Press "Enter" to skip to content

خواطر بالعامية: أزمة الكتابة التاريخية في مصر

مقال نُشر في “مدى مصر” بتاريخ ١٠ يوليو ٢٠١٤

من أسبوعين رُحت جامعة أوكسفورد علشان ألقي محاضرة “محاضرة جورج أنطونيوس” في قسم دراسات الشرق الأوسط التابع لكلية سانت أنطوني. بعد المحاضرة المنظمين دعوني على الـ”هاي تابل”، وده عبارة عن عشا بس فخم حبّتين: بعد تلاوة صلاة باللاتيني يبدأ العشا بوجباته الثلاثة، وبعدين ينتقل المدعوين لقاعة تانية علشان الحلو والجبنة، وبعد الحلو والجبنة يروحوا لقاعة ثالثة علشان القهوة والشاي. والغرض من تغيير القاعات إن المدعوين يغيروا الناس اللي قاعدين جنبهم ويتبادلوا أطراف أحاديث جديدة.

لما كنت طالب في أوكسفورد من خمسة وعشرين سنة كنت بارتاب من فكرة “الهاي تابل”، وباعتبرها طقس سخيف من طقوس الجامعة العتيقة دي. وفي المرات القليلة اللي كنت بآكل فيها في الكلية، كنت باستغرب من شكل الأساتذة والضيوف وهم بيصلوا باللاتيني ولابسين الزعابيط السودة العبيطة، وكل ده علشان وجبة الأكل فيها في الغالب مالوش طعم.

وبالتالي لما لقيت نفسي مدعو على الـ”هاي تابل” قلت في نفسي: “استعنا على الشقا بالله. أهي كلها ساعتين زمن، وأخلص وبعدين أروح أتعشى مع أصحابي وآكل أكل بجد”.

لكن كل حاجة في الليلة دي جت عكس توقعاتي.

الصلاة في أول العشا كانت من كلمتين بس: Benedictus, benedicat. وبالتالي ماكنتش مضطر أسمع كلام طويل بلغة مش فاهمها. والأهم

مارجريت ماكميلان

إني اكتشفت إن اللي كانت بتتلو الصلاة كانت مارجريت ماكميلان، ودي أستاذة مشهورة، باحب شغلها كله وخصوصا كتابها الرائع عن مؤتمر الصلح الشهير اللي انعقد في باريس سنة ١٩١٩.

واندهشت أكثر لما لقيت إن الأكل كان على مستوى عالي جدا ومش سلق بيض وخلاص.

لكن أهم مفاجأة كانت الراجل اللي قاعد جنبي. كان في سني تقريبا وشكله تايه. لما ابتدينا نتكلم فهمت منه إن مُضيفه اللي دعاه على العشا ماجاش من الأصل، ووقتها أدركت إني لازم أبذل مجهود مضاعف في الكلام معاه لإنه معندوش حد تاني يكلمه على العشا. ومفيش دقيقتين واكتشفت إن الشخص ده لُقطة، وإن الحديث معاه هيكون ممتع.

الراجل اسمه آدم سيسمان، وأنا من جهلي ما كنتش أعرفه ولا سمعت عنه. سألته عن شغله، فقال بتواضع إنه كاتب، وتحديدا إنه متخصص في كتابة السير الذاتية، وإنه اليومين دول بيكتب سيرة عن جون لي كاريه John le Carre ، وده واحد من أهم وأشهر كتاب القصص البوليسية في انجلترا (جورج أورويل عنده رؤية خاصة جدا لولع الإنجليز بالرواية البوليسية). سألته: “مش غريبة شويتين إن الواحد يكتب سيرة عن مؤلف لسه ما ماتش، يعني لسه حي يرزق؟” فقال لي إن هو ده بالظبط موضوع المحاضرة اللي كان بيلقيها يومها الصبح في الجامعة.

آدم سيسمان

سألته عن السيَر اللي كتبها في السابق، فقال لي إنه كتب سيرة عن هيو تريفر-روبر Hugh Trevor-Roper وسيرة تانية عن إيه جيه بي تايلور،A. J. P. Taylor ودول اثنين من أهم وأشهر المؤرخين الإنجليز في القرن العشرين. قلت له إني قريت كتاب تايلور عن أصول الحرب العالمية التانية اللي صدر سنة ١٩٦١ وعلى دراية بالنقاش الحامي اللي الكتاب أثاره وقتها. وقلت له إني عمري ما اقتنعت بتحليل تايلور اللي قال فيه إن هتلر ما كانش ناوي على غزو أوروبا، وإن التوسع الألماني ما كانش وراه أسباب أيدولوجية إنما كان نتيجة سيطرة السياسة الخارجية الألمانية على السياسة الداخلية، وإن هتلر في المقام الأخير ما كانش يفرق عن غيره من الساسة الألمان زي جوستاف ستريسمان، وزير الخارجية في جمهورية فايمار اللي حصل على جايزة نوبل للسلام سنة ١٩٢٦.

سيسمان رد وقال إنه تناول الموضوع ده بإسهاب في ترجمته لتايلور، وإنه شرح بالتفصيل الاعتراضات اللي الكتاب أثارها، واللي كان من أهمها العرض النقدي اللاذع اللي كتبه زميله في الجامعة تريفر-روبر. السجال بين تايلور وتريفر-روبر من أمتع السجالات الأكاديمية على الإطلاق، ومن الطريف في الموضوع إن الخلاف بين الراجلين ما كانش منحصر في أروقة الجامعة وبيدور على صفحات الدوريات الأكاديمية، بس كان موضوع اهتم بيه الرأي العام وتابعه بشغف على مدار مش بس شهور وإنما سنين طويلة. سيسمان وضّح لي إن الخناقة بين الراجلين انتقلت لشاشات التليفزيون، فبعد شهور قليلة من نشر الكتاب، وتحديدا في يوم ٩ يوليو ١٩٦١، استضاف المذيع والمقدم المشهور روبرت كي Robert Kee الراجلين في برنامجه التليفزيوني المذاع على البي بي سي، ودي مقتطفات من البرنامج دا.

https://www.youtube.com/watch?v=-PadWQ-21LA

ولما شافني سيسمان مهتم بحديثه، زاد واستطرد عن كتابه التاني عن تريفر-روبر، وقعد يوصف لي تفاصيل نفس السجال ده بس من وجهة نظر غريم تايلور وزميله في الكار. وشرح لي سيسمان إزاي اتأثر تريفر-روبر لما تايلور قال، في إحدى مناظراتهم، إن طريقة تريفر-روبر في عرض أفكار تايلور: “هتأثر بالسلب على سمعة تريفر-روبر الأكاديمية، ده لو كان عنده سمعة أكاديمية من الأصل”. آي.

سيسمان برضه شرح لي إزاي إنه تناول في سيرته لتريفر-روبر الفضيحة العلمية اللي وقع فيها في أواخر حياته، والفضيحة دي، بالصدفة كنت أنا بتابعها لما حصلت سنة ١٩٨٣، وبالتالي ما كنتش قاعد زي الأطرش في الزفة مش فاهم حاجة من اللي سيسمان بيتكلم عنها. الفضيحة كانت بتدور حوالين ادعاء صحيفة الصنداي تايمز إنها حصلت على مذكرات هتلر المكتوبة بخط ايده، وإنها هتبدأ في نشرها على حلقات. وقتها مؤرخين كثار شككوا في حقيقة المذكرات دي وزعموا إنها مزورة. فالصحيفة راحت لتريفر-روبر وطلبت منه إنه يتحقق من صحة المذكرات، وده لأنه متخصص في التاريخ الألماني ولأنه كان كتب كتابه الأشهر بعنوان “أيام هتلر الأخيرة” سنة ١٩٤٧ لنفي المزاعم السوفييتية وقتها إن هتلر كان لسه حي يرزق. فبناء على خبرته في الموضوع، قِبل تريفر-روبر إنه يفحص المذكرات وطلع على الناس بعدها وقال إنها أصلية مش مزيفة، وبناء عليه بدأت الصحيفة تنشر المذكرات. ومافيش كام يوم وطلع مؤرخين تانيين ليثبتوا بشكل قطعي إن المذكرات مزيفة وإن تريفر -روبر خانه التوفيق. ومن وقتها سمعة الأستاذ الكبير اهتزت وفقد كثير من احترام الناس ليه.

الصفحة الأولى من الصنداي تايمز، ٢٤ ابريل ١٩٨٣

ولكن من أطرف الحاجات اللي حكاها لي سيسمان في حديثه الشيق إنه بعد سنين طويلة من المناظرة الشهيرة بين العملاقين دول، وتحديدا بعد ٤٩ سنة، جرت مناظرة تانية بينهم، لكن المرة دي بعد ما ماتوا الاتنين!! ففي سنة٢٠١٠ قرر إدوارد ستورتون، وهو مقدم برامج في البي بي سي على درجة عالية جدا من العلم والثقافة، إعادة المناظرة لكن المرة دي بالتمثيل. فاستضاف صديقنا سيسمان ومؤرخ تاني مشهور، علشان يعيدوا طرح الخلاف القديم بين تايلور وتريفر-روبر ده على الجمهور بتاع القناة الرابعة الإذاعية للبي بي سي.

إدوارد ستروتون

اللي خلاني مندهش أكثر من القصة دي إني أنا شخصيا كان ليا واقعتين مع ستورتون. فبعد الثورة بكام أسبوع ستورتون جه مصر علشان يسجل برنامج إذاعي عن الدين والثورة وطلب يقابلني علشان نعمل حديث سوا. معد البرنامج طلب مني إننا نتقابل في القلعة علشان نسجل هناك. وبالفعل صحيت بدري يوم جمعة في شهر مارس ٢٠١١ ورحت القلعة علشان أسجل واحنا بنتفرج على المنظر الجميل للقاهرة الممتدة قدامنا. الحقيقة أنا كنت مستغرب شوية علشان كنت فاكر إن التسجيل للإذاعة مش التليفزيون. لما استفسرت قال لي المعد إن ظني في محله، ولكنهم، وللأمانة العلمية، عاوزين صوت القاهرة يطلع في التسجيل وعاوزين مني إني اتكلم عن تاريخ المدينة كحاضنة للفكر والفن الإسلامي وأنا واقف من فوق القلعة. التسجيل يدوبك  بدأ وعرفت أقول الكلمتين اللي ربنا فتح عليّ بيهم، وإذ بعسكري شرطة انقض علينا وسألنا عن تصريح الأمن. حاولت أوضح إن ده مش تسجيل كاميرا، وإنه للإذاعة بس، لكنه صمم على التصريح. بعد مفاوضات مضنية اتطردنا من القلعة كلها مع القول إننا لو فاكرين إن البلد سايبه بعد الثورة فنبقى غلطانين. المهم نزلنا لميدان صلاح الدين في سفح القلعة وكملنا التسجيل والحلقة اتذاعت.

المرة التانية اللي اتعاملت فيها مع ستورتون كانت بعدها بسنة وتحديدا في أوائل يونية ٢٠١٢. كنا على أبواب الانتخابات الرئاسية، وكانت الثورة في ليبيا وسوريا لسه في أولها، وقرر ستورتون يعمل برنامج تاني عن ثورات الربيع العربي يتساءل فيه عما إذا كانت المجتمعات العربية جاهزة للانتخابات. بصراحة أنا ما كنتش مبسوط من السؤال علشان نبرته الاستشراقية (اللي للأسف حكامنا بيرددوه: الشعوب العربية كالأطفال، لسه صغيرين ع الديمقراطية)، لكني قررت في النهاية إني أثق في الراجل بناء على المستوى العلمي العالي جدا اللي شفته منه في المرة السابقة. وفي النهاية رحت ستوديو البي بي سي في الزمالك علشان أسجل من هناك. ستورتون كان في لندن وبيكلمني من الاستوديو هناك، وكان من شطارته وذكائه إنه خلاني أقول حاجات وأعبر عن أفكار أنا نفسي ما كنتش عارف إنها ممكن تطلع مني، ودي طبعا من علامات المذيع الشاطر: يعرف إزاي يخلي الضيف يفكر بصوت عالي دون تدخل ثقيل منه، ودون ما يستحوذ هو على البرنامج. وإذ فجأة لقيت نفسي بأقول كلام فلسفي ما كنتش فاكر إني ممكن أقوله.

استمتاعي بقصة سيسمان عن لقائه بستورتون لإعادة تمثيل السجال بين تايلور وتريفر-روبر كان له سبب آخر، وهو الضيف التاني اللي وقف قدامه في التمثيلية الإذاعية التاريخية دي. الشخص التاني ده هو ريتشارد إيفانز، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة كامبريدج. إيفانس أنا برضه متابعه من زمان ومتابع شغله عن الكوليرا في هامبورج في القرن التسعتاشر، وعن دوره كشاهد نفي في القضية الشهيرة اللي رفعها دافيد إيرفنج على المؤرخة الأمريكية ديبورا ليبستات اللي اتهمته بإنكار الهولوكوست. وفي واحدة من مقالاتي في الشروق كنت كتبت عنه وعن ثلاثيته الرائعة عن الرايخ الثالث. وبالتالي كنت شغوف اسمع من سيسمان تفاصيل الحلقة دي مع إيفانس وإزاي عرف ستورتون يديرها ويحاور المؤرخين الاتنين دول اللي بيمثلوا دور مؤرخين اتنين تانيين اختلفوا حول الأصول التاريخية للحرب العالمية التانية.

ريتشارد إيفانز

طبعا مصدر اندهاشي الأساسي إني مش مصدق إن الجمهور العام بتاع الإذاعة ممكن يهتم بسجال شكله أكاديمي صِرف، وإن مؤسسة ضخمة زي البي بي سي ممكن تضيع فلوسها ووقت موظفينها على موضوع ضيق زي ده، مش مرة واحدة لكن مرتين.

والحقيقة إن طول إقامتي في أوكسفورد على مدار أسبوع كامل الشهر اللي فات اكتشفت إزاي التاريخ حاضر وبقوة في السجالات العامة وفي الوعي العام وفي المجال العام. يمكن علشان السنة دي، ٢٠١٤، هي الذكرى المئوية الأولي لاندلاع الحرب العالمية الأولي، والذكرى السبعين لإنزال قوات الحلفاء في نورماندي وبداية تحرير أوروبا من قبضة النازي، وبمناسبة الذكريتين دول المدينة، إن ما كانش البلد كلها، مليانة فعاليات، من مؤتمرات لمعارض لاحتفالات لمحاضرات لمسرحيات لبرامج تليفزيونية وإذاعية.

الشيء المبهر في هذا الاهتمام بالتاريخ مش بس حجمه ولكن نوعه. فالناس العادية بتُقبل على التاريخ كسجال مش كحقيقة ثابتة. من علامات المدخل النقدي ده للتاريخ قدرة المجتمع الإنجليزي على طرح أسئلة صعبة ومحرجة على لحظات فارقة وشخصيات محورية في تاريخهم. فمثلا كل سنتين في المتوسط بيتنشر كتاب جديد عن تشيرشل. الكتب دي في الأغلب بتكون مبنية على معلومات ومادة وثائقية جديدة متاحة مش بس للأكاديميين ولكن لغير الأكاديميين كمان (زي صديقنا سيسمان). ولكن المهم برضه هو إن الكتب دي بتطرح رؤية جديدة عن مواضيع قديمة وكثير بتتساءل عن أشياء ممكن تكون من المسلمات.

ومن أمثلة الكتب النقدية دي اللي بتتناول “رموز الأمة” بالنقد والتجريح كتاب لأستاذ جامعي (رئيس قسم التاريخ في جامعة إيست أنجليا) اسمه جون تشارملي John Charmley. الكتاب اسمه ” تشيرشل: نهاية المجد، سيرة سياسية”

Churchill: End of Glory, A Political Biography. الكتاب صدر سنة ١٩٩٢، وحكم فيه المؤلف على تشيرشل بالفشل لأنه ما عرفش يحقق الأهداف الثلاثة اللي وعد الشعب البريطاني إنه حيدخل الحرب ضد ألمانيا علشان يحققها: ١. الحفاظ على الإمبراطورية، ٢. منع صعود اليسار العمالي داخل بريطانيا، ٣. منع صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى. الكتاب قوي في حجته وفي عرضه لموضوعاته. ولكن مصدر قوته هو المادة الأرشيفية الجديدة المتمثلة في محاضر اجتماعات مجلس الوزراء ومناقشات البرلمان ولجانه اللي تشارملي مقق عينيه فيها وعرف يلخصها ويعرضها للقارئ بوضوح وقوة.

تشارملي وكتابه عن تشيرشل

كتاب تشارملي بالرغم من المادة الجديدة اللي معتمد عليها ما سلمش من النقد، والنقد اللاذع كمان. وكان من أهم النقاد صديقنا إيفانس اللي كتب يفند آراء تشارملي ويدحضها ويوضح إنه منطلق من أرضية أيدولوجية أملت عليه أفكاره ووجهت نتايجه. إيفانس في كتاب ليه عن كيفية قراءة تاريخ ألمانيا الحديث، قال إن كلام تشارملي عن تضييع تشيرشل لفرصة صلح منفرد مع هتلر تقدر بيه بريطانيا إنها تحتفظ بمستعمراتها – الكلام ده كلام فارغ وغير منطقي، ببساطة لإن القدرة القتالية لبريطانيا سنة ١٩٤٠ ما كانتش تسمح لها بالاحتفاظ بإمبراطوريتها حتى لو سحبت قواتها من أوروبا وتوصلت لصلح منفرد مع هتلر.

لكن اللافت في الموضوع هو إن شخصية بعظمة تشيرشل ما بتسلمش من النقد والنقد اللاذع كمان. ده بالرغم من إن تشيرشل زعيم منتصر، وانتصاره ما كانش انتصار بسيط ولا سهل. وشخصية تشيرشل العملاقة وخطبه الطنانة وكتاباته البليغة اللي نال بسببها نوبل للأدب – كل ده ما منعش تشارملي من كتابة سيرة نقدية لاذعة ومن إنه يطلق أحكامه القاسية عليه. لكن المهم برضه في الموضوع هو إن الناس بتستقبل النقد ده بارتياح بل بتنتظره وتقبل عليه، لأنها مدركة في النهاية إن من علامات عظمة تشيرشل الاختلاف عليه مش تقديسه، وإن الاختلاف حول الحكم عليه علامة صحية في المجتمع بشكل عام، بل من أهم العوامل اللي هتضمن لتشيرشل الخلود. وبالتالي فالاعتراضات اللي وُجهت لتشارملي (عن حق، في رأيي) كانت إنه يميني ومحافظ وعنصري واستعماري. لكن مفيش حد طلع يقول عنه إنه عميل، أو إنه حقود، أو إنه غير وطني.

نفس الكلام ينطبق على “الأحداث العظيمة” مش بس “الشخصيات العظيمة”. فبمناسبة الذكرى السبعين لإنزال نورماندي (٦ يونيو ١٩٤٤) الجرايد والمجلات ومحطات التليفزيون والراديو اتملت ببرامج ومقالات تحتفل بالمعركة دي، اللي الواحد كان فاكر إنها من أنجح وأعظم معارك الحرب كلها وبالتالي فهي فوق النقد. لكن ده ما منعش الناس، متخصصين وغير متخصصين، من إنهم يسألوا أسئلة صعبة ومحرجة عنها: هل صحيح إن الجيش الثاني البريطاني كان بطيء في تقدمه من ساحل نورماندي، اللي تم فيه الإنزال، للداخل؟ هل صحيح إن البطء ده كان سببه إنهاك الجنود البريطانيين وتعبهم بعد سنوات طويلة من المعارك والحروب؟ هل صحيح إن الفرقة المدرعة السابعة (المعروفة بـ”جرذان الصحراء”) فشلت في الاستفادة من الثغرة بين فرق الـ”بانتزر” (الدبابات) وقوات المشاة الألمانية، وهو الأمر اللي تسبب بحلول يوم ١٣ يونيو (يعني بعد الإنزال بأسبوع) في خسائر غير مبررة في العتاد والأرواح (البريطانيين خسروا من ٢٣ لـ٢٧ دبابة يوم ١٣ يونيو مقابل ١٣ لـ ١٥ دبابة للألمان)؟ وباختصار، هل تسببت القيادة الميدانية البريطانية في خسائر كان ممكن تلافيها؟

برضه المبهر في الموضوع إن الأسئلة دي مش مطروحة على صفحات دوريات أكاديمية متخصصة أو في كتب من مئات الصفحات اللي ما بيقراهاش غير أساتذة الجامعة. السجال ده شغال في الإذاعة والتليفزيون، ومش بس كده: ده حتى البرامج الإعلامية دي بتبقى موضوع لعروض صحافية في جرائد ومجلات يومية. فواحد زي جايمس هولاند James Holland، وهو مؤرخ هاوي مش أستاذ جامعي، ممكن يعمل برنامج تليفزيوني بعنوان نورماندي ٤٤ (مش نورماندي تو) لمدة ساعة كاملة على بي بي سي تو يتناول فيه الموضوع ده ويطرح فيه الأسئلة دي. وفي نفس يوم عرض البرنامج تنشر التليجراف عرض نقدي ليه على صفحاتها.

https://www.youtube.com/watch?v=vckduzJY8XM

أما في أدب الرواية التاريخية فحدث ولا حرج. يكفي إن الواحد يشير لثلاثية هيلاري مانتل عن أوليفر كرومويل وصعوده في بلاط هنري الثامن. الثلاثية دي ظهر منها جزءين لحد ده الوقت، كل جزء حصل على جايزة البوكر (الأولى في سنة ٢٠٠٩ والثانية سنة ٢٠١٢)، وبكده تكون هيلاري مانتل أول واحدة ست تحصل على الجايزة الرفيعة دي مرتين. وطبعا الناس قاعدة مترقبة صدور الجزء الثالث السنة اللي جاية. إنما المهم في الموضوع برضه إنه بالإضافة للمستوى الفنى العالي لروايات هيلاري مانتل، فالروايات دي مبنية على بحث تاريخي جبار – ومش بس بحث تاريخي في المصادر الثانوية، يعني في الكتب والمقالات المطبوعة، ولكن بحث تاريخي بدقة متناهية في المصادر الأولية من مخطوطات ووثائق وأوراق قديمة. ففي واحدة من مقابلاتها الصحافية قالت إن صحيح  كتابة الجزء الأول البالغ ٤٠٠ صفحة استغرقتها خمسة أشهر (من مايو لسبتمبر ٢٠١١ كل يوم ١٢ ساعة كتابة)، لكن التحضير للكتابة استغرقها ٣٠ سنة قرأت فيهم كل الكتب عن كرومويل وكل الكتب عن الكتب وكل المصادر الأولية.

هيلاري مانتل

على الرغم من انبهاري بروايات هيلاري مانتل، إلا إني أحب أتوقف عند كاتب تاني بيكتب روايات تاريخية، وزي مانتل رواياته حققت نجاح مبهر سواء عند الجمهور أو عند النقاد. الكاتب ده اسمه روبرت هاريس وأنا لسه مخلص له الجزء الثاني من ثلاثيته، اللي برضه لسه ما اتنشرش الجزء الثالث منها، والمتعلقة بتاريخ سيسرو، أشهر خطيب وسياسي في روما القديمة. لما خلّصت الجزء الأول من الثلاثية، “إمبيريام“، كنت منبهر بسلاسة السرد وبدقة المعلومات التاريخية وبصدق اللغة. وبعدين قريت إن هاريس اعتمد في الكتابة على أعمال سيسرو الكاملة، من خطب ورسائل، المنشورة في ٢٩ مجلد!!

لكن بالرغم من إعجابي العميق بـ”إمبيريام” لازم اعترف إني لقيت روايته الأقدم، “فاذرلاند“، رواية عبقرية بجد. الرواية تاريخية ـ بس مش قوي، لأن التاريخ المبنية عليه مش التاريخ اللي حصل، ولكنه التاريخ اللي كان ممكن يحصل لو غيرنا تفصيلة واحدة في وقائع الماضي. والتفصيلة الصغيرة اللي هاريس قرر يغيرها تتعلق بالحرب العالمية الثانية: يحصل إيه لو تخيلنا إن الحلفاء فشلوا في نورماندي وإن هتلر انتصر في الحرب؟ (وبالمناسبة دي، الكتاب الأخير لريتشارد إيفانز بيتناول بالنقد اللاذع النوعية دي من الكتابات التاريخية اللي ظهرت أخيرا على إيد مؤرخين يمينيين، الكتابات اللي بتبدأ بسؤال افتراضي: “ماذا لو؟”).

وقائع الرواية بتجرى في برلين بعد عشرين سنة من انتهاء الحرب، يعني في سنة ١٩٦٤. برلين ده الوقت عاصمة امبراطورية ضخمة اسمها “جيرمانيا” تشمل كل القارة الأوروبية بما فيها أراضي شاسعة من الاتحاد السوفييتي. بريطانيا بيحكمها الملك إدوارد الثامن وزوجته الملكة واليس (سيمبسون) بعد فرار جورج السادس وونستون تشيرشل لكندا، وده كان نتيجة نجاح الألمان في فك شفرة إنيجما، اللي كان الإنجليز بيستخدموها، وبالتالي عرفوا يجوّعوا بريطانيا بعد إغراق السفن اللي كانت بتمدها بالأكل والوقود من الولايات المتحدة. الولايات المتحدة انتصرت على اليابان بإلقاء قنبلة نووية عليها، لكن الألمان نجحوا في تفجير سلاحهم السري، في-٣ ، في سماء نيويورك. الألمان عرفوا يهزموا الجيش الأحمر في الشرق، ولكن الاتحاد السوفييتي لسه بيفرفر. وبالتالي الحرب انتهت بظهور ألمانيا والولايات المتحدة كقوتين عظمتين بينهم حرب باردة. وبعد عشرين سنة من الحرب الباردة دي، قرر الرئيس الأمريكي، جوزيف كينيدي (اللي كان سفير الولايات المتحدة في لندن وقت الحرب والموالي لألمانيا) انهاء الحرب الباردة دي وقام بزيارة رسمية لبرلين لبدء مرحلة جديدة من التعاون والصداقة والتقارب بين القوتين العظمتين، أمريكا وجيرمانيا. لكن في مشكلة صغيرة: الألمان حيعملوا إيه لما كينيدي يتساءل عن مصير يهود أوروبا اللي أبيدوا في الهولوكوست؟ وبالتالي الرواية كلها بتدور حوالين المؤامرة اللي بتُحاك للتخلص من كل من كان ليه دور في الهولوكوست. وتتوالى الأحداث، زي ما بيقولوا.

http://www.youtube.com/watch?v=HKZ9wkaL1uw

(فيلم فاذرلاند ( ١٩٩٤

الرواية اتنشرت سنة ١٩٩٢ ومن يومها باعت ٣ ملايين نسخة واترجمت لأكثر من عشرين لغة واتعمل منها حلقات إذاعية وفيلم مدته ثلاث ساعات. في أحاديثه الصحافية هاريس قال إن كتابة الرواية دي استغرقت أربع سنين. والحقيقة الواحد شايف نتيجة الجهد ودقة البحث التاريخي في كل صفحة وكل تفصيلة في الرواية. الرواية “تاريخ متخيّل” صحيح، لكن التفاصيل التاريخية المتعلقة بفترة الستينات دقيقة من أول التفاصيل التكنولوجية (الطيارات النفاثة والغواصات النووية وحاملات الطائرات) لحد تفاصيل ماكينات القهوة والفوتوكوبي ومجفف الشعر. لكن أهم علامة على البحث المضني في الأرشيف هو تخيل هاريس لبرلين في الستينات في حالة انتصار هتلر. التفاصيل دي هاريس استقاها من مذكرات ألبرت شبير، المعماري الأول للرايخ الثالث، وخططه ورسوماته الهندسية وتخيله لبرلين بعد ما بقت “عاصمة العالم” Welthauptstadt وعرف “يبني” برلين كما تخيلها شبير ويستخدمها كمكان تدور فيه أحداث روايته.

برلين عاصمة جيرمانيا، من تصميم ألبرت شبير

***

إيه اللي بتقوله لنا الظاهرة دي، ظاهرة الشغف العميق بالتاريخ عند الإنجليز؟ أظن إن أول حاجة ملفتة، زي ما وضحت، هي إن الاهتمام ده مش أكاديمي مقعْوَر، إنما موضوع عام يهم العامة مش بس النخبة المثقفة. صحيح إن كتب زي كتب إيفانس وبرامج زي برامج القناة الرابعة الإذاعية للبي بي سي بتتوجه في الأساس لجمهور النخب المثقفة، لكن في المقابل عدد المجلات التاريخية اللي بتتباع في أكشاك الجرايد وعدد المعارض والفعاليات الفنية المفتوحة للجمهور والمتعلقة بالتاريخ وعدد الروايات الـ”بست سيلر” اللي بتتناول مواضيع تاريخية ملفت فعلا للنظر.

الحاجة الثانية الملفتة للنظر في هذا الاهتمام بالتاريخ هو الشغف بالسجال التاريخي، مش البحث عن الحقيقة التاريخية المطلقة. أنا عندي إحساس إن الناس في إنجلترا (وكمان في أمريكا وهي البلد التانية اللي لي خبرة في العيشة فيها) لما بيتفرجوا على مسلسل تاريخي أو لما بيشتروا كتاب تاريخي، حتى لو ما كانتش رواية تاريخية، فهم في الحقيقة مش مستنيين من المسلسل ده أو من الكتاب ده إنه يقول لهم “هو حصل إيه” على قد ما هم منتظرين يعرفوا رؤية المؤلف أو المخرج أو مصمم المعرض في الحدث التاريخي الفلاني. بمعنى آخر، الجمهور فاهم بالفعل إن التاريخ رواية يُختلف على قراءتها وعلى تفسيرها، مش يقين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

الحاجة الثالثة المبهرة في الموضوع ده هو إن المقالات الصحافية والمسلسات التليفزيونية والبرامج الإذاعية والكتب الروائية اللي بتتناول مواضيع تاريخية مش بس بتقدم رؤية جديدة وبتطرح أسئلة جديدة إنما كمان بتكون مبنية على مادة أولية جديدة. والمادة الأولية دي ممكن تكون جوابات سيسرو المكتوبة باللاتيني، أو محاضر اجتماعات حكومة الحرب سنة ١٩٤٠، أو خطط ألبرت شبير عن برلين ورسوماته وجواباته. المادة الأولية دي محفوظة في مكتبات ودور وثائق مفتوحة للجميع ومش بس للأكاديميين. ومن أهم المؤسسات دي دار الوثائق القومية في كيو جاردنز خارج لندن. دار الوثائق دي فيها ملايين الوثائق من ورق وجرائد وصور وخرائط ومخطوطات تعود لمئات السنين. والمبهر في دار الوثائق دي إنها مفتوحة لأي من هب ودب، فموقع الدار على الإنترنت بيقول إنها “الأرشيف الرسمي لإنجلترا وويلز والمملكة المتحدة، وعندنا سجلات الأمة اللي تعود لأكثر من ألف سنة، والسجلات دي بنتيحها للجميع علشان يكتشفوها ويطلعوا عليها”.  الموقع برضه بيقول إن “فترة السرية كانت ثلاثين سنة، ولكن الحكومة قررت مؤخرا تقلل المدة دي لعشرين سنة”، بمعنى إن الوثائق الرسمية اللي عدى على كتابتها عشرين سنة أو أكثر تبقى متاحة للجميع للإطلاع والدراسة. أما شروط استخدام الدار فهي تقديم وسيلتين لإثبات الشخصية، واحدة لإثبات الإسم والثانية لإثبات العنوان. فقط لا غير.

الحاجة الرابعة إن المؤرخين دول، هواه وأكاديميين، ما بيترددوش فى إنهم يتناولوا بالنقد اللاذع الشخصيات العظيمة والأحداث العظيمة اللي بتشكل محطات مضيئة في تاريخ الأمة. فالمجتمع اللي مش قادر يفكر بشكل نقدي مجتمع خايف وضعيف ومعندوش قدرة حقيقية على مواجهة مشاكله، والمواطن اللي ما بيقدرش يفكر بشكل نقدي ما يقدرش، في الحقيقة، يواجه تحديات الحياة ولا يمارس حقوقه كمواطن بشكل سليم.

مبنى الأرشيف الوطني البريطاني، كيو

***

طبعا أنا بأقول الكلام ده وكلي حسرة على وضع التاريخ عندنا. يكفي الواحد يتفرج على المسلسلات التليفزيونية المصروف عليها ملايين الجنيهات علشان نكتشف حجم الكارثة. إيه مشكلة المسلسلات دي؟ أظن إن المشكلة مش بس إن المسلسل من دول مليان أخطاء تاريخية (من البديهي إن ده غلط ومش مقبول)، بس كمان إنه بيعكس فهم سطحي جدا للتاريخ. فالتاريخ مش أكثر من مجموعة من التواريخ والأسماء والشخصيات، والسيناريست أو كاتب القصة اللي مبني عليها المسلسل التاريخي، شايف إن أمانته العلمية تقتصر على إنه يجيب واحد بتاع تاريخ، ويا حبذا لو أستاذ جامعي، يراجع له المادة العلمية. المشكلة في رأيي إن الكاتب أو السيناريست مش مدّي نفسه الحق في إنه هو نفسه يكون باحث في التاريخ. فحتى لو بذل مجهود، فالمجهود ده بينحصر في قراءة بعض الكتب المطبوعة. وطبعا لو اقترحت على أي كاتب سيناريو، أو كاتب قصة إنه يعمل بحث تاريخي حقيقي، بمعنى إنه يروح دار الوثائق القومية مثلا علشان يدوّر فيها على مادة جديدة ممكن تساعده في روايته أو المسلسل بتاعه ممكن في الحالة دي يصدر أصوات من حلقه تعبيرا عن حنقه الشديد من اللي بأقوله.

والحقيقة إني ما أقدرش ألومه، لأن الموضوع في النهاية مش موضوع كسل من الكتّاب أو انعدام الاهتمام بالتاريخ من القرّاء. أظن إن إحنا المصريين عندنا ولع حقيقي بالتاريخ، ويكفي الواحد يشوف إقبال الناس على المسلسلات التاريخية (على سطحيتها وردائتها) وولعهم بكتب التاريخ اللي بتنزل السوق علشان يتأكد من الحقيقة دي. ولا المشكلة تكمن في انعدام المواهب أو قلتها، فالبلد مليانة مؤرخين ومؤلفين وكتّاب مبدعين. المشكلة الحقيقية مشكلة مؤسسات وسياسات تعليمية وثقافية وإعلامية.

فمثلا، أنا كل أسبوع بتجيلي مكالمات تليفونية ورسائل على الفسيبوك من شباب، وعواجيز، لهم مشروعات كتابة تاريخية وبيتساءلوا منين يجيبوا مادة جديدة تخدمهم. الأسبوع ده تحديدا وأنا بأكتب المقال ده تلقيت مكالمتين بيدوروا حول نفس الطلب. الأولى دارت كالآتي: “دكتور خالد، أنا باكتب رواية عن الست نفيسة البيضا زوجة مراد بيك زعيم المماليك أثناء الحملة الفرنسية. أنا طبعا قرأت الجبرتي ووصف مصر وكل اللي كتبوه علماء الحملة الفرنسية. إنما ما لقيتش كثير عن نفيسة البيضا. تنصحني بإيه؟”، السؤال الثاني كان كالآتي: “دكتور خالد، أنا قرأت كتابك كل رجال الباشا، ومهتم جدا بفترة محمد على. أنا بأكتب رواية تتعلق بجدة جدتي اللي أهلها هربوا لمصر مع الأسطول العثماني اللي سلم نفسه لمحمد على سنة ١٨٤٠. أنا محتاج شوية تفاصيل عن الموضوع ده علشان أعرف أكمل الرواية. تنصحني بإيه؟”.

أنا الحقيقة عندي نصايح ممكن أدّيها للكتّاب دول، ولكنها نصايح صعبة التنفيذ. فأنا من واقع خبرتي في العمل في دار الوثائق القومية عارف إن الدار فيها كنوز ممكن تساعد الكاتبين دول. وتحديدا، أنا عارف إن الدار عندها وقفية الست نفيسة البيضا اللي ممكن تلقي ضوء مش بس على استثماراتها وممتلكاتها الكثيرة، ولكن عن أولوياتها في أعمال الخير وبالتالي ممكن نفهم منها نواحي كثيرة من شخصيتها. أما في موضوع الأسطول العثماني فالدار عندها مجموعة رائعة من المكاتبات بين محمد على ووكيله في الآستانة، محمد نجيب أفندي، وابنه وقائد قواته، إبراهيم باشا، وقائد الأسطول العثماني نفسه اللي هرب بالأسطول ورسي بيه في الإسكندرية، أحمد فوزي باشا. والمكاتبات دي ممكن الواحد ينسج منها واحدة من أكثر الروايات التاريخية متعة وتشويقا.

إنما المشكلة إن دار الوثائق القومية عندها شروط تعجيزية تمنع الناس، عمليا، من استخدامها. فالدار بتشترط الحصول على موافقة من “الأمن”، والموافقة دي بتكون على الموضوع وعلى الشخص اللي هيقوم بالبحث. وحتى بعد الحصول على الموافقة، (اللي أعدادها في النازل على مدار السنين اللي فاتت واللي ممكن تستغرق ثلاثة أشهر) فالموافقة مشروطة بالبحث في ثلاث وحدات أرشيفية بس (من ضمن أكثر من ٤٠٠ وحدة أرشيفية في الدار)، والنتيجة الطبيعية للقبضة الأمنية على دار الوثائق القومية، هو إن الدار اللي فيها ملايين الوثائق بيتردد عليها في اليوم الواحد حوالي عشرة أشخاص بس في المتوسط، كلهم أكاديميين، ونص الأكاديميين دول طلبة أجانب بيحضروا رسائل ماجستير ودكتوراه. وبالتالي لو نصحت أصحابي الروائيين إنهم يروحوا دار الوثائق علشان المادة اللي بيدوّروا عليها موجودة هناك، هأكون بأحكم على مشاريعهم بالفشل، لإن الدار، عمليا، قافلة أبوابها قدامهم ومش بتعمل أي حاجة علشان تشجعهم على التردد عليها أو الاستفادة من مجموعتها الوثائقية الفريدة.

لكن المشكلة كمان تتعلق بمفهوم التاريخ اللي سنوات التعليم المدرسي بتوّصله للتلامذة على مدار أجيال عديدة مش جيل واحد بس. فزي ما كلنا عارفين، مناهج التاريخ المدرسية بتؤسس لمفهوم قاصر جدا عن التاريخ، فهو عبارة عن مجموعة من الأسماء والتواريخ اللي لازم حفظها علشان التلميذ يجاوب الإجابة الصح عن سؤال “علل لما يأتي” اللي هاييجي في امتحان آخر السنة. فكرة إن التلميذ ممكن يكون عنده أسباب تانية غير الثلاثة اللي كتاب الوزارة محددهم كأسباب الحملة الفرنسية على مصر، فكرة مش مطروحة أصلا.

النظرة السطحية دي مش قاصرة على المدارس وبس، إنما منتشرة في أقسام التاريخ في جامعاتنا. رسائلنا الجامعية، من ماجستير لدكتوراه، محكومة بفكرة أساسية وهي إن موضوع الرسالة لازم يكون ماحدش تناوله قبل كده، لأن مش مطروح أصلا إن الطالب يقدم رؤية جديدة لموضوع قديم. ده حتى الطالب مش المفروض يكون عنده رؤية نقدية في الموضوع بتاعه من باب الأصل.

أنا أتذكر لما بدأت شغلي في الدكتوراه من أكثر من عشرين سنة، وبدأت أتردد على دار الوثائق لجمع المادة العلمية الضرورية للرسالة من هناك واحد من الزملاء اللي كان شغال على رسالته استفسر مني عن موضوع رسالتي، فقلت له إني بأحضر رسالة عن جيش محمد علي، فرد وقال “الدكتور السروجي له كتاب في الموضوع ده كتبه في الستينات، انت ما قرأتهوش ولا إيه؟”، فرديت وقلت له إني طبعا قرأته لكن أنا بأتناول الموضوع بتاعي من زاوية ثانية. فبص لي بإشفاق وغالبا كان بيفكر إني ضحية مشرف مش مالك الموضوع كويس وما نبهنيش إن موضوع رسالتي متاخد واتعمل قبل كده.

ومن تبعات النظرة السطحية للتاريخ دي الغياب شبه التام لطريقة في الكتابة كانت، في يوم ما، شائعة عندنا، أقصد كتابة السير والتراجم. أي حد شغال على تاريخ مصر في العصور الإسلامية من الفتح العربي للعصر العثماني عارف أهمية كتب السيرة دي، فبجانب الحوليات (زي حوليات ابن إياس والمقريزي) تعتبر “الطبقات” (وده كان أحيانا اللفظ المستخدم لكتب السير والتراجم) من أهم المصادراللي بنرجع لها لفهم الحقب اللي بندرسها، لأن كتب الطبقات دي بتقدم لينا قصص حياة مشاهير العصر ورجالاته العظام، ونسائه كمان. ففي طبقات للعلماء والفقهاء، وطبقات للملوك والأمراء، وطبقات للشعراء، وطبقات للأولياء، وطبقات للنساء، وطبقات للشيعة، وطبقات للشافعية، إلخ.

لكن الملاحظ إن من بعد الجبرتي (اللي كتابه، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، زي ما واضح من عنوانه هو كتاب عن التاريخ والسير في نفس الوقت) الفن ده، فن كتابة السير والتراجم، تقريبا انتهي. وبالمقارنة مش بس مع ماضينا الحافل بكتب الطبقات ولكن برضه بازدهار الفن ده، فن الـ biography، في الغرب فاحنا قدام ظاهرة غاية في الغرابة. فمثلا، وزي ما وضحت، كل سنتين أو ثلاثة سنين بتتنشر سيرة جديدة عن تشيرشل. نفس الكلام ينطبق على لينكولن وواشنطن وهتلر وستالين إلخ. الكتب دي بتختلف عن بعضها البعض، وكل كتاب بيدعي إنه بيقدم رؤية جديدة غالبا مبنية على مادة أرشيفية جديدة. مثلا سنة ١٩٨٣ صدر كتاب عن موسوليني كتبه مؤرخ إنجليزي. الكتاب معتمد على مادة أولية غنية جدا لدرجة إن قائمة المراجع (الأولية والثانوية) تشمل ألف مرجع من مذكرات، لسير، لجرائد، لمقالات، لدراسات أكاديمية. مثال ثاني: أنا لسه مخلص قراءة سيرة عن روبسبيير، الزعيم الشهير للثورة الفرنسية. من مقدمة الكتاب اكتشفت إن في أثناء الـ ٢٢٠ سنة اللي انقضت من وقت ما مات روبسبير لحد النهارده ظهرت أكثر من ١٠٠ سيرة عنه (أساسا بالفرنساوي والإنجليزي).

بالمقارنة، احنا ما عندناش ولا سيرة موثقة عن جمال عبدالناصر. طبعا عندنا مئات وآلاف الكتب عن عبد الناصر، ولكن ما عندناش ولا سيرة واحدة علمية عنه. اللي موجود كتب هجاء أو مديح، ذكريات ومذكرات، مجموعات مقالات، دراسات عن مصر أثناء حكمه، دراسات عن سياساته وتوجهاته، إلخ. لكن ما فيش دراسة عن شخصيته: طفولته، مراهقته، دراسته، حياته الخاصة، توجهاته الأيدولوجية والسياسية، حياته العامة، هواجسه، مخاوفه، أهدافه، إلخ. ما عندناش سيرة علمية واحدة عن جمال عبدالناصر، اللي ممكن اعتباره بسهولة أهم شخصية عربية في القرن العشرين.

يا ترى إيه سبب الظاهرة الغريبة دي؟ إيه سبب الإحجام عن كتابة السير العلمية عن الشخصيات المهمة اللي أثّرت في حياتنا وشكلت تاريخنا؟ أنا لي تجربة في كتابة سيرة قصيرة عن محمد علي (بتترجم للعربي اليومين دول)، ومن واقع التجرية دي أقدر أقترح سبب للظاهرة الغريبة دي. في كتابة سيرتي عن محمد علي اعتمدت على كل الكتب السابقة اللي اتكتبت عن الشخصية المهمة دي، وقريت اللي كتبه عنه الرحالة الأجانب اللي قابلوه، وقريت طبعا الأوامر والقوانين اللي أصدرها واللي اتطبعت. لكن أهم مصدر اعتمدت عليه هو مئات، إن ما كنش آلاف، الوثائق غير المنشورة المحفوظة في دار الوثائق من جواباته لأولاده، لأوامره لمرؤسيه، لخطاباته للباب العالي في الآستانة، لتعليماته لأعضاء نخبته وأعوانه، لمراسلاته للقناصل الأجانب. المادة دي هي اللي مكنتني من الاقتراب من شخصيته، وخلليتني أقدر “أسمعه” وأشوف الدنيا من خلال عينيه هو، وفهمتني جوانب من شخصيته كانت غايبة عني. بالمقارنة، أنا لو حبيت أكتب سيرة مماثلة عن عبدالناصر، مش هأعرف بالرغم من قرب العهد بيه نسبيا، وده لسبب بسيط: دار الوثائق القومية ما عندهاش أي وثائق ذات قيمة عن عبدالناصر.إحنا لسه ما اتسمحش لينا بالاطلاع على وثائق الرئاسة أو مجلس الوزراء أو مجلس قيادة الثورة أو وزارة الحربية اللي عبدالناصر كتبها أو وقع عليها، وبالتالي كل الجزء المتعلق بحياته العامة اللي ممكن ندرسه معتمد على خطبه العامة، وكلام الجرايد، والمذكرات المنشورة .ودي بالطبع كلها مهمة، ولكنها في رأيي لا تُغني عن الوثائق الرسمية اللي بتلقي الضوء على اللي كان بيتقال ورا الكواليس، مش الخطب الرنانة اللي كانت بتلقى من على خشبة المسرح.

***

مشكلة الكتابة التاريخية عندنا سببها مش إن ما عندناش مؤرخين ممتازين (المؤتمر السنوي للجمعية التاريخية المصرية أكبر دليل على إن البلد مليانة مؤرخين ممتازين)، ولا هي نتيجة إن الناس ما بتقبلش على التاريخ (أظن إن المصريين مولعيين بالتاريخ ومهتمين بيه)، ولا هي نتيجة إن ما عندناش أدباء وكتّاب مهتمين بالتاريخ كموضوع لأعمالهم الأدبية والفنية (وخير دليل على ده هو عدد المسلسلات التليفزيونية التاريخية). المشكلة، في الحقيقة، سياسية ومؤسسية. فمدارسنا باهتمامها بحشو أمخاخ الطلبة بمعلومات ملهاش معنى بتقتل عندهم ملَكة التفكير النقدي، وبتركيزها على حفظ التواريخ وأسماء الحقب والشخصيات العظيمة بتكرّه الطلبة في التاريخ؛ والجامعات طول ما هدفها الأساسي الزج بآلاف الخريجين لسوق العمل بمهارات متواضعة وطول ما هي مش مهتمة بإنتاج معرفة تاريخية جديدة، طول ما المؤرخين الموهوبين هينتجوا أعمالهم لكن خارج إطار الجامعة وبعد ما يتخلصوا من التعليم الجامعي الفاشل اللي تلقوه؛ والمتاحف بتقليص دورها في تخزين التحف والأنتيكات وبالامتناع عن تثقيف الجمهور وإمتاعه أو تقديم خدمات رفيعة ومتطورة له بتحكم على نفسها بالموت الحقيقي، موت ما بينقذهاش منه إلا شوية السياح الأجانب اللي مستعدين يدفعوا الثمين والغالي علشان يتفرجوا على المقتنيات الفريدة؛ ودار الوثائق القومية، المستودع الرسمي والأساسي لوثائقنا التاريخية، طول ما هي بتبدّي المحاذير الأمنية على حساب مبدأ الحق في المعرفة، هتفضل مخزن للورق القديم مش مكان لإنتاج معرفة تاريخية؛ والصحافة والتليفزيون، اللي شايفين إن دورهم يقتصر على تضييع وقت المشاهدين وإلهائهم، أو الحفاظ على ثوابت الأمة ومقدساتها، أو توجيه الرأي العام وإرشاده، بتساهم في تعميق المشكلة وبتفوّت على نفسها فرصة تأسيس فهم حقيقي للمواطنين عن تاريخ بلدهم وتعميق انتمائهم ليه.

***

احنا أصحاب تاريخ طويل ومشرف، وعندنا تحف وآثار بيحسدنا عليها القاصي والداني، وعندنا وثائق ومخطوطات قديمة بالملايين، وأهم من ده وده، الناس في بلدنا عندها إقبال حقيقي على التاريخ. فحرام إن سياساتنا التعليمية والثقافية والإعلامية تتآمر علينا بالشكل ده وتبذل كل الجهد ده علشان تقتل التاريخ في بلد هو أصل التاريخ ومهده.

هذا المقال ضمن سلسلة مقالات يكتبها خالد فهمي لـ«مدى مصر» تحت عنوان “خواطر بالعامية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.