقاربه وبمعارفه وأن يقلدهم المناصب العليا مستعيضا بهم عن الطبقة الوسطى المحلية حتى يثبت حكمه فى مصر وأن يورثه لنسله وأعقابه.
ونقطة الاختلاف هنا بين المشروعين تكمن فى أن عبد الناصر كان بوسعه أن يحقق مشروعه فى مصر حتى لو كان قد أقام نظاما ديموقراطيا سليما، وأغلب الظن أنه لو تم ذلك بالفعل لكان بوسعه أن يظل مستأثرا بالحكم ومنفذا لطموحاته ولكن فى إطار برلماني مثله فى ذلك مثل أتاتورك في تركيا. وعلى العكس من ذلك فإن الخيارات المتاحة أمام محمد على عام ١٨٠٥ لم تكن خيارات حقيقية، فنظرا لطبيعة مشروعه المتمثل فى تأسيس حكم أسري فى مصر كان استجلاب الأهل والأصدقاء وتقليدهم المناصب العليا فى إدارته الجديدة السبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف، بل كان ذلك هدفا ووسيلة فى نفس الوقت، وبالتالى لم يكن لمحمد علي من بد سوى القضاء على الزعامة الشعبية حتى ينفذ مشروعه فى مصر.
عاشرا وأخيرا، نظرا لهزيمة عبد الناصر فى عام ١٩٦٧ ينظر له عادة كبطل من أبطال التراجيديا الإغريقية، بطل كان يواجه بدائل كلها سوداوية ولكنه ثبت على ما اعتقد أنه الحق وعانى من تبعات ذلك القرار المر. فالبنسبة للبعض يظل عبد الناصر صاحب رؤية ومبادئ سامية ألهبت مشاعر الملايين من المصريين والعرب وألهمتهم. وبالنسبة للبعض الآخر فإن تلك المبادئ السامية ما كان يجب لها أن تتخذ ذريعة للانتقاس من الحقوق السياسية للمصريين، الأمر الذى رأى فيه الكثيرون خطأ فادحا بل قاتلا. أيا كان الأمر، فالكثيريون سيجمعون على أن جمال عبد الناصر مات محسورا وظلت أحلامه ورؤاة المتعلقة بمصر مجرد أحلام ورؤى.
أما محمد علي فقد كان سياسيا ماكرا ومحنكا، وكان، قبل كل شيء، رجل دولة ناجحا. فبالرغم من أصوله المتواضعة فقد تمكن من الاستئثار بحكم واحدة من أهم وأغنى الولايات العثمانية، وبعد مرور حوالي نصف قرن على قدومه لمصر كمغامر صغير فى مقتبل العمر تمكن من تحقيق ما لم يتمكن أى وال سابق من تحقيقه، ألا وهو تحويل ولايته لولاية دائمة مدى حياته ثم وراثية بعد وفاته. ومما لا شك فيه أنه عند وفاته وقد تجاوز الثمانين كان رجلا سعيدا ممتنا لم حباه به القدر من العز والجاه وبما استطاع أن يحققه طوال حياته الطويلة. وتحقيقا لآماله حكمت ذريته بالفعل مصر لمدة قرن كامل حتى أتى عبد الناصر بانقلابه الذى خلعهم به من الحكم.
لا مجال للمقارنة بين من حاول تكبير مصر قولا وفعلا وبين من أضعف مصر وحولها الى بؤرة للحقد الطبقي بين الأغنياء والفقراء وفقد أجزاء من فلسطين والسودان بل وحتى سيناء .
محمد علي باشا ناجح بكل المقاييس قولا وفعلا بينما عبد الناصر فاشل ولم يكن يجيد سوى الكلام والاستعطاف والعزف على قلوب الفقراء بنغمة الربابة
الجنيه المصري في عهد فاروق كان أغلى من الدولار .
كمغربي محب لمصر أرى فرقا كبيرا بين مصر في عهد الملكي وبين حكم العسكر الذي أعتبره شرا أصاب مصر