نُشر في “فيسبوك” في ٢٣ يوليو ٢٠١٤
هناك ثلاث نقاط أساسية تتعلق بالقانون الدولي يجب التركيز عليها عند تناولنا للمأساة الدائرة في غزة:
الأولى هي أن صفة الاحتلال لم تزل عن إسرائيل عندما انسحبت من قطاع غزة عام ٢٠٠٥، وذلك لأنها ما زالت فعليا تتحكم في القطاع: فهي تحكم سيطرتها على المجال الجوي والشواطئ والمياة الإقليمية والحدود والوقود. وكسلطة احتلال، يجب على إسرائيل أن تمارس مسئولياتها التي يمليها عليها القانون الدولي والتي تنص أهم بنوده على ضرورة حماية المدنيين في الإقليم المحتَل. (اتفاقية لاهاي لعام ١٩٠٧ بتعديلاتها).
أما النقطة الثانية فهي أن إسرائيل لا تستطيع أن تدعي أن ما تقوم به هو دفاع عن النفس، ذلك لأنها هي من بادر بإشعال الموقف. فلا يوجد دليل على أن الثلاثة أطفال الإسرائيلين الذين خُطفوا ثم قُتلوا قد تم خطفهم وقتلهم لأسباب سياسية أو أن حماس هي من قامت بذلك. وبالتالي فإنه عندما قامت إسرائيل باعتقال ٤٠٠ شخص وتفتيش ٢٠٠٠ بيت وقتل تسعة فلسطينيين تكون بذلك هي من بدأ الحرب وبذلك تنتفي حجتها إن ما تقوم به هو دفاع عن النفس.
أما النقطة الثالثة هي أن هناك دلائل عدة على أن إسرائيل لم تمارس التمييز عند قصفها لأهدافها، فهي قد قصفت مستشفيات ومنازل قادة سياسيين وشبكات المياة والصرف وبُنى تحتية أخرى. وكل هذه لا تندرج تحت الأهداف العسكرية المشروع استهدافها.
(وقد استقيت هذه النقاط من مقال جيد لجورج بشارة، أستاذ القانون بجامعة كاليفورنيا بهاستينجز، والمنشور في النيويورك تايمز بالأمس
وأعتقد أن هذه النقاط وغيرها هي ما دفعت نافي بيلاي، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، للقول إن هناك شبهة في أن إسرائيل تنتهك القانون الدولي وأنها ارتكبت جرائم حرب. لا أحد يعلم إذا كانت هذه التصريحات (التي تتصدر الأخبار الآن) سيكون لها أي أثر.
ولكن الملاحظ هنا في مصر هو غياب أي حديث عن القانون الدولي عند التعرض لما يحدث في غزة. هذا الغياب التام للقانون الدولي قي الخطاب الرسمي المصري، الدبلوماسي والإعلامي، ليس وليد اللحظة، بل يعود لعام ٢٠٠٥ عند “انسحاب” إسرائيل المزعوم من قطاع غزة. فالخارجية المصرية، ذات الباع الطويلة في القانون الدولي والنشطة في المحافل الدولية، تخلت عن الارتكان على القانون الدولي عند التعاطي مع غزة. وللأسف انتُزع منها ملف فلسطين برمته وأصبح، منذ سنوات طويلة، تتحكم فيه أجهزة الأمن المختلفة، بعد أن كان، ومنذ إنشاء الوزارة في الثلاثينات من القرن الماضي، من أهم الملفات التي اضطلعت بها.
مصر تتعامل مع مشكلة القطاع وحماس وحوالي المليون ونصف مليون فسلطيني الآن من منظور أمني صرف، وكأنه لا يوجد احتلال ولا أهمية للقانون الدولي. فاتفاقية الهدنة التي اقترحتها مصر منذ أيام لا تشير من قريب أو من بعيد للقانون الدولي، ولا تذكر الاحتلال ولا تتطرق للمشاكل الناجمة منه، ويغيب عنها أي إدراك للأصول التاريخية للمشاكل المعقدة التي يعاني منها قطاع غزة.
وللتذكرة، ولمن سيقول “قانون دولي إيه يا عم اللي جاي تقول عليه؟ انت ناسي حماس؟ دول شوية إرهابيين ما يعرفوش غير لغة الدم” – هؤلاء أذكرهم بنجاح إسرائيل على مدار سنوات طويلة في الاحتماء بالقانون الدولي لإسباغ الشرعية على أعمالها العسكرية. وكمثال بسيط من أمثلة عديدة يمكن ذكرها، فلنتذكر أحداث هزيمة ١٩٦٧. فقد نحجت إسرائيل نجاحا ساحقا في ادعائها أنه عندما أغلقت مصر مضيق تيران للملاحة الإسرائيلية يوم ٢٣ مايو ١٩٦٧ فإنها بذلك قد أعلنت الحرب على إسرائيل وأن إسرائيل، بدورها، كان من حقها أن تدافع عن نفسها ضد هذا الاعتداء. وبالتالي وقالت إنه عندما قصفت مطاراتنا في صبيحة الخامس من يونيو، لم يكن ذلك سوى دفاعا عن النفس، وبالتالي فهي غير ملتزمة بتعويض مصر أو برد أراض لها . هذه الحجج واجهتها الخارجية المصرية، بعد الهزيمة، بقوة وعناد وفندها دبلوماسييونا في الأمم المتحدة بذكاء وحنكة.
صحيح أن موازين القوى، في المقام الأخير، هي ما يحسم الأمور، ولكن يخطئ من يظن أن مبادئ القانون الدولي لا تندرج ضمن هذه الموازين. ويخطئ من يظن أن إسرائيل لا تكترث بالقانون الدولي أو بصورتها أمام العالم. ويخطئ من يحصر الاهتمام بمشكلة غزة في النواحي الأمنية فقط، ليس لأن مبادئ العدالة وحقائق التاريخ ومواد القانون أهم من الجوانب الأمنية، بل لأن الأخلاق والتاريخ والقانون عناصر مهمة من عناصر الأمن القومي.
لا شك أن مشكلة غزة تهدد الأمن القومي المصري، ولا أحد يطالب الأجهزة الأمنية بعدم التعامل مع هذا التهديد بحسم وقوة. ولكن مشاكل غزة لا تكمن فقط في أن حماس على صلة بجماعة الإخوان المسلمين. كما لا تقتصر مشاكل غزة في أنها مرتع للتدخل القطري أو التركي، وقبلهما إيران وسوريا.
فمع عدم التقليل من هذه العوامل فإن مشكلة غزة الحقيقية تكمن في الاحتلال الإسرائيلي وفي نفي إسرائيل المتكرر لحقيقة هذا الاحتلال وتنصلها من المسئوليات القانونية والسياسية المترتبة عليها كسلطة احتلال.
إن غياب أي دور فعال للخارجية المصرية، بحنكتها وخبرتها، في التعامل مع مشكلة غزة هو ما يؤجج هذه المشكلة ويعمقها. فبدون إدراك حقيقة وجود قرابة المليون ونصف مليون إنسان في سجن مفتوح على حدودنا، ودون التأكيد على أن إسرائيل بممارساتها المتكرر كسلطة احتلال تنتهك القانون الدولي، ستتفاقم مأساة الفلسطينيين الرازخين تحت الاحتلال وسيظل الأمن القومي المصري مهددا.