نُشر في “مدى مصر” في ٢٢ يناير ٢٠١٤
الأسبوع اللي فات أوباما ألقى خطاب أظنه مهم لفهم اللي بيحصل عندنا في مصر.
الخطاب ما جابش سيرة الإخوان أو الاستفتاء أو السيسي، ولا حتى جاب سيرة مصر أصلا. لكن بالرغم من ده أظن إن الخطاب كان فيه حاجات كتيرة مهمة لينا وللثورة اللي حاتحل ذكراها التالتة بعد كام يوم.
أوباما كان بيتكلم في خطابه عن الأمن القومي الأمريكي، وتحديدا عن المعلومات اللي اتسربت واللي قالت إن هيئة الأمن القومي، الـ إن إس إيه، بقى لها سنين وهي بتتجسس، مش بس على ملايين البشر في كل حتة في العالم، بما فيهم زعماء العالم ومنهم أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا، لكن كمان على ملايين المواطنين الأمريكان.
التسريبات دي كانت بتقول إن هيئة الأمن القومي بتلم من شركات الاتصالات الأمريكية (وأساسا شركات التليفونات) “البيانات الفوقية”
(metadata)
المتعلقة بملايين – إن ماكنش بلايين – المكالمات التليفونية؛ والبيانات الفوقية دي معناها مش التسجيل الفعلي للمكالمة، إنما بيانات زي رقم التليفون، وتوقيت ومكان المكالمة، واسم المتصِل، واسم المتصَل بيه. والتسريبات دي كانت بتقول كمان إن هيئة الأمن القومي ممكن، بطلب سريع من المحكمة، إنها تحصل مش بس علي المعلومات الفوقية دي بس كمان على التسجيل الفعلي للمكالمة التليفونية طالما إن عندها سبب معقول تخليها تشك إن المكالمة دي ممكن تكون متعلقة بـ”الإرهاب”.
لما التسريبات دي اتعرفت على نطاق واسع من حوالي ست شهور الدنيا قامت وماقعدتش. المقالات والبرامج التليفزيونية والنقاشات في الكونجرس ما انقطعتش طول الفترة دي و كانت بتتساءل: إزاي ده يحصل؟ إزاي الحكومة بتاعتنا بتتجسس على مكالماتنا وعلى إيميلاتنا وبتنتهك حرمة حياتنا الخاصة؟ إزاي نضمن إن السبب اللي بتقدمه هيئة الأمن القومي بيتعلق فعلا بالإرهاب ومش بتستخدمه كذريعة علشان تتجسس علينا واحنا ملناش أصلا علاقة لا بالإرهاب ولا بالإرهابيين؟ وإزاي أصلا التجسس ده بيتم بقى له سنين وبشكل قانوني؟
وعلشان كده أوباما اضطر يطلع ع التليفزيون يقول كلمتين يطمّن بيهم الأمريكان ويؤكد ليهم إن حكومتهم ما بتتجسسش عليهم. الخطاب في رأيي كان نُص كُم، والإجراءات الجديدة اللي أعلنها أوباما علشان يحد من سيطرة هيئة الأمن القومي كانت برضة نُص كُم. الإجراءات الجديدة دي بتقول إن من هنا ورايح البيانات الفوقية دي بتاعت المكالمات التليفونية مش حتكون تحت إيد هيئة الأمن القومي إنما حتتحط عند “طرف تالت”، يعني شركة معلومات مستقلة حتكون مهمتها تخزين البيانات الفوقية دي، وكل ما هيئة الأمن القومي تعوز تتطلع على معلومة معينة لازم تقدم بيها طلب لمحكمة مختصة وتوضح في الطلب ده أسباب طلب الحصول على المعلومات.
أما السبب في إني شايف إن مقال أوباما كان نُص كُم، فحأجّل الإجابة على السؤال ده شوية. المهم هو تساؤل الناس: إزاي ده حصل؟ وإزاي إحنا معرفناش ع الموضوع الخطير ده إلا دلوقت؟
أوباما حاول يجاوب علي التساؤلات المشروعة دي عن طريق استعراض طويل لتاريخ التجسس وتاريخ الاستخبارات الأمريكية وأهمية الدور اللي لعبته في حماية الأمن القومي الأمريكي.
إنما أوباما ما وقفش كتير عند أهم سبب سمح لهيئة الأمن القومي إنها تتجسس على الأمريكان. فالشعب الأمريكي بيكتشف دلوقت إن هيئة الأمن القومي، ولو إنها هيئة قديمة تعود لأيام الحرب الباردة ولرئاسة ترومان، إلا إنها قويت جدا بعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١ وبعد إصدار الكونجرس لقانون مكافحة الإرهاب المعروف باسم Patriot Act.
القانون ده صدر في أكتوبر ٢٠٠١ بعد الهجمات الإرهابية على واشنطون ونيويورك بشهر واحد. فزي ما إحنا عارفين، هجمات سبتمبر عملت نقلة نوعية في حاجات كتيرة منها علاقة الأمريكان بحكومتهم، ففي غمرة الشعور بالخوف والهلع والقلق وعدم الأمان اللي الهجمات أحدثته، كان الشعب الأمريكي بغالبيته مستعد يدّي إدارة الرئيس بوش كل الصلاحيات اللي طلبتها الإدارة دي “لمواجهة الإرهاب”، والكونجرس تطوع وصاغ قانون مكافحة الإرهاب اللي الإدارة كانت بتطالب بيه، ومش كده وبس لكن تطوع الكونجرس وإدّى الحكومة حاجات ما كانتش بتطالب بيها أصلا. وزي ما إحنا عارفين برضه، شعبية بوش وصلت لأكثر من ٧٠٪، ودي من أعلى نسب الموافقة على أداء الرئيس علي مدى التاريخ. وبرضه زي ما إحنا عارفين، بوش وإدارته قرروا يستخدموا الصلاحيات الكبيرة اللي الكونجرس واستطلاعات الرأي إدوهالهم علشان يتصدوا للإرهاب، ولكن بدل ما يكتفى بوش باستخدام الصلاحيات المهولة دي اللي كانت تُعتبر تنازل طوعي من المجتمع الأمريكي عن الحقوق المدنية والدستورية اللي كافح لسنين وعقود طويلة علشان يحققها – بدل ما بوش يكتفي بالتنازلات دي قرر يواجه الإرهاب بأسلوب جديد جدا: إعلان الحرب عليه. وقتها الناس افتكرت إن “الحرب على الإرهاب” مصطلح مقصود مجازا، زي كده “الحرب علي الفقر” أو “الحرب على المرض”، ولكن مفيش كام يوم واكتشف الأمريكان إن الموضوع ماكنش مقصود مجازا وإنما حرفيا: ففي الأول الحرب أُعلنت على أفغانستان وبعدين على العراق، وزي ما إحنا عارفين الحربين دول ما حققوش الهدف المرجو منهم: لا تنظيم القاعدة اتقضى عليه ولا الإرهاب انتهى.
لكن المهم في الموضوع ماكانتش تصرفات بوش اللي تعدى بيها على القانون، ولكن تصرفاته اللي ارتكبها حسب القانون. ومن أهم التصرفات دي كان التجسس على الأمريكان. فقانون مكافحة الإرهاب وسّع مهام هيئة الأمن القومي وسمح لها إنها تلم بلايين البيانات الفوقية بتاعت المكالمات التليفونية للمواطنين الأمريكيين العاديين اللي ملهمش لا في الطور ولا في الطحين.
***
أنا كنت مقيم في الولايات المتحدة وقت إصدار القانون ده، وكنت ساكن في نيويورك لما حصلت هجمات سبتمبر، وأتذكر بوضوح حالة الخوف والقلق والغضب اللي اجتاحت سكان المدينة والبلد كلها.
أنا عمري ما حأنسى أحداث اليوم ده. كان يوم تلات، وكان أول يوم دراسي للجامعة، وكنت باستعد لمقابلة طلابي والتعرف عليهم. وفي القهوة اللي كنت بأفطر فيها سمعت صوت الانفجار الأول اللي كان يبعد عني باتنين كيلو بالكتير. وفي طريقي للبيت علشان أكلم أهلي وأطمنهم عليا شفت الحريق الكبير في برج التجارة العالمي، وبعديها شفت الطيارة التانية، وشفت بعيني انهيار البرجين. ومفيش كام ساعة وأنا قاعد مع أصحابي وزمايلي نحاول نستوعب معنى وأهمية المشاهد المرعبة اللي شفناها الصبح ابتدت توصلنا قصص وحكايات عن ضحايا البرجين: “فلان صاحبي بيشتغل في الدور الـ٩٥ و مراته سمعت منه الصبح إنما دلوقتي هي مش عارفة تتصل بيها”. “فلانة الفلانية خطيبة واحد زميلي بتشتغل في المبنى رقم ٢، وهو منهار لأنه مش عارف يلاقيها”. “فلان الفلانى أخو الفرّاش بتاعنا كان برضه بيشتغل هناك”. وفي الأيام والأسابيع اللي عدت بعد اليوم الأسود ده سمعنا عن مئات القصص التانية اللي خلتنا كلنا نتألم ونبكي على الضحايا الأبرياء دول.
وزي ما أنا فاكر القصص الحزينة دي، فاكر برضه مقدار الغضب والكراهية اللي الناس كانت شاعرة بيهم تجاه المسلمين والعرب. يوم ١٢ سبتمبر نزلت أتمشى في المدينة اللي كانت زي مدينة الأشباح: الشوارع فاضية، القطارات واقفة، المطارات مقفولة. شوية شباب نزلوا بالرولر سكيترز بتاعتهم يتزحلقوا في وسط فيفث آفينيو. وهناك، عند تقاطع شارع ٨، شفت الجرافيتي اللي مش ممكن حأنساه: “الموت للفلسطينيين”. وقتها أدركت مقدار المأساة اللي حندخل فيها. إيش جاب سيرة الفلسطينيين دلوقت؟ إنما أنا عارف مستوى دراية المواطن الأمريكي العادي بالسياسة الخارجية، وعارف عمق الإعلام الأمريكي في تغطية الصراع العربي الإسرائيلي. كله عند العرب صابون.
إنما في وسط خلط الأوراق ده، اللي كان جزء منه عفوي ونابع من جهل حقيقي، وجزء تاني نابع من خبث ودهاء سياسي من قِبل بوش وإدارته، وسط العك ده كله، كنت شخصيا حاسس بفداحة الخسارة وبعمق الجرح اللي أصاب الأمريكان، وتحديدا سكان نيويورك. مش بس كده، أنا نفسي حسيت بالخطر وبإن حياتي ممكن تكون مستهدفة. أنا إيه اللي يضمن لي إن العمارة العالية اللي ساكن فيها مش حتكون هدف العملية الإرهابية الجاية؟ وكمان حسيت إني أنا كمان إنصبت، فنيويورك مدينتي، بحبها بعمق وباحس بالدفئ فيها، صحيح مش زي القاهرة اللي متربي فيها واللي باعشقها، لكن نيويورك برضه مدينتي اللي عمري ما حسيت فيها بالغربة أو بالوحشة أو بالوحدة. المدينة دي انضربت وأتوجعت وأتعورت، وحسيت بألم وحزن حقيقي على أهلها الأبرياء اللي ماتوا من غير ذنب ولا جرم ارتكبوه.
شعوري ده بالتعاطف مع الضحايا وبالألم على اللي حصل لمدينتي ساعدني إني أتفهم موقف كتير من الأمريكان اللي كانوا بيطالبوا بالتار وبالتشفي من الإرهابيين وبرد حاسم وسريع على الهجمات الإرهابية. لكن بالرغم من التفهم ده كنت في نفس الوقت معترض بشدة على الطريقة اللي الإعلام كان بيحلل بيها “ظاهرة الإرهاب الإسلامي” وكنت، مع زمايلي في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة نيويورك اللي كنت باشتغل فيها، كنا معترضين بشدة على سياسة بوش اللي كانت بتتبلور يوم ورا يوم. وكنا بنحاول نشرح للي عاوز يسمع (عملنا شوية ندوات، وجاوبنا على أسئلة الصحافيين، وكتبنا في الجرايد) إنه لا يمكن القضاء على الإرهاب بإعلان الحرب عليه. الإرهاب إرهاب صحيح، ويجب القضاء عليه صحيح برضه، ويجب التصدي ليه بحزم وبشدة. لكن “الإرهاب الإسلامي” لا يمكن القضاء عليه بشن حرب على أفغانستان أو باحتلال العراق. ولما كنا بنتسئل عن الطريقة المثلى لمواجهة الإرهاب كنا بنقول إن القوانين الأمريكية الحالية وأجهزة الاستخبارات الـ١٥ الموجودة وجهاز الشرطة الجبار، عندهم بالفعل القدرة على التصدي للإرهاب، وإن الأجهزة دي لازم تشتغل في إطار القانون، ومش المفروض سن قوانين استثنائية تسمح لها بانتهاك الدستور في سبيل التصدي للإرهاب. وكنا بنقول برضه إن”الحرب على الإرهاب” لو معناها التضحية بالمبادى الدستورية وبالمكتسبات الحقوقية اللي حركة الحريات المدنية الأمريكية كافحت لعقود طويلة علشان تحققها – لو المبادئ دي ضُحي بها يبقى بن لادن، في الحقيقة، انتصر وعرف يفرض مبادئه على المجتمع الأمريكي.
وكان من ضمن الزملا اللي كانوا ناشطين وقتها ضد بوش ورامسفيلد أستاذ في قسم التاريخ ألقى محاضرة أشاد فيها بسيناتور اسمه رَص فاينجولد بتاع ويسكونسين. أنا كنت أول مرة أسمع عن السيناتور ده، وأظن إن التاريخ مش حيحفظ ليه غير الموقف اللي أخده سنة ٢٠٠١ واللي أستاذ التاريخ كان بيشيد بيه. رَص فاينجولد كان السيناتور الوحيد في الكونجرس اللي صوّت ضد قانون مكافحة الإرهاب. وفي السنين اللي تلت قانون مكافحة الإرهاب والحرب على أفغانستان والحرب على العراق وكل الأهوال اللي عشناها في السنين السودة دي، كان رص فاينجولد طول الوقت بيلفت النظر لخطورة مادة بعينها في القانون ده. المادة كانت مادة رقم ٢١٥ وهي اللي بتدي الحكومة الحق في إجبار الشركات على الإفصاح عن بيانات تخص العملا لو كان عند الحكومة شك في إن واحد من العملا دول علي علاقة بالإرهاب أو ممكن تكون ليه علاقة بالإرهاب. وقتها الناس كانت بتتريق على فاينجولد وبتقول إنه جاي في الهايفة وبيتصدر، وإن فيها إيه يعني لو المكتبات العامة، مثلا، أعطت الحكومة بيانات استعارة القراء، وكان من نتاج ده إن وأجهزة الاستخبارات نجحت في تحليل البيانات دي واكتشفت نمط استعارة قارئ معين كان بيستعير كتب عن كيفية تصنيع قنبلة منزلية وعرفت تقبض عليه قبل ما ينجح في القيام بعمل إرهابي. مش ده يعتبر ثمن زهيد المجتمع مستعد يدفعه علشان ينعم بالأمان؟ فيها إيه يعني، يا سيادة النائب المحترم، لو حكومتنا الحريصة على أمننا اطلعت على السجلات دي؟
فاينجولد كان بيقول إن الموضوع أخطر من كده بكتير وإن المادة دي بالذات بتشكل سابقة خطيرة. لكنه كان بينفخ في قربة مقطوعة.
خطاب أوباما الأسبوع اللي فات أعاد الاعتبار لفاينجولد ووضح قد إيه السيناتور بتاع ويسكونسين كان عنده بُعد نظر. لإن الحكومة عرفت بالفعل تستخدم مادة ٢١٥ من قانون مكافحة الإرهاب علشان تجبر شركات التليفونات والإنترنت وتتجسس على ملايين بل بلايين المكالمات التلفونية والرسائل البريدية لملايين المواطنيين الأمريكيين.
السؤال اللي كان فاينجولد بيسأله واللي اضطر أوباما إنه يتطرق ليه هو: إيه التمن اللي المجتمع مستعد يدفعه علشان ينعم بالأمان؟ أنهي حقوق المجتمع مستعد يتنازل عنها علشان يحس يالسلامة والأمن؟ إحنا ممكن نكون مستعدين إننا نغير من عاداتنا في السفر ونقضي ساعات طويلة في طابور التفتيش في المطارات علشان نحس بالأمان في الطيارة. ماشي. إنما إننا نسمح للحكومة بتاعتنا إنها تتجسس على مكالماتا ومراسلتنا علشان تكتشف رسالة ممكن تكون مفيدة في “الحرب على الإرهاب”؟ المجتمع الأمريكي أخيرا قرر إنه ما عدش مستعد يدفع التمن ده، وأجبر الحكومة والرئيس على تغيير سياستهم.
وكما نعلم، فإن البطل الحقيقي في هذه القصة ليس الرئيس أوباما أو السيناتور رص فاينجولد ولكنه إدوارد سنودن، الشاب ذو الواحد وثلاثين ربيعا، الذي كان يعمل في هيئة الأمن القومي والذي سرّب للصحافة العالمية (ومن أهمها الجارديان والواشنطن بوست) ملايين الوثائق التي توضح عمق ومقدار واتساع عمليات التجسس التي تقوم بها الهيئة علي ملايين البشر في كل أصقاع المعمورة (احتراما لسنودن كان لازم اكتب الجملة دي بالفصحى). تسريبات سنودن هي اللي فتحت الباب لمناقشات واسعة في المجتمع الأمريكي طول الست شهور اللي فاتوا عن التمن اللي المجتمع مستعد يدفعه علشان ينعم بالأمان.
أما ليه أنا شايف إن خطاب أوباما كان نُص كُم وإن الحل اللي اقترحه (إيداع البيانات الفوقية عند “طرف تالت”) حل نُص كُم برضه فده سببه إني شايف إن الحل ده مش كافي بالمرة لمواجهة الانتهاكات الخطيرة دي، وإن أوباما بعد ما اكتشف انتهاكات المبادئ الدستورية (وهو أصلا أستاذ قانون دستوري) اللي الممارسات دي بتشكلها كان لازم ياخد موقف أكثر حزما وصرامة. إنما كعادته طلع علينا (وبأقول “علينا” علشان كلنا مستهدفين وكلنا محادثاتنا مكشوفة وبيتجسسوا عليها) وقال كلام منمق معسول مؤداه إن الصلاحيات اللي في إيد الحكومة، أي حكومة، صلاحيات كبيرة وكتيرة وخطيرة، وما ينفعش نعتمد بس على نُبل وأخلاق القابع في السلطة علشان نضمن عدم إساءة استخدام الصلاحيات دي، وبالتالي لازم نحط قواعد قانونية تحد من سيطرة الحكومة على مواطنيها وتحددها. حلو الكلام؟ حلو. إنما لما جه في المهم وشرح هو حيعمل إيه بالتحديد اكتشفنا إن معندوش كتير يقوله. تمخض الجبل فولد فأرا.
***
طب إيه علاقة كل الكلام ده بمصر؟ وليه ابتديت وقلت إن خطاب أوباما كان بيلمّس على اللي بيحصل عندنا اليومين دول؟ أظن العلاقة واضحة. إنما ما يضرش إننا نوضحها أكتر.
إحنا برضه عندنا مشكلة عنف ديني بتمثلة جماعة الإخوان، وإحنا برضه حكومتنا قررت التصدي للمشكلة دي أولا بإنها تعرفها على إنها “إرهاب”، وثانيا بإنها تقول إن الطريقة المثلى لمواجهة الإهاب ده هي بإعلان الحرب عليه، برضه مش مجازا ولكن حرفيا. يعني القانون هنا ملوش لازمة والجيش (ومعاه الشرطة) هو الأداة المثلى للتعامل مع “الإرهابيين”. وبرضه زي أمريكا، إحنا عندنا توافق شبه تام على إعطاء السلطات، وعلى رأسها الجيش، كل الصلاحيات المطلوبة للقضاء علي “الإرهاب”. ومن أطرف المفارقات في المقارنة بين الحالتين هو إن نسبة الإجماع متساوية بالتمام والكمال: ٩٨٪، فنتيجة تصويت الكونجرس على قانون مكافحة الإرهاب في أكتوبر ٢٠٠١ كانت ٩٨ صوت في مقابل صوت واحد (فاينجولد)، ونتيجة التصويت على الاستفتاء على الدستور (اللي إنا باعتبره كان استفتاء على السؤال الأساسي ده: هل تقبل أن تعطي الحكومة صلاحيات كاملة وغير محددة لتحقيق الاستقرار؟) كانت برضه ٩٨٪. وزي ما في أمريكا انبرى شاب طاهر نبيل هو إدوارد سنودن علشان يفكّر الأمريكان بحقوقهم و في سبيل ده دفع تمن غالي (هو مطارد، ومطلوب القبض عليه، وبيواجه جرائم عقوبتها السجن لسنين طويييلة)، إحنا برضه عندنا شباب طاهر نبيل بيضحي كل يوم علشان يفكّرنا بحقوقنا، وفي سبيل ده بيدفع برضه تمن غالي، وغالي جدا.
ولكن، وعلشان نكمّل المقارنة، ففي تلات اختلافات بين حالة “حربنا على الإرهاب” ونظيرتها الأمريكية. أول اختلاف إننا في وسط ثورة في مصر وأمريكا ماكنش عندها ثورة ولا يحزنون. وأظن إن شعار “الحرب على الإرهاب” مقصود بيه الالتفاف على شعاريْ الثورة الشهيرين “عيش. حرية. عدالة اجتماعية. كرامة إنسانية” و”الشعب يريد إسقاط النظام”. أما في أمريكا فكان المقصود هو بسط نفوذ أمريكا على العالم وإعادة رسم خريطة منطقتنا.
الاختلاف التاني هو إنه في أمريكا العدو في حربها على “الإرهاب” كان عدو خارجي: تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، طالبان، صدام، إلخ، إنما عندنا فالعدو داخلي. طبعا دي مشكلة وده السبب اللي بيخللي كتير مننا عاوز ينفي عن الإخوان حقيقة إنهم مصريين ويقول إنهم خونة أو عملاء أو مأجورين. المشكلة في الكلام ده مش إنه مش صحيح بس إنه مش دقيق، لإني أعتقد إنه وارد تكون اتهامات التخابر مع حماس والقاعدة والتنظيم الدولي صحيحة بالنسبة لقيادات الإخوان (ودي اتهامات أنا مش مستعد أقبلها من غير محاكمات قانونية عادلة وذات شفافية)، لكني ما اعتقدش بالمرة إنها صحيحة بالنسبة لأعضاء الجماعة أو أتباعها أو أنصارها. وده كان ممكن يكون اختلاف أكاديمي تافه لو ما كنش الألف واحد اللي ماتوا في فض اعتصام رابعة من أعضاء الجماعة مش من قيادييها. بمعنى آخر اللي ماتوا دول مصريين مية في المية. بنختلف معاهم؟ صحيح. بنكره أفكارهم وشكلهم؟ صحيح. خايفين منهم ومن انصياعهم لأوامر المرشد ومكتب الإرشاد؟ صحيح. مش فاهمين إزاي سامحين لنفسهم إن الجماعة بتاعتهم وقياداتهم يستخدموهم كدروع بشرية؟ صحيح برضه. إنما دول في النهاية مصريين، وإخواني في الوطن، ودمهم في رقبتي.
وده يجرنا للاختلاف التالت والأخير: المجتمع الأمريكي أخيرا فاق من غفوته بفضل بطولة واحد زي سنودن، وتنبه للي كان بيضيع من حقوقه كل يوم والتمن الغالي اللي دفعه في نظير حصوله علي الأمن. صحيح إن ده جه بعد ١٢ سنة من إعلان “الحرب على الإرهاب”، وبعد دخول حربين طويلتين كلفت الاقتصاد الأمريكي آلاف البلايين من الدولارات، لكن لحظة الحقيقة جت في النهاية. إنما إحنا لسه ما طرحناش على نفسنا السؤال المهم وهو: إيه التمن اللي مستعدين كلنا ندفعه علشان ننعم بالهدوء والسكينة والاستقرار؟ أنا ماعنديش أي شك إن الجيش والشرطة في استطاعتهم القضاء تماما على الإخوان: تنظيميا وقيادة وحتى فكرا. إنما السؤال الحقيقي هو: إيه تكلفة ده قانونيا وفكريا وأخلاقيا؟ هل إحنا مستعدين إننا نسمح للجيش وللشرطة إنهم يقتلوا إخواننا المصريين اللي احنا مختلفين معاهم في الفكر؟ ولو كنا مستعدين فعلا لكده، فهل نقدر نبص لنفسنا في المراية بعد كده؟ وإذا قبلنا ده على نفسنا فهل إحنا برضه فاهمين إن دي حتُعتبر سابقة وإن بعديها مش حيكون في مانع قدام الجيش والشرطة إنهم يتدوّروا علينا ويخلصوا علينا إحنا كمان؟
إحنا عوزين دولة قوية، صحيح، ومش حنسمح لأي حد إنه يقضي علي الدولة القوية بتاعتنا. صحيح. إنما هل مستعدين إننا نضحي بالمجتمع في نظير الحفاظ على الدولة دي؟