Press "Enter" to skip to content

يا أهلا بالمذابح (بالفصحى)

نُشر في “جدلية” في ١٤ يناير ٢٠١٤

مقالة الصديقة العزيزة ريم سعد في الشروق يوم ٥ يناير التي كانت بعنوان “أوهام دموية عن الحلول الجذرية” لفتت نظري إلى مقالة أحمد المسلماني، التي نشرها سنة ٢٠٠٨ في “المصري اليوم”، والتي كانت بعنوان “جريمة رائعة”. مقالة المسلماني كانت من جزئين وأشاد فيها بمذبحة القلعة التي تمت يوم ١ مارس ١٨١١.

في الحقيقة، أنا لا أتذكر أنني قرأت مقالة المسلماني عند نشرها، لكني أتذكر سلسلة المقالات التي كانت هذه المقالة واحدة منها. السلسلة كانت تدعو لتأسيس ما أسماه المسلماني “حركة المؤرخين الجدد في مصر”، وبما أني مهتم بالكتابة التاريخية ومقتنع بأننا محتاجون فعلاً لإعادة كتابة تاريخنا (وقراءته أيضاً) فقد لفتت نظري تلك السلسلة. وأغلب الظن أنني قرأت أيضاً هاتين المقالتين عن مذبحة المماليك، لكن لسبب ما (أظن أني اكتشفته الآن) قررت طمس المقالتين من ذاكرتي ومسحهما تماماً. 

وقبل أن أعيد قراءتهما هنا أود أن أنوه إلى أن حركات المؤرخين الجدد عندما تظهر في بلدان أخرى، كتركيا وإسرائيل، عادة تأخذ منحى يسارياً، وعادة تحاول أن تشكك في الأساطير المؤسسة للدولة (كالكمالية في حالة تركيا، والصهيونية في حالة إسرائيل). وأظن أنه لشيء دال أنه عندما ظهرت هذه الدعوة بهذا المسمى عندنا ظهرت علي يد صحفي يميني قومجي يمجد الدولة ويتغنى بأساليبها الدموية بل يترحم عليها أيضاً. 

نأتي إذن لتناول المسلماني لمذبحة المماليك. فهو يقول: “كان قرار محمد علي القضاء على المماليك واحداً من أعظم القرارات إن لم يكن أعظمها جميعاً، وإذا كان لمحمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة إنجازان يفوقان مجمل ما أنجز ومجمل ما أنجزت مصر في القرنين الأخيرين، فهما بناء الجيش والقضاء على المماليك”. هذا الكلام مهم ويحتاج إلى رد، ليس لأن المسلماني يشغل منصب المتحدث الرسمي للرئاسة ولكن، للأسف، لأن هذا الكلام له صدى عند قطاع كبير من المصريين.

أما بخصوص تأسيس الجيش الحديث، فأنا درست هذا الجيش عن قرب، وقضيت سنيناً طويلة أقرأ سجلاته ووثائقه. وبعد هذه السنين الطويلة في البحث والقراءة والتفكير يجب أن أعترف أن هذا الجيش كان إنجازاً رائعاً، وأن إنجازاته كانت رائعة بدورها. من منا لا ينبهر عندما يعرف أن هذا الجيش بنى لمصر إمبراطورية شملت السودان والحجاز واليمن وكريت وجنوب اليونان (شبه جزيرة المورة) وأجزاء من جنوب الأناضول وما نطلق عليه اليوم سوريا وفلسطين والأردن ولبنان؟ بل زِد على هذا أيضا الحقائق التالية: المصريون هم الذين أصدروا أول جريدة مطبوعة في كريت، وهم الذين بنوا مدينة الخرطوم، وهم الذين أسسوا أول مجالس بلدية في المدن السورية (مما كان له دور كبير في تطوير مدينة كبيروت)، وهم الذين انتزعوا مكة والمدينة من قبضة الوهابيين سنة ١٨١٣ بعد استيلاء الوهابيين على الأراضي الحجازية واعتراضهم قوافل الحج الآتية من مصر ومن الشام. ألا تعتبر هذه الأعمال إنجازات يحق أن نفتخر بها ونترحم عليها؟ ألا يجوز لنا أن نحلم مع الفريق عبشكور البيصي في أن يأتي اليوم الذي تكون فيه مصر، التي هي أم الدنيا، قد الدنيا؟ ألم تكن مصر فعلا في يوم من الأيام قد الدنيا؟

جائز. لكن تعالوا نسترجع معاً تاريخ هذا الجيش ونسترجع إنجازاته الأخرى، وتعالوا نتساءل: كيف بنى هذه  الإمبراطورية العظيمة؟ صحيح أن المصريين هم من بنى مدينة الخرطوم وحولوها من قرية صيادين صغيرة إلى عاصمة أراضي السودان الموحدة. لكن الجيش المصري الذي “فتح” السودان كان جيشاً دموياً، فهذا الجيش بقيادة إسماعيل باشا ابن محمد علي، ومساعده محمد الدفتردار، زوج أخت إسماعيل، أي زوج بنت محمد علي (مما يدل على أن هذا الجيش كان جيشاً أسرياً) قتل وحرق واستعبد وروّع السودانيين لدرجة أن ذكراه ظلت محفورة في مخيلة السودانيين حتى قيام الثورة المهدية بعدها بستين سنة. 

أما في سوريا، فالوضع لم يكن مختلفاً كثيراً. فالجيش المصري في سوريا منذ بداية الغزو في ديسمبر ١٨٣١ إلى أن جلى عنها سنة ١٨٤٠ كان منهمكاً في فرض ضرائب أو جمع سلاح أو تجنيد الأهالي، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الثورات العديدة ضد التواجد المصري وانشغال الجيش المصري بمحاولة إخمادها. والسبب الرئيسي وراء انهيار الجيش سنة ١٨٤٠ في بيروت لم يكن الإنجليز، بل كان ثورة الأهالي، وهذا حسب خطاب من إبراهيم باشا، قائد الجيش وابن محمد على، للسيد الوالد.

أما في شبه الجزيرة العربية، وبغض النظر عن رأينا في السعوديين وحلفائهم الوهابيين، فما قام به الجيش المصري في الدرعية عند “فتحها” سنة ١٨١٨ لا يمكن أن يغتفر: إبراهيم أعطى لجنوده الضوء الأخضر لاستباحة المدينة: أشجارها ونخيلها وبيوتها وشوارعها وأسواقها وقصورها. المدينة مُحيت من على وجه الأرض.

من السهل إلقاء اللوم على الغرب والتغنى بإمبرطوريتنا التي انتزعها الغرب منا في معاهدة لندن سنة ١٨٤٠. لكن الحقيقة المرة تقول إن الإدارة المصرية في كل الأقاليم التي فتحها الجيش (باستثناء كريت) كانت إدارة فاشلة، وإنها لم تتمكن قط من تغطية تكاليف الاحتلال، وذلك لأسباب كثيرة أهمها أن أغلب الإداريين كانوا ضباطاً من الجيش مربّطين مع بعضهم البعض ومع شيخ المنسر، ولي النعم، أفندينا مؤسس مصر الحديثة.

لكن أهم إنجازات الجيش المصري الذي أسسه محمد علي والذي يترحم عليه المسلماني هو قهر المصريين وذلهم ذلاً لا أظن أنهم عانوا مثله منذ وقت الفراعنة. يكفي أن نعرف أن الفلاحين كانوا يفضلون العمى على الجهادية. وهذا الكلام مقصود حرفياً وليس مجازاً: الفلاحون كانوا يضعون سم فئران في أعينهم لكي يصابوا بالعمى ولكي يخرجوا من الجيش. والذي كانت أمه تخاف عليه من الجيش ومن ذل الجيش كانت تقطع له السبابة لكي لا يستطيع شد الزناد على أمل الخروج من الجيش. والذي لم يساعده الحظ ولم يستطع الفلتان من الجهادية حاول بكل الطرق أن يهرب بعد أن لبس زي الجهادية: في ١٨٣٥ أجريت إحصائية شاملة تبين منها أن الجيش الذي قوامه ١٨٠ ألف هرب منه ٦٠ ألف، يعني الثلث. لا أظن أن هناك دليلاً أكبر من هذا على كراهية المصريين للجيش ونفورهم منه.

ما أسباب تلك الكراهية يا ترى؟ هل هو تخلف الفلاحين وعدم إدراكهم لعظمة مشروع الباشا؟ قد يفضّل المسلماني هذا التفسير. ولكن من واقع سجلات المحاكمات العسكرية التي عثرتُ عليها في دار الوثائق القومية أظن أن الفلاحين أصابوا في  تقديرهم: هذا الجيش ليس جيشنا، ولا تلك الحروب حروبنا. هؤلاء ليسوا ضباطنا ولا هم أهلنا. نحن مذلولون ومقهورون ومنتزعون من أهالينا. نذوق الذل والهوان كل يوم، ويا ليتنا في النهاية عاجبين. 

هذا هو الجيش الذي يعتبره المسلماني أول إنجازات محمد علي العظيمة.

أما ثاني تلك الإنجازات، مذبحة المماليك، فالمرء لا يدري فعلاً من أين يبدأ ليدحض هذه المقولة. الموضوع لا يتعلق بالمماليك، وبما إذا كان من الواجب الدفاع عنهم. الموضوع أعمق وأهم من المماليك. الموضوع يتعلق بمشروعية استخدام مذبحة لتأسيس نظام سياسي، والأنكى من هذا هو تبرير القتل والدم على أساس أن مصر “كانت أمام خيارين واضحين”، كما يقول المسلماني، “خيار التخلف الذي يحميه المماليك، وخيار التقدم الذي أتى به محمد علي تعليماً وتفكيراً وجيشاً وإمبراطورية.”

أنا لا أريد أن أعيد هنا تفاصيل المذبحة، فتفاصيلها موجودة في كتاب الجبرتي (أحداث صفر ١٢٢٦)، لكني أود التركيز على بعض تفاصيل المذبحة التي تغيب عن دراية الكثيرين: 

مَن خطط للمذبحة كان محمد لاظ أوغلي الذي له تمثال الآن في الميدان المعروف باسمه في القاهرة. لاظ أوغلي كان رجل المخابرات الأول عند محمد علي، وكانت لديه شبكة من الجواسيس الذين يجيدون العربية والتركية، والذين كانوا يتجسسون على علية القوم وأسافلهم سواء بسواء. محمد لاظ أوغلي هذا خدم محمد علي لربع قرن (مات سنة ١٨٢٧)، وهو العقل المدبر لمذبحة المماليك. وكان من شطارته أنه خطط للمذبحة في سرية تامة حتى أن ابنيْ محمد علي، إبراهيم وطوسون، لم يعلما بالمذبحة إلا بعد الفراغ منها. وطبعاً من سخرية القدر (أو من طبائع الأمور ومما يدل على أن هذه الدولة القذرة ما زالت موجودة إلى الآن) فإن “لاظ أوغلي” الآن هو اسم مقر من مقرات أمن الدولة الذي يُمارس فيه التعذيب بانتظام. ومن الملفت للنظر أيضاً ثنائية الجيش والشرطة الموجودة من يوم تأسيس الدولة المصرية الحديثة إلى الآن: فبينما مهدت الشرطة، ممثلة في العقل المدبر محمد لاظ أوغلي، للمذبحة، مَن نفذ المذبحة فعلا كانوا حرس محمد علي وجيشه الخاص. هذه هي النقطة الأولى.

أما النقطة الثانية فإن المذبحة لم تكن قاصرة على الـ٤٥٠ أمير مملوكي الذين قُتلوا في القلعة، ولا على المملوك الشارد الذي نفذ بجلده منها والذي تتلذذ الروايات الرومانسية الساذجة بترديدها. الموضوع كان أخطر من هذا بكثير، فبعد قتل هؤلاء الأمراء (الذين كانوا سادة البلد وقتها أيا كان رأينا فيهم الآن) أعطى محمد علي أوامره باستباحة بيوتهم وقصورهم. والنتيجة؟ حمامات دم لمدة أيام وأسابيع قُتل فيها الآلاف وأُسر فيها آلاف غيرهم وسُبيت الحريم ونُهبت القصور وصُودرت الممتلكات. وبعد الانتهاء من القتل في القاهرة، شنّ إبراهيم باشا على فلول المماليك حملة استغرقت شهوراً عديدة طاردهم فيها في الصعيد وإلى حدود السودان. 

النقطة الثالثة: أنا دائماً ما أعتبر هذا الحدث البداية الحقيقية للدولة المصرية الحديثة. محمد علي لم يبدأ ولايته بالتفويض الشعبي الذي ظل يتمانع فيه طويلاً إلى أن تنازل وكمّل جميله بقبوله، كما أن ولايته لم تبدأ بفرمان التولية الذي جاءه من الآستانة. ولاية محمد علي الحقيقية بدأت يوم ١ مارس ١٨١١ يوم مذبحة المماليك. يومها خَلُصت له البلد، وقضى على كل من كان باستطاعته أن يقول له ثلث الثلاثة كام، وبدلاً من وجود أكثر من بيت مملوكي في البلد ــ صحيح أنهم يحاربون بعضهم البعض لكنهم أيضاً يحدثون توازن قوى فيما بينهم ــ  بدلاً من ذلك لم يعد في البلد غير بيت واحد فقط، وسيد واحد فقط، وولي نعمة واحد فقط: محمد علي. وبما أن محمد علي لم يكن باستطاعته الحكم وحده، حتى لو كانت قدراته خارقة، فكان يجب عليه الاعتماد على أعوان ومساعدين. هؤلاء كانوا نخبته التي ساعدته على حكم البلاد، وطبعاً كان معظم أعضائها إما أقاربه أو أصهاره أو من بلدته ومسقط رأسه، “قوله”، بشمال اليونان. كان من الطبيعي أن يدين أعضاء تلك النخبة له بالولاء، ولم يستطع أي منهم أن يرفع بصره للباشا، ولا أن يحاسبوه على أي شيء يفعله لأنه ببساطة وليّ نعمتهم. ورويداً رويداً مُنح أعضاء هذه النخبة إقطاعيات وأُعطيت لهم الأقاليم لكي يحكموها، فعينوا المساعدين والكتبة، ووُضعت لهم القواعد واللوائح والقوانين. والنتيجة هي ما نسميه الآن “الدولة المصرية الحديثة”. ولكن ماذا عن الشعب؟ أهالي البلد؟ هؤلاء كانوا قد فوّضوا الباشا قبل ذلك بست سنين. أنسينا؟ وبالتالي فلم توجد أية علاقة تعاقدية بين الحكام والمحكومين، والطبقة الوحيدة التي كان من الممكن أن تجمح جماح “الدولة” قد أبيدت ذبحاً، حرفياً لا مجازاً.

النقطة الرابعة: كانت المذبحة بشعة بكل المقاييس، حتى بمقاييس العصر. كثيراً ما نسمع واحد فلحوس يقول: لا يصح الحكم على عصر بمعايير عصر آخر. هذا طبعاً كلام ساذج. لكن فليكن؛ فلنحكم علي المذبحة بمعايير القرن التاسع عشر. حتى بهذه المعايير كانت المذبحة بشعة. ما دليلي على هذا؟ دليل هو كلام محمد علي نفسه، أو بالأحرى صمته عنها. فعلى مدى فترة حكمه الطويلة (محمد علي حكم لمدة ٣٧ سنة بعد المذبحة) لم يستطع محمد علي التحدث عن هذا اليوم الدامي. ففي كل مقابلاته مع الرحالة الأجانب كان يتحاشى الكلام عن المذبحة، وكان عندما يُسأل عنها يقول إن هناك أشياء كثيرة في ماضيه لا يود تذكرها. والأهم من هذا كان رد فعل زوجته وأم أولاده، أمينة هانم. أمينة هانم تمنعت عنه ولم تدعه يلمسها إلى أن ماتت بعد المذبحة بـ ١٣ سنة. 

مذبحة المماليك، يا أستاذ مسلماني، حدث قذر بأي مقاييس وباستخدام أي معايير. قذارته وبشاعته في الأساس نابعة من أن المذبحة، تعريفاً، حدث دموي تُزهق فيه أرواح كثيرة بريئة. وحتى لو لم تكن بريئة فلا يمكن تأسيس نظام سياسي بمذبحة. يمكن تأسيس نظام، نعم، لكن سياسي قادر على الصمود والبقاء؟ لا. أنا من دراستي لمحمد علي أظن أنه هو نفسه أدرك هذا، وعظمته في رأيي تكمن في إدراكه أن رجل الدولة لا يستخدم يديه في القتل. فلو قام بذلك صار رجل عصابات لا رجل دولة. محمد علي نجح في أن يعيد إنتاج نفسه من عُصبجي، لسياسي، لرجل دولة على المستوى العالمي. هذا هو السر وراء عدم اعتزازه بمذبحة المماليك ورغبته الدفينة في أن ينساها، تلك الرغبة التي لم تحققها له زوجته العظيمة. 

لا أظن أنها صدفة أن المسلماني الذي كان يسمي مذبحة المماليك “جريمة رائعة” والذي يقول “إنني واحد ممن يرون أن بعض رؤى الإصلاح والتقدم لا تحتمل ترف الحوار والجدل والإقناع. كما أنها لا يمكنها أن تبقى طويلاً أسيرة حرب باردة بين الرأي والرأي الآخر” ــ ليست صدفة أن هذا الشخص الذي يعترف بعدم تقديره لقيمة الحوار والجدل أصبح المستشار الإعلامي للطرطور عدلي موكوس. لا يوجد تعبير عن وكستنا وعن النكسة الخطيرة التي أصابت ثورتنا أبلغ من أن يكون المتحدث الرسمي للرئاسة شخص كالمسلماني الذي كتب مقالة يفتخر فيها بعمل دموي قذر وأفصح فيها عن حقيقة أولوياته: السيف أصدق أنباء من الكتب. والذي يزيد الطين بلّة أن تلك المقالة وإن كُتبت من سبع سنين إلا أنها تعبر عن العقلية البائسة الراهنة، فبعد مذبحة أخرى أبشع وأقذر من مذبحة المماليك ما زالت حكومتنا تفتقر لأي أفق أو رؤية أو حل أو إنجازات. كل ما تستطيع هذه الحكومة أن تقوم به هو القبض والتعذيب والقتل والدم. حكومة عُصبجية قتالين قتلى. يا أهلا بالمذابح.

Blog Stats

  • 783٬807 hits

One Comment

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.