نُشر في “فيسبوك” في ١٥ يناير ٢٠١٤
من شوية لقيت بوست جميل محطوط على صفحتي من الأستاذ محمد المهندس اللي ما اتشرفتش بمعرفته أو مقابلته. البوست عبارة عن مجموعة من الأسئلة “الصعبة” اللي حاولت الإجابة عليها في كتابي #كل_رجال_الباشا ، وشويتين ولقيت مجموعة رائعة من الأجوبة اللي قدمها القراء. وبما إن واحد منهم طلب ردي، كمؤلف الكتاب، فقررت أقوم بالرد فعلا. اللي هتلاقوه هنا البوست الأصلي وردي عليه. أما التعليقات الأصلية فموجودة في البوست اللاحق.
أسئلة الأستاذ محمد المهندس:
أحد الأسئلة الجوهرية التي قام عليها كتاب كل_رجال_الباشا للدكتور كان حول أسباب انتصار جيش محمد على في معظم حروبه التي خاضها رغم البؤس والقهر الذين عاشا في ظلهما جنود محمد علي وابنه إبراهيم باشا.
كيف لجيش أن يستمر في انتصاراته رغم أن جنوده خطفوا من بين عائلاتهم وحرموا من ذويهم وعاشوا حالة كاملة من القهر الجسدي والإذلال المعنوي?!
كيف لجيش أن ينتصر رغم أن نسبة المتسحبين (الفارين منه) وصلت إلى الثلث في بعض الأحيان (ستين ألفا من بين مائة وثمانين ألفا)‘ ورغم أن النساء كن يضعن في بعض الأحيان سم الفئران في أعين أبنائهن‘ أو أن يقطع الشباب أصبعا من أصابع أيديهم حتى لا يلتحقوا بجيش محمد علي?
ما الدافع الذي حفز هؤلاء ليحققوا الانتصارات تلو الأخرى?!
هل كان حب الجهاد في سبيل الله سببا?! ربما كان ذلك دافعا في قبرص أو كريت! ولكن ماذا عن الشام والحجاز? لا يعقل أن يقبل ذلك في مواجهة دولة الخلافة ذاتها?!
هل كانت القومية المصرية دافعا? كيف يقبل ذلك ورأس البلد نفسه ليس مصريا ولا ابنه قائد الجيش’ ولا كل الضباط‘ بل ولا يتحدث أحد من هؤلاء العربية?
هل كانوا يعاملون معاملة كريمة في معسكراتهم وثكناتهم? كيف يقبل ذلك وقد كان الجنود جميعا يعاملون معاملة بالغة السوء من ضباطهم وكافة قادتهم على اعتبار أنهم في الأساس فلاحون أي من مرتبة دنيئة مقارنة بالضباط العثمانيين‘ مضافا إلى ذلك تعليمات الجندية ذاتها التي تقيد الحرية الحركة بل والأنفاس?!
ما الدافع إذن لهذه الانتصارات الكبيرة التي استمرت حتى عام ١٨٤٠?
انتهى كلام الأستاذ محمد المهندس. وده ردي على أسئلته:
أولا، لازم اعترف بامتناني للأستذ محمد المهندس على تدوينته دي وعلى تلخيصه لمجموعة من أهم الأسئلة الي طرحتها في “كل رجال الباشا” واللي حاولت أجاوب عليها.
ثانيا، أنا ممتن جدا لكل من كتب وساهم وطرح إجاباته على الأسئلة دي.
أنا ممكن طبعا أقول إن الكتاب فيه حل الفزورة ولازم الناس تبذل مجهود في قرايته زي ما أنا بذلت مجهود في كتابته. إنما طبعا أنا مش مقتنع بالكلام ده. اللي عنده وقت لقراية الكتاب وعاوز يقراه حيقراه، واللي عاوز المؤلف يغششه حل الفزورة فالمؤلف يسعده ده، ولكن بشرط: إن محدش يفتكر إن هو ده الحل الصح. ده اجتهادي أنا، وممكن قوي (زي ما باين في المداخلات الجميلة) إن يبقى في حلول أدق وأحسن.
فبعد الديباجة دي أقول:
كان في عوامل كتيرة اجتمعت علشان الجيش ده يحقق الانتصارات المذهلة دي. منها مثلا إن كان في تقسيم رائع للعمل بين محمد على وابنه إبراهيم، فمحمد علي بيدير الحرب ديبلوماسيا من القاهرة (أو الإسكندرية) بالإضافة (وده الأهم) بيضمن تموين وإمداد الجيش بكل ما يلزم. فجوابات إبراهيم لأبوه المحفوظة في دار الوثائق وردود محمد علي عليه بتوضح الجانب ده بشكل جلي. عاوز فلوس؟ ماشي. عاوز علايف للخيل؟ ماشي. عاوز ذخيرة؟ ماشي. عاوز ٢٠ ألف جندي زيادة؟ عينيا. وده كان معناه إن الجنود ع الجبهة مش مضطرين يعيشوا من ريع الأرض اللي احتلوها. أما تفاصيل كيفية تلبية محمد علي للطلبات دي، فده موضوع تاني مشروح في الكتاب برضه (ولو بشكل مختصر).
العامل التاني الحاسم هو إن إبراهيم باشا قائد عسكري فذ، مش بس على المستوى المصري أو العثماني، إنما كمان على المستوى العالمي. عبقريته لها علامات عديدة، منها مثلا إنه كان عنده قدرة غريبة على الإلمام بالنواحي اللوجستية بحيث إنه كان ممكن يقدّر إحتياجات جيش قوامه ٥٠ ألف عسكري وظابط بأكلهم وشربهم وعلاجهم وذخيرتهم ودوابهم، وجواباته يطغى عليها الطابع ده. ومنها برضه قدرته على اختيار موقع المعركة ويجبر العدو على الاقتتال فيه. نفس الشيء بخصوص توقيت المعركة: هو اللي كان بيختاره. ومنها كمان إنه كان عنده قدرة على قراءة شخصيات ظباطه ومعرفة مين منهم ييجي منه ومين ما يُعتمدش عليه ويتخاف منه. وقدر يكوّن حواليه “همشارية”، يعني شلة، من الظباط الكبار اللي كانوا يبدينوا بالولاء ليه، وساعات كمان بياخد رأيهم (إنما الظاهر إنهم ما كانوش بيستحملوا صوته لما يغني وهو سكران).
العامل الثالث كان وجود سليمان باشا (كولونيل سيف) كرئيس هيئة أركان الجيش وكمساعد لإبراهيم. سليمان باشا كان برضه ظابط محترف وما بخلش على محمد علي بأي مجهود. سليمان/سيف عرف يلم مجموعة من الإداريين والظباط الكبار اللي عرفوا يديروا العملية القتالية ببراعة وكله تحت إشراف الثنائي محمد علي/إبراهيم باشا: تجنيد الفلاحين، تدريبهم، علاجهم، تموين، إمداد، استخبارات وتجسس، تمويه على العدو وحرب نفسية عن طريق نشر الشائعات، محاولة رشوة واستمالة ظباط الجيش العثماني (طبعا لازم نفتكر إن كل الظباط اللي باتكلم عليهم هنا –يعني ظباط الجيش “المصري”- كانوا أتراك بمعنى إنهم بيتكلمو تركي وجايين من أماكن مختلفة من الدولة العثمانية).
كل دي عوامل ممكن نقول عنها إنها عوامل “هيكلية” يعني تخص الإطار العام بتاع ماكينة الحرب.
أما الأدوات نفسها، يعني العساكر، اللي أسئلة الأستاذ محمد المهندس بتطرحها، فده طبعا هو لب الموضوع.
من خلال الوثائق الكتيرة اللي قريتها في دار الوثائق فمفيش شك إن أهم عامل للأداء الممتاز للجنود كان التدريب الصارم والدقيق اللي اتعرضوله. التدريب ده هو نتاج مزيج من الانظباط البروسي بتاع فريريك الثاني مع التنظيم الفرنسي مع غطاء عثماني. كتيبات التدريب الموجودة في دار الكتب (مش دار الوثائق) بتدينا فكرة دقيقية عن آليات وطرق التدريب وكيفية تحويل الفلاحين لعساكر: كيفية تحويلهم لأجزاء من ماكينة ملهاش روح أو نفَس.
العامل التاني المتعلق بالجنود، زي الأستاذين أحمد عامر وحامد محمر ما تفضلم وقالو، هو القانون الصارم اللي خلى العساكر تدرك إن عدم إطاعة الأوامر معناه عقاب بدني قاسي (جلد قدام الطابور) وفي نفس الوقت إدراك إن أطاعة الأمر وقت المعركة يحمل إمكانية النجاة. أما الهرب من المعسكر أو من المعركة فنتيجتة الإعدام. الموضوع ما فيهوش هزار.
نيجي بقى لإمكانية وجود حوافز إيجابية: الوطنية المصرية والدفاع عن الوطن؛ الاعتزاز بلبس البدلة الميري والفشخرة بيها قدام بنت عمي (أو بنت العمدة)؛ الجهاد في سبيل الله؛ ضمان تكريمي في جنازة محترمة في حالة وفاتي والاعتناء بأمي أو مراتي أو ولادي؛ احترامي لظباطي وثقتي فيهم (مش بس الخوف منهم).
كل العوامل دي ما لقيتلهاش أي أثر في السجلات.
الوطنية: كل شعارات الجيش وألويته وأعلامه ما كنش فيها اسم مصر. كان عليها اسم محمد علي. الخطب اللي كانت بتُلقى على الجنود قبل المعركة وبتحثهم على القتال كانت باسم “أفندينا” مش باسم مصر. الوطنية المصرية، في رأيي، كانت لاحقة على تكوين الجيش مش سابقة عليه، وكان أهم سبب في ظهورها هو كراهية العساكر للظباط أكثر من كراهيتهم للـ”عدو”.
البدلة: لبس العساكر ما كنش يفرح قوي. لبس الظباط هو اللي كان مزركش ومقصب بالذهب.
الجهاد: دي كانت مشكلة كبيرة لما العساكر لقو نفسهم بيحاربوا السلطان العثماني اللي كان خليفة المسلمين.
الجنازات: ما فيش أي ذكر لجنازات عسكرية أو مقابر للشهداء أو أي تكريم لضحايا الجيش. كل اللي السجلات بتوريه في الموضوع ده هو اهتمام السلطات إن راتب العسكري يتقطع.
علاقة الجنود بالضباط: علاقة مهببة ومنيلة بستين نيلة. وده في رأيي مربط الفرس، والاختلاف الأساسي اللي بيميز الجيش ده عن جيش نابليون مثلا. ظباط الجيش ملهمش علاقة – اجتماعيا أو لغويا أو إثنيا أن ثقافيا – بالعساكر. وده بالمناسبة، في رأيي برضه، هو سر فشل تجربة محمد علي برمتها: النخبة اللي كونها نخبة كانت متعالية على الشعب وفلاحيه. صحيح ممكن يستعبدوهم ويطوعوهم لخدمة أغراضهم لكنهم عمرهم ما عرفوا يخلوهم يحترموهم أو ييتجاوبوا معاهم.