نُشر في “فيسبوك” قي ١١ مايو ٢٠١٤
أشرف الشريف كعادته كتب بوست مثير على صفحته امبارح، ودارت عليه نقاشات كثيرة أغلبها حلو وبعضها مستفز. أنا ملحقتش البوست “ع الهوا” ولما جيت ده الوقت أحط تعليق ما قدرتش علشان التعليق كان طويل حبتين. فقلت أحط التعليق هنا ومنشن لأشرف.
بوست أشرف الأصلي امبارح:
الجنرال المعتوه : “انا قادم من مؤسسة تاريخها لا يعرف الفشل”…يا جحش ده تاريخ المؤسسة بتاعتك دي كله فشل : ١٨٨٢ و ١٩٤٨ و ١٩٥٦ و اليمن و ١٩٦٧ و الاستنزاف ده غير أكذوبة ١٩٧٣ اللي انتهت و الجيش الإسرائيلي علي بعد اقل من ١٠٠ كيلو من القاهرة و محاصرا للسويس و الجيش الثالث و محتلا مساحة من الارض في غرب القناة اكثر من ضعفي مساحة رؤوس الكباري المصرية في شرق القناة و مكبدا الجيش المصري خسائر في الأرواح و الأسلحة و المعدات اكثر من خسائر الإسرائيليين بأربعة أضعاف …بابا جاب موز.
تعليقي النهارده:
أشرف، أنا لسه مخلّص قراءة البوست ده والكومنتات بتاعته. وطبعا، وزي ما يمكن تتخيل، استمتعت بيه جدا، بالرغم من البذاءات بتاعت الأخ اللي داخل يشتم م الأول. أنا كان نفسي ألحق التعليقات “ع الهوا”، لكن ملحوقة، والجايات أكثر م الرايحات.
عندي ملحوظتين تتعلقان بالمنهج، منهج قراءة التاريخ، واحدة لها علاقة بالمصادر، ودي انت ومهاب عرضتوها، لكني أحب أضيف عليها شوية تفاصيل. والتانية لها علاقة بكتابة التاريخ مش قرايته.
وأنا الحقيقة قاصد أخاطب عمرو هادي (مع حفظ الألقاب) لأني شايف إنه الوحيد اللي كان بيغرد خارج السرب، ولكن آراءه بتعبر عن آراء أغلبية المصريين المتعلقة بحرب أكتوبر، وبالتالي مهم الواحد يشتبك معاها.
الملحوظة الأولى: غياب المصادر الأرشيفية الأصلية وعدم إفراج الجيش عن وثائق حرب ١٩٧٣ هو من أهم أسباب اللخبطة دي (ولكن طبعا مش السبب الوحيد).
أنا مدرك إنك بدأت البوست بالتشكك في سجل انتصارات الجيش المصري، وأظن إنك كمان كنت بتشكك في قدراته القتالية الحالية بناء على قراءتك لماضيه. أنا معاك في التشككين دول. ومعاك برضه في إن في علامات استفهام كثيرة حولين “انتصار” ١٩٧٣، ومتفق معاك إن من أسهل معايير الحكم على إنجاز الجيش هو: ١. مساحة الأرضي اللي الجيش عرف يحررها في نهاية الحرب مقارنة بمساحة الأرض اللي العدو عرف يحتلها برضه في نهاية الحرب. ٢. مقارنة بين حجم الخسائر البشرية للجيشين المتقاتلين.
مشكلة الكومنتات بدأت بالاختلاف على النقطة التانية دي: هل مات لينا ٢٠٠٠ شهيد ولّا ١٠٠٠٠ شهيد؟ وإسرائيل مات لها كام جندي: ٢٠٠٠ ولّا أكثر من كده بكثير؟
التعليقات كانت بتدور حول المصادر: الأخ اللي داخل يشتم بيقول روح أقرأ المصادر المصرية: الشاذلي والجمسي وهيكل وأحمد بهاء الدين، وانت وأصحابك بتردوا تقولوا: إحنا قرأنا المصادر دي ووصلنا لنتائج مختلفة عن اللي انت وصلتلها. فبقت الخناقة على كيفية قراءة المصادر دي.
وبالرغم من إنك انت ومهاب ذكرتوا موضوع المصادر الأصلية، لكنكم ما اسهبتوش في شرح النقطة دي، غالبا لأنها واضحة عندكم.
لكن لو سمحتلي يا أشرف، أظن إن الموضوع مش واضح لناس تانية كتير. فأنا إديت لنفسي حق شرح النقطة دي بشوية تفاصيل علشان الموضوع ده كابس على نفسي شويتين زي ما انت عارف.
الجيش المصري ما بيفرجش عن وثائق الحروب اللي خاضها حتى لو عدّى عليها سنين طويلة. دار الوثائق القومية، ودي هي الجهة الرسمية اللي المفروض تستقبل الوثائق القديمة اللي الوزارات قررت تتخلص منها – الدار دي عمرها ما استلمت أي ورق رسمي من وزارة الحربية / الدفاع. فول ستوب.
وزارة الدفاع والجيش لسان حالهم بيقول: ” الورق ده بتاعنا، والوثائق دي بتاعتنا، والشعب ما لوش حق يطلع عليها حتى لو عدّى عليها ماية سنة. الوثائق دي أمن قومي، ومش حنسمح لأي من هب ودب إنه يطلع عليها ويشوّه صورة الجيش.”
نتيجة الكلام ده إننا معندناش تاريخ “موثّق”، يعني تاريخ مبني على وثائق. اللي عندنا تاريخ مبني على شهادات قادة عسكريين، أو كلام صحافة، أو مذكرات، أو ذكريات، أو خطب سياسية. كل المصادر دي مهمة بالطبع، فمش ممكن مثلا الواحد يقدر يقرأ تاريخ حرب أكتوبر من غير ما يقرأ ويأخذ في عين الاعتبار مذكرات واحد زي الشاذلي أو الجمسي، أو موشيه ديان أو هنري كيسنجر.
لكن في النهاية، المذكرات دي، على أهميتها، هي مذكرات وشهادات أشخاص مش كلام بتاع المؤسسة المعنية و اللي هنا الجيش. يعني إيه؟ يعني إن الشاذلي ولا الجمسي في النهاية بيكتب رؤيته هو عن الأحداث اللي مر بيها وعاصرها بل وشكّلها كمان. وبالطبع شهادته مهمة. لكن دي حاجة والوثائق الرسمية حاجة ثانية خالص.
قصدي إيه بالوثائق الرسمية؟ قصدي حاجة زي محضر اجتماع لقادة الجيش يوم كذا الساعة كذا. وأمر رقم كذا اللي صدر في توقيت كذا. وتقرير مفصّل من الوحدة كذا اللي كانت في الموقع كذا عن استطلاع قدرات قوات العدو ومواقعه، أو تقدير موقف عن القطاع الجنوبي من الجبهة يوم كذا، أو تقرير عن الخسائر في المعدات والأرواح نتيجة المعركة اللي دارت يوم كذا. إلخ إلخ
الوثائق دي ما بتقدمش المعلومات بشكل سهل ميسر. يعني ما أظنش إن الواحد ممكن يلاقي وثيقة واضحة صريحة ما عليهاش خلاف بتجاوب على سؤال زي “مين المسئول عن الثغرة؟” أو سؤال “مين اللي شهادته أقرب للحقيقة عن اللي جرى يوم ١٤ أكتوبر: الشاذلي ولا السادات؟” أو سؤال “إحنا خسائرنا كانت كام بالمقارنة بخسائر العدو؟” أو بالطبع سؤال “مين اللي كسب الحرب: إحنا ولا إسرائيل؟”
لكن فتح الأرشيف بشكل كامل ممكن يطرح أجوبة عن الأسئلة دي. بمعنى إن لو كان سُمح لينا بالاطلاع على الأرشيف الكامل ممكن الواحد يقارن بين الوثيقة الفلانية اللي موجودة في الملف الفلاني وبين الوثيقة العلانية اللي موجودة في الملف العلاني، وبجمع الخيوط مع بعضها وبالمقارنة بالكتب المطبوعة المنشورة على تنوعها يمكن الواحد يطلع بأجوبة ولو مبدئية عن اللي حصل في الحرب.
لكن إحنا ما اتسمحلناش أبدا بالاطلاع على الوثائق دي اللي مر عليها أكثر من أربعين سنة. وزي ما انت قلت، دي حتى وثائق حرب ١٩٤٨ ما أفرجش عنها. الوثائق دي مش موجودة في دار الوثائق وما فيش حد اطلع عليها. أغلب الظن أن الجيش، لأنه جهاز بيروقراطي قوي وضخم، محتفظ بالوثائق دي لكنه ما بيفرجش عنها. ولأن الجيش بيعتبر نفسه دولة مستقلة بذاتها، فمش مسموح لأي حد يقرّب من الوثائق دي.
والنتيجة؟ النتيجة إننا معندناش تاريخ “موثّق” عن حروبنا مع إسرائيل. اللي عندنا شهادات ورؤى وذكريات عن الحرب، مش تاريخ موثّق، يعنى مش مبني على وثائق رسمية بتاعت المؤسسات المعنية بالحرب التابعة للدولة.
دي نقطة. أما النقطة التانية فهي تتعلق بغياب الكتابات التاريخية الأكاديمية عن حرب ١٩٧٣ بل عن حروبنا كلها مع إسرائيل. الكتب الموجودة في السوق بالعربي عن حرب ١٩٧٣ اللي كتبها يا إما قادة عسكريين، يا “خبراء استراتيجيين” (وطبعا إحنا خبرناهم كويس في اليومين اللي فاتوا)، يا إما قادة سياسيين، يا إما روائيين وشعراء، يا إما أستاذة علوم سياسية. كل الكتب دي لها قيمتها ولها وجاهتها. لكن الملاحظ إن المؤرخيين الأكاديميين المصريين أحجموا عن كتابة تاريخ حروبنا مع إسرائيل، بل عن أغلب المواضيع المتعلقة بتاريخنا المعاصر.
المدرسة التاريخية الأكاديمية المصرية ما زالت بتعتبر الكلام عن عبد الناصر كلام في السياسة مش التاريخ، والخوض في حرب ١٩٧٣ هو الاقتراب من مواضيع خلافية المؤرخ ما يسلمش من الوقوع فيها.
الموضوع ده له خلفية تاريخية عميقة صعب عرضها هنا، لكن يمكن تلخيصها في إن المدرسة التاريخية المصرية، لما أتأسست في العشرينات من القرن الماضي، كانت مبنية على حاجة اسمها “الموضوعية”، اللي هي تقريبا معناها إن المؤرخ مش المفروض يكون له رأي في الموضوع اللي بيدرسه، وإذا كان له رأي فلازم يتخلص منه ويداريه وهو بيكتب تاريخ. لأنه لو احتكم لآرائه وقناعاته يبقى زييه زي الصحفي أو الروائي، والعياذ بالله، يعني “مش موضوعي”.
نتيجة “العقلية الموضوعية” دي، بالإضافة طبعا لغياب الوثائق اللي هي مصدر مهم لأي باحث جاد في التاريخ، نتيجةالنقطتين دول هو إن ما فيش كتب تاريخية أكاديمية بالعربي عن حرب ١٩٧٣ أو أي حرب تانية خضناها مع إسرائيل. ده طبعا بالمقارنة بعشرات الكتب الأكاديمية الصارمة “الموثّقة” المكتوبة بلغات تانية واللي معتمدة على وثائق أمريكية وبريطانية وفرنسية وسوفييتية وطبعا إسرائيلية.
يعني باختصار، الخلاف اللي جرى بينك وبين محاوريك على صفحتك جزء منه هو خلاف على قراءة المصادر الموجودة بالفعل: هل نكتفي ببانوراما حرب أكتوبر وأفلام محمود ياسين والكتب الرزينة المكتوبة بالعربي (الشاذلي والجمسي إلخ)؟ ولا نضيف عليها كمان الكتب الأجنبية؟ وجزء من الخلاف كمان هو خلاف على قراءة النص الواحد: مذكرات الشاذلي مثلا: هل الشاذلي قال إن الثغرة كان ممكن القضاء عليها، ولا هو ما قالش كده من الأصل؟
لكن الخلاف ده، على أهميته، ممكن يكون انعكاس لسبب تاني خالص: غياب الوثائق التاريخية اللي الجيش مش عاوز يفرج عنها.
فردّي علي الأخ اللي داخل يشتم وكمان على عمرو هادي هو الآتي: ماشي أنا هأوافقكم إن البيّنة على من ادعى. لكن أنا إيدي مغلولة ومش عارف أجيب بيّنة. أنا ممنوع من الاطلاع على وثائق حرب ١٩٧٣، ومحروم من الحصول على معلومات تخص تاريخ بلدي. والمسئول عن ده هو الجيش وعقيدته السرية. ساعدني على الحصول على المعلومات دي وعلى الوصول للوثائق دي وبعدين تعالى حاسبني.