نُشر في “فيسبوك” في ٨ يناير ٢٠١٤
مقالة الصديقة العزيزة ريم سعد في الشروق يوم ٥ يناير اللي كانت بعنوان “أوهام دموية عن الحلول الجذرية” لفتت نظري لمقالة أحمد المسلماني اللي كان نشرها سنة ٢٠٠٨ في “المصري اليوم”، واللي كانت بعنوان “جريمة رائعة“. مقالة المسلماني كانت من جزئين وكان بيشيد فيها بمذبحة القلعة اللي تمت يوم ١ مارس ١٨١١.
أنا بصراحة مش فاكر إني قريت المقالة دي في وقتها، لكن فاكر سلسلة المقالات اللي كانت المقالة دي واحدة منها. السلسلة كانت تدعو لتأسيس ما أسماه المسلماني بـ”حركة المؤرخين الجدد في مصر”، وبما إني مهتم بالكتابة التاريخية ومقتنع بإننا فعلا محتاجين لإعادة كتابة تاريخنا (وقرايته برضه) اهتميت بالسلسلة دي. وأغلب الظن إني قريت برضه المقالتين دول عن مذبحة اللماليك، لكن لسبب ما (أظن إني اكتشفته دلوقت) قررت طمس المقالتين من ذاكرتي ومسحهم تماما.
وقبل ما أعيد قرايتهم هنا أحب بس أنوه إن دعوات تأسيس حركة مؤرخين جدد لما بتظهر في بلاد تانية، زي تركيا وإسرائيل، عادة بتاخد منحى يساري، وعادة بتحاول تشكك في الأساطير المؤسسة للدولة (زي الكمالية في حالة تركيا، والصهيونية في حالة إسرائيل). وأظن إنها حاجة دالة جدا إن لما ظهرت الدعوة دي بالمسمى ده عندنا ظهرت علي إيد صحفي يميني قومجي بيمجد في الدولة وبيتغنى بأساليبها الدموية وبيترحم عليها كمان.
نيجي بقى لتناول المسلماني لمذبحة المماليك. فهو بيقول “كان قرار محمد علي القضاء على المماليك واحداً من أعظم القرارات إن لم يكن أعظمها جميعًا، وإذا كان لمحمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة إنجازان يفوقان مجمل ما أنجز ومجمل ما أنجزت مصر في القرنين الأخيرين، فهما بناء الجيش والقضاء على المماليك”.
الكلام ده مهم ومحتاج رد، مش علشان المسلماني هو المتحدث الرسمي للرئاسة ولكن، للأسف لأن الكلام ده له صدى عند قطاع كبير من المصريين.
أما بخصوص تأسيس الجيش الحديث، فأنا درست الجيش ده عن قرب، وقضيت سنين طويلة بأقرأ سجلاته ووثائقه. وبعد السنين الطويلة دي من البحث والقراءة والتفكير لازم اعترف إن الجيش ده كان إنجاز رائع بجد وإنجازاته رائعة بدورها. مين مننا مش حينبهر لما يعرف إن الجيش ده بنى لمصر إمبراطورية شملت السودان والحجاز واليمن وكريت وجنوب اليونان (شبه جزيرة المورة) وأجزاء من جنوب الأناضول واللي بنطلق عليه النهارده سوريا وفلسطين والأردن ولبنان؟ وزوّد عندك كمان: المصريين هما اللي أصدروا أول جريدة مطبوعة في كريت، وهما اللي بنوا مدينة الخرطوم، وهما اللي أسسوا أول مجالس بلدية في المدن السورية (وده كان له دور كبير في تطوير مدينة زي بيروت)، وهما اللي انتزعوا مكة والمدينة من قبضة الوهابيين سنة ١٨١٣ بعد الوهابيين ما استولوا على الأراضي الحجازية ومنعوا الحج لمدة ثلاث سنين. مش دي برضه إنجازات يحق إننا نفتخر بيها ونترحم عليها؟ مش يجوز لينا إننا نحلم مع عبشكور البيصي إن مصر اللي هي أم الدنيا تكون فعلا قد الدنيا؟ مش مصر كانت فعلا في يوم م الأيام قد الدنيا؟
جايز. لكن تعالوا سوى نسترجع الجيش ده عمل إيه تاني، وإزاي بنى الإمبراطورية العظيمة دي؟ صحيح إن المصريين هما اللي بنوا مدينة الخرطوم وحولوها من قريةلصيادين صغيرة لعاصمة أراضي السودان الموحدة. لكن الجيش المصري اللي “فتح” السودان كان جيش دموي، فقائد الجيش، اسماعيل باشا ابن محمد علي، ومساعده محمد الدفتردار، جوز أخت اسماعيل يعني جوز بنت محمد علي (ماهو كان جيش أسري، زيتنا ف دقيقنا يعني) هما الاتنين قتلوا وحرقوا واستعبدوا وروعوا السودانيين لدرجة إن بشاعة الجيش المصري (اللي السودانيين، بالمناسبة، بيسموه “التركية” لأن الظباط كانوا كلهم أتراك) ظلت محفورة في مخيلة السودانيين لحد الثورة المهدية ما قامت بعديها بستين سنة.
أما في سوريا فالوضع ماكنش مختلف قوي: الجيش المصري في سوريا من أول ما غزاها في ديسمبد ١٨٣١ لحد ما جلى عنها سنة ١٨٤٠ وهو بيقمع ثورات هبت ضد التواجد المصري. والسبب الرئيسي اللي أدى لانهيار الجيش سنة ١٨٤٠ في بيروت كانت ثورة الأهالي مش الإنجليز، وده حسب جواب من إبراهيم باشا، قائد الجيش وابن محمد على، للسيد الوالد.
أما في شبه الجزيرة العربية وبغض النظر عن رأيك في السعوديين وأصحابهم الوهابيين، فاللي عمله الجيش المصري في الدرعية لما “فتحها” سنة ١٨١٨ لا يمكن أن يغتفر: إبراهيم إدى لجنوده الضوء الأخضر لاستباحة المدينة: بيوتها وشوارعها وأسواقها وقصورها ونساءها. المدينة مُحيت من على وش الأرض.
سهل قوي إننا نلوم الغرب، ولطيف جدا إننا نتغنى بأمبرطوريتنا اللي الغرب انتزعها مننا في معاهدة لندن سنة ١٨٤٠. لكن الحقيقة المرة بتقول إن الإدارة المصرية في كل الأقاليم اللي الجيش فتحها (باستثناء كريت) كانت إدارة فاشلة لأسباب كتيرة أهمها إن أغلب الإداريين كانوا ظباط م الجيش مربّطين مع بعض ومع شيخ المنسر، ولي النعم، أفندينا مؤسس مصر الحديثة.
لكن أهم إنجازات الجيش المصري اللي أسسه محمد علي واللي المسلماني بيترحم عليه إنه قهر المصريين وذلهم ذل ما أظنش إنهم اتذلوه أو شافوا زيه من وقت الفراعنة. كفاية إننا نعرف إن الفلاحين كانوا يفضلوا العمى على الجهادية. وده حرفيا مش مجازا: الفلاحين كانوا بيحطوا سم فيران في عنيهم علشان يتعموا ويتشرّكوا ويطلعوا م الجيش. واللي كانت أمه بتخاف علىه م الجيش وذل الجيش كانت بتقطع له صباعه علشان ما يعرفش يشد الزناد وبكده يطلع م الجيش. واللي ما ساعدوش الحظ وما عرفش يفلت من الجهادية حاول بكل الطرق إنه يهرب بعد ما لبس لبس الجهادية: في ١٨٣٥ اتعملت إحصائية شاملة تبين منها إن الجيش اللي قوامه ١٨٠ ألف هرب منهم ٦٠ ألف، يعني التلت. ما أظنش إن فيه دليل أكبر من ده على كره المصريين للجيش وفورهم منه.
أيه السبب يا ترى؟ هل هو تخلف الفلاحين وعدم إدراكهم لعظمة مشروع الباشا؟ يمكن المسلماني يحب يقول كده. إنما أنا من واقع سجلات المحاكمات العسكرية اللي لقيتها في دار الوثائق فأظن أن الفلاحين حسبوها صح: الجيش ده مش بتاعنا، ولا الحروب دي بتاعتنا. دول مش ظباطنا ولا دول ناسنا. إحنا مذلولين ومقهورين ومنتزعين من أهالينا. بنذوق الذل والهوان كل يوم وياريتنا في الآخر عاجبين.
ده هو الجيش اللي المسلماني بيعتبره أول إنجازات محمد علي العظيمة.
أما تاني هذه الإنجازات، مذبحة المماليك، فالواحد فعلا مش عارف يبتدي منين. الموضوع لا يتعلق بالمماليك، وإذا كان المفروض الواحد يدافع عنهم ولا لأ. الموضوع أعمق وأهم من المماليك. الموضوع يتعلق بمشروعية استخدام مذبحة لتأسيس نظام سياسي، والأنكى من ده هو تبرير القتل والدم على أساس أن مصر “كانت أمام خيارين واضحين”، ودي كلمات المسلماني مرة تانية، “خيار التخلف الذي يحميه المماليك، وخيار التقدم الذي أتى به محمد علي تعليمًا وتفكيرًا وجيشًا وامبراطورية.”
أنا مش عاوز أعيد هنا تفاصيل المذبحة، فتفاصيلها موجودة في كتاب الجبرتي (أحداث صفر ١٢٢٦)، لكن أحب أقول كام تفصيلة مش معروفة على نطاق واسع:
اللي خطط للمذبحة محمد لاظ أوغلي اللي له تمثال في الميدان المعروف باسمه في القاهرة. لاظ أوغلي كان رجل المخابرات الأول عند محمد علي وكان عنده شبكة من الجواسيس اللي بيتكلموا عربي وتركي واللي كانوا بيتجسسوا على علية القوم وأسافلهم سواء بسواء. محمد لاظ أوغلي ده خدم محمد علي لربع قرن (مات سنة ١٨٢٧)، وهو العقل المدبر لمذبحة المماليك. وكان من شطارته إن حتى ولاد محمد علي، إبراهيم وطوسون، ما عرفوش عن المذبحة إلا لما انتهت. وطبعا من سخرية القدر (أو من طبائع الأمور ومما يدل على أن الدولة الوسخة دي لسه موجودة) فزي ما هو معرف، لاظ أوغلي دلوقت اسم مقر من مقرات أمن الدولة اللي بيتمارس فيه التعذيب باتظام. وبرضه من الملفت للنظر هو ثنائية الجيش والشرطة الموجودة من يوم تأسيس الدولة المصرية الحديثة لحد دلوقت : فبينما مهدت الشرطة، ممثلة في العقل المدبر محمد لاظ أوغلي، للمذبحة، اللي نفذ المذبحة فعلا كانوا حرس محمد علي وجيشه الخاص. ده أول هام.
أما تاني هام فالمذبحة ما كانتش مقتصرة على الـ٤٥٠ أمير مملوكي اللي اتقتلم في القلعة، ولا المملوك الشارد اللي نفد بجلده منها واللي الروايات الروماسنية العبيطة بتحب ترددها. الموضوع كان أخطر من كده بكتير، فبعد الأمراء دول ما اتقتلم (ودول كانوا سادة البلد وقتها أيا كان رأينا فيهم إيه دلوقت) محمد علي أعطى أوامره باستباحة بيوتهم وقصورهم. والنتيجة؟ حمامات دم لمدة أيام وأسابيع اتقتل فيهم الآلاف وأتأسر آلاف غيرهم وسُبيت الحريم ونُهبت القصور وصُودرت الممتلكات. وبعد ما خلصوا على العبيد في القاهرة، إبراهيم باشا جرد علي فلول المماليك حملة استغرقت شهور عديدة طاردهم فيها في الصعيد لحد حدود السودان.
ثالث هام: أنا دايما باعتبر الحدث ده هو البداية الحقيقية للدولة المصرية الحديثة. محمد علي بدأ ولايته الحقيقية مش بالتفويض الشعبي اللي قعد يتمانع فيه طويلا لحد ما اتنازل وكمّل جميله بقبوله (بيتسلبط علشان يتمكن)، ولا بفرمان التولية اللي جاله من الآستانة. ولاية محمد علي الحقيقية بدأت يوم ١ مارس ١٨١١ يوم مذبحة المماليك. يومها خلصت له البلد، وقضى على كل اللي كان ممكن يقول له ثلث الثلاثة كام، وبدل ما كان في البلد أكثر من بيت مملوكي بيحاربوا بعض صحيح لكن كمان بيعملوا توازن قوى فيما بينهم، ما بقاش في البلد غير بيت واحد بس، وسيد واحد بس، وولي نعمة واحد بس: محمد علي. وطبعا علشان محمد علي مش ممكن يحكم لوحده، حتى لو كانت قدراته خارقة، فكان لازم يعتمد على أعوان ومساعدين. دول كانوا النخبة بتاعته وطبعا كلهم يا أما بلدياته يا إما قرايبه يا أما أصهاره. كلهم بيدينوا بالولاء ليه وكلهم ما يقدروش يبصوا في عنيه ولا يحاسبوه على أي حاجة بيعملها ببساطة لأنه ولى نعمتهم. وشوية شوية أعضاء النخبة دي أخدوا إقطاعيات وأقاليم يحكموها، وعينوا مساعدين وكتبة، واتحط لهم قواعد ولوايح وقوانين. وهي دي اللي احنا دلوقت بنسميها الدولة المصرية الحديثة. طيب وأهالي البلد؟ ما هما كانوا فوضوه من ست سنين. أنتو نسيتوا ولا إيه؟ فبالتالي مفيش أي علاقة تعاقدية بين الحكام والمحكومين، والطبقة الوحيدة اللي كان ممكن تجمح جماح “الدولة” أبيدت ذبحا، حرفيا مش مجازا.
رابع هام: المذبحة كانت بشعة بكل المقاييس، حتى بمقاييس العصر. كثير نسمع واحد فلحوس يقول: ما ينفعش تحكم على عصر بمعايير عصر تاني. ده طبعا كلام عبيط. بس ماشي. حنحكم علي المذبحة بمعايير القرن التاسع عشر. حتى بالمعايير دي المذبحة كانت بشعة. إيه دليلي على كده؟ كلام محمد علي نفسه، أو بالأحرى صمته عنها. طول مدة حكمه الطويل (محمد علي حكم لمدة ٣٧ سنة بعد كده) عمره ما عرف يتكلم عن اليوم ده. في كل أحاديثه مع الرحالة الأجانب كان بيتحاشى الكلام عن المذبحة، وكان لما بيتسئل عنها يقول إن فيه حاجات كثيرة في ماضيه ما يحبش يفتكرها. والأهم من كده كان رد فعل مراته وأم ولاده، أمينة هانم. أمينة هانم امتنعت عنه وما خلتوش يلمسها لحد ما ماتت بعد المذبحة بـ ١٣ سنة.
مذبحة المماليك، يا أستاذ ملواني، حدث قذر بأي مقاييس وباستخدام أي معايير. قذارته وبشاعته في الأساس نابعة من إن أي المذبحة، تعريفا، حدث دموي بتروح فيه أرواح كثير بريئة. وحتى لو ما كانتش بريئة فلا يمكن تأسيس نظام سياسي بمذبحة. يمكن تأسيس نظام آه، لكن سياسي قادر على الصمود والبقاء لأ. أنا من دراستي لمحمد علي أظن أنه هو نفسه أدرك ده، وعظمته في رأيي تكمن في إدراكه إن رجل الدولة ما بيستخدمش إيديه في القتل. لو عمل كده يبقى رجل عصابات مش رجل دولة. محمد علي نجح في إن يعيد إنتاج نفسه من عُصبجي، لسياسي، لرجل دولة من الطراز العالمي. ده السر ورا عدم اعتزازه بمذبحة المماليك ورغبته الدفينة إنه ينساها، الرغبة اللي مراته العظيمة ما حققتهالوش.
أظن إنها مش صدفة إن المسلماني اللي كان بيسمي مذبحة المماليك “جريمة رائعة” وبيقول “أنني واحد ممن يرون أن بعض رؤى الإصلاح والتقدم لا تحتمل ترف الحوار والجدل والإقناع. كما أنها لا يمكنها أن تبقى طويلاً أسيرة حرب باردة بين الرأي والرأي الآخر” ــ مش صدفة إن هذا الشخص اللي بيعترف بعدم تقديره لقيمة الحوار والجدل يبقى هو المستشار الإعلامي للطرطور عدلي موكوس. مفيش تعبير عن وكستنا وعن النكسة الخطيرة اللي أصابت ثورتنا من إن يكون المتحدث الرسمي للرئاسة واحد زي المسلماني كتب المقالة دي اللي بيفتخر فيها بعمل دموي قذر واللي بتُظهر حقيقة أولوياته: السيف أصدق أنباء من الكتب. واللي بيزيد الطين بلة إن مقالة زي دي وإن كانت اتكتبت من سبع سنين إلا أنها بتعبر عن العقلية البائسة الراهنة، فبعد مذبحة تانية أبشع وأقذر من مذبحة المماليك لسه الحكومة بتاعتنا ما عندهاش لا أفق ولا رؤية ولا حلول ولا إنجازات. كل اللي الحكومة دي قادرة عليه هو القبض والتعذيب والقتل والدم. حكومة عُصبجية وقتالين قتلى.
يا أهلا بالمذابح.