نُشر في “فيسبوك” في ٢١ يوليو ٢٠١٤
كتبتُ هذا المقال من ثماني سنوات بعيد “الانسحاب” الإسرائيلي من غزة عام ٢٠٠٥. وللأسف لم تتحقق أمنياتي التي أوضحتها في نهاية المقال من أن نبقي الضغط على إسرائيل في المحافل الدولية (التي تهتم بها إسرائيل أيما اهتمام)، وأن نركز على أن صفة الاحتلال لم تزل بمجرد الانسحاب العسكري؛ إذ أن إسرائيل احتفظت لنفسها بحق التدخل العسكري والأمني والاستخبراتي والسياسي والاقتصادي وقتما وكيفما وحيثما تشاء. فعلى مدار التسع سنوات الماضية لم تتردد إسرائيل في غزو القطاع وقصفه وفي إحكام الخناق عليه وفي التنكيل بسكانه، وبذلك استمر الاحتلال دون أن تدفع إسرائيل تكلفته الاقتصادية أو القانونية أو الأخلاقية.
ووما يزيد الوضع بؤسا أن مصر، طوال تلك المدة التي شارفت على العقد، قبلت ضمنا (وأحيانا صراحة) المنطق الإسرائيلي الذي ينظر لقطاع غزة من وجهة نظر أمنية فقط، فملف فلسطين برمته انتُزع من الخارجية المصرية، وهو أقدم وأكبر ملف اضطلعت به الوزارة منذ إنشائها، فلا حديث عن القانون الدولي أو الحقوق أو مبادئ العدالة أو التاريخ أو الأخلاق، وغابت عن الرؤية المصرية الرسمية (وللأسف عن قطاع لا يستهان به من الشعب) حقيقة الاحتلال وضرورة المقاومة، وانحصر الاهتمام الرسمي في الكلام عن “الإرهاب” وفي ضرورة “الحرب على الإرهاب”.
على أن أكثر ما يقلق في تناول ملف غزة من هذا المنظور الأمنى فقط هو تأثير ذلك ليس على إهدار الحقوق أو على تفويت الفرصة لاستخدام القانون الدولى أو على غض الطرف عن مبادئ العدالة، بل تأثيره على الأمن والأمن المصري تحديدا. فنتيجة لسنوات طويلة من التعامل مع قطاع غزة من وجهة نظر أمنية فقط (كيف ومتى ولأي مدة نفتح المعبر؟ من الذي سنسمح له بالعبور ولماذا؟ كيف نقضي على الأنفاق وننسفها؟ كيف نتبادل المعلومات الاستخبراتية ونحللها؟ إلخ) – نتيجة لتبني وجهة النظر تلك نجحت إسرائيل في التنصل من مسئولية الاحتلال ونجحت في تصدير تلك المسئولية لنا. فعوضا عن الضغط على إسرائيل لكي تنهي احتلالها لقطاع غزة بالفعل (بترسيم الحدود، وبتوقيع معاهدة مع الفلسطينيين، وبالتعهد بعدم التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني)، قبلنا بالمنطق الإسرائيلي الذي لا يرى غضاضة في إخضاع أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني للسجن ومنعهم من أي فرصة لحياة آدمية أو كريمة أو آمنة.
قد يكون منا من لا يتعاطف مع الفلسطينيين ولا يهمه ما يحل بهم من مآسي وأهوال. وقد يكون منا من صدّق الكذبة الكبرى بأنهم قد باعوا أرضهم وفرطوا في حقوقهم. وقد يكون منا من لا يكترث بالقانون الدولي ولا بمبادئ العدالة. وقد يكون منا من لا يريد أن يكلف نفسه عناء البحث والاطلاع في كتب التاريخ لمعرفة أصل المشكلة ومصدرها. وقد يكون منا من يتماهى مع الإسرائيليين ويرى أنهم، مثلنا، يتعرضون لخطر وجودي بسبب “الإرهاب”.
لكل هؤلاء أقول: حسنٌ. ولكن ماذا عن الاحتلال؟ فحتى إن قبلت به أخلاقيا وقانونيا وتخليت عن إنسانيتك، ألا تهتم بأمنك أنت؟ ألا ترى أن بقاء أكثر من مليون ونصف مليون إنسان في سجن كبير على تخوم بلدك أمرا يهدد أمنك أنت؟ ألا ترى أن هذا الأمر يهدد أمن المنطقة كلها واستقرارها؟ ألا ترى أن عليك مسئولية في وضع نهاية لهذا الأمر غير الطبيعي، ليس حبا في الفسلطينيين بل طلبا لأمنك وراحتك أنت؟