Press "Enter" to skip to content

مصر والفنون الحرة

نُشر في “الفنار للإعلام” في ٢٤ سبتمبر ٢٠١٣

عاد خالد فهمي، أستاذ ورئيس قسم التاريخ في الجامعة الأميركية في القاهرة، إلى مصر قبل اندلاع ثورة كانون الثاني/يناير عام 2011 بعد 11 عاما من التدريس في جامعة نيويورك. وكحال العديد من زملائه وأصدقائه، جذبه إلى مصر طاقة الشباب المصري الواعد.  ومنذ ذلك الحين، تحول فهمي إلى  ناقد صريح للحكومة أثناء المرحلة الانتقالية السياسية في مصر، وكثيرا ما تحدث إلى وسائل الإعلام العالمية وكتب العديد من المقالات لمجلة الأهرام أون لاين الرائدة باللغة الانكليزية. وفي الآونة الأخيرة، صرح فهمي في أحد البرنامج التلفزيونية أن على مصر التخوف أكثر  من اللواء عبد الفتاح السيسي، قائد الجيش ذو الشعبية الواسعة والذي قاد عملية الانتقال السياسي في مصر، من جماعة الاخوان المسلمين المطرودة.

“مع السيسي لدينا شيء أكثر تشاؤما وخطورة”، قال فهمي  في لقائه مع برنامج “فرونتلاين” من شبكة “PBS” التلفزيونية،  “يبدو أن هذا الشخص لديه أشياء أكثر جدية يجب أخذها في الاعتبار”.

ولدى مناقشة التعليم العالي، يحافظ فهمي على صراحته المطلقة.

هذا الشهر، تحدث في ندوة بعنوان “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: جيل جديد من التغيير”، ضمن  الاجتماع السنوي للرابطة الأوروبية للتعليم الدولي، في اسطنبول. وتلخصت ملاحظات فهمي في الدعوة إلى تعليم الفنون الليبرالية في مصر والعالم العربي بشكل أوسع، حيث يعتبره واحدا من الجوانب الأكثر أهمية في تثقيف الجيل الجديد وتعزيز التفكير النقدي.

 وفي الوقت الذي يبدو فيه في تعليم الفنون الليبرالية الفنون نموذجا مقبولا في المنتدى العالمي، إلا أنه لا يزال أبعد من أن يناقش عادة في مصر. بعد فترة وجيزة من مؤتمر في اسطنبول، تحدثت إلى فهمي تفصيليا حول العقبات التي تحول دون تعليم الفنون الليبرالية في العالم العربي.

 ماذا يمكن أن يقدم تعليم الفنون الليبرالية للمؤسسات التعليمية في مصر، في ضوء كل القيود الحالية؟

 يجب أن يكون هناك إعادة تركيز أساسي على ما يحتاجه البلد، ما هو الغرض من التعليم العالي، وكيف يمكن للجامعات أن تخدم سوق العمل بالفعل، ليس فقط من خلال تقديم خريجين بشهادات مهنية، ولكن ايضا بمهارات للكتابة الواضحة، التفكير النقدي والقدرة على التعبير الذاتي بشكل مقروء.  هذه هي المهارات التي يحتاجها سوق العمل وأي صاحب عمل. ويمكن الحصول عليها مع شهادة البكالوريوس في الفلسفة والأدب أو التاريخ وأكثر بكثير من شهادة البكالوريوس في الهندسة أو الطب. ولكن هذا التحول في طريقة التفكير لا يحدث، ذلك أن هذا النقاش لا نجريه في مصر، إنه ببساطة ليس على جدول الأعمال.

 حتى داخل الأوساط الأكاديمية نفسها، لا يعد هذا جزءا من جدول الأعمال؟

 على الإطلاق. حتى في الجامعات، أعضاء هيئة التدريس يشعرون بالقلق من أعداد الطلاب الكبيرة، تدخل الأمن [الخدمات]، ويشعرون بالقلق كذلك إزاء الأجور الهزيلة. لكنهم ليسوا قلقين من عدم وجود الفكر النقدي. إنهم يعتقدون أن هذا بسبب الأعداد الكبيرة. وهذا بالفعل أحد الأسباب إلى درجة كبيرة. لكنه أكثر بسبب أسلوب تصميم المناهج الدراسية. حتى لو كان لدينا أرقام أقل من ذلك بكثير، سيبقى لدينا هذه المشكلة إذا لم نعالج تصميم المناهج وفلسفة التعليم.

 ذكرتم في مؤتمر اسطنبول أن عدم وجود التفكير النقدي يرتبط بصعود التطرف وعدم التسامح في الخطاب العام في مصر. كيف ذلك؟

 هذا سؤال كبير جدا. إذا كنت تدرب الطلاب بمثل هذه الطريقة بحيث لا ينتقدون النصوص التي يقرأونها، وأنه ليس هناك سوى طريقة واحدة لقراءة شكسبير، وأنه هناك تفسير صحيح واحد فقط للأحداث التاريخية – فإنك تكون تدرب الناس على قبول التقليد بطريقة غير نقدية. ليس لديهم المهارات الضرورية لتكوين رأي مستقل. والنتيجة هي أن المواطن غير قادر على اتخاذ رأي مستقل وهو مدين بالفضل دائما إلى السلطة. وهذا يعكس سلوكا ذاتيا متحجرا جدا، وغير متسامح في السياسة، الدين، العلاقات بين الجنسين والسلطة الأبوية. إنك تنشئ طلابا ليسوا مواطنين صالحين، غير قادرين على تكوين آرائهم  الخاصة أو على الوقوف ضد السلطة أو على مواجهة مسؤوليتهم كصناع للقرار الحر.

 بالطبع لهذا تداعيات هائلة. التطرف الديني ما هو إلا جانب واحد منها. ولكن عندما تذهب للخدمة المدنية، ستواجه نفس المشكلة. كل هذه المبادرات الجديدة المثيرة للاهتمام في السياسة، الفنون، والأدب تظهر الآن على الرغم من التدريب الذي يحصل عليه الناس في الجامعات. فالجامعات أو المؤسسات العامة لم تولّد أفكارا جديدة مثيرة للاهتمام في أي من هذه المجالات.

 إن ثقافة الشباب التي أنتجت هذه الثورة التي شهدناها ليس لها أي علاقة مع مؤسسات الدولة الرسمية، سواء الجامعات أو وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية الرسمية. هؤلاء هم الناس الذين تمردوا من خارج مؤسسات الدولة. الجامعات وبهذا المعنى لا تزال متأخرة، وليس خلف الجامعات الغربية أو المعايير الدولية، ولكنها متأخرة خلف مجتمع الشباب، وطاقته وتفكيره الحيوي في مصر.

 ما هي العناصر الأخرى لتعليم الفنون الليبرالية والتي تحتاجها مصر حاليا؟

 من حيث الأنشطة من خارج المنج الدراسي، ليس لدينا مجتمعات نقاشية في المدارس أو الجامعات المصرية. القدرة على الاستماع أو إبداء رأي لا تتوافق معه هي مهارة مطلوبة للغاية. اذهبي إلى أي جامعة مصرية، بما في ذلك جامعة القاهرة، وحاولي دخول المكتبة. لا تعكس المكتبات طريقة تدريب الطلاب المصريين. غالبية هؤلاء الطلاب لم يزورا المكتبة لأكثر من مرة واحدة طوال سنوات الأربع من تخصصهم. لا يقوم النظام التعليمي على تكليف الطلاب بمهام زيارة المكتبة لقراءة كتاب وكتابة مقال.

أحد الأسباب هو التمويل، ولكن هذا جزء من الإجابة عن السؤال. إنه أعمق من ذلك بكثير. هناك كتاب وضعه أستاذ وكلّف الطلاب بقراءته. وهذه إحدى الأساليب الرئيسية التي يكسب منها الأستاذ المال، من خلال بيع كتابه للطلاب. أما ما يجعل الأمور أكثر سوءا هو أن الكتاب ملخص على شكل كتيبات صغيرة تسمح للشركات التي تنتجها بجني أرباح طائلة. وفي نهاية الأمر، يشتري الطلاب الكتاب الجامعي ويحفطونه عن ظهر قلب مع الملخصات. وهذا هو مسار العملية التعليمية.

 أنت تصف حالة الجامعات الحكومية في مصر؟

 معظم الجامعات الرسمية؛ الجامعة الأميركية حالة مختلفة. تشكل المكتبة في الجامعة الأميركية بالقاهرة جانبا مهما جدا في كيفية تدريب الطلاب منذ اليوم الأول من حياته الجامعية. كما أنه لا يوجد لدينا في الجامعة الأميركية كتب جامعية على هذا النحو. إذ أنه يشبه أكثر أنظمة الولايات المتحدة وأوروبا.  ولكن ليس بهذه الطريقة يتم التعليم في جامعة القاهرة، على سبيل المثال. لا يوجد أوراقا بحثية. لا يوجد مكان للمكتبة في الهيكلية التعليمية.  إنها طريقة دراماتيكية لأسلط الضوء على ما أعنيه بعدم تعلم الفنون الليبرالية. هذه الجامعات ليس لديها مكتبات. وإن كانت تضم مكتبات فهي غير محدّثة ووهناك مكتبات لا أحد يدخلها.

 فيما يخص التعاون الدولي، هل يعد إدخال نموذج الفنون الليبرالية الأجنبي تهديدا للسلطة؟

 لا أعتقد أن فكرة التعاون الدولي ينظر إليها بازدراء. هنالك تجارب ناجحة جدا. ولكن أنا شخصيا أشعر أن العديد من مشاريع التعاون هذه تشبه محادثات الصم. يعني أنه لا يوجد حوار لأن طبيعة هذه الجامعات مختلفة جدا.

 ما ينظر إليه بعين الشك ليس المستوى الجامعي، ولكن على المستوى المدرسي هناك محاولات من قبل الوكالات المانحة للعبث بالمناهج الدراسية. هنا تصبح القضية حساسة. يعتقد الناس أن الوكالات المانحة، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي تتدخل بمحتويات المنهج وكيفية تدريس الشباب المصري.

 ما الذي يمنع نموذج الفنون الليبرالية من النجاح في مصر؟

 إنه سؤال جيد. ببساطة، هذا نظام مغلق من الصعب جدا أن تؤثر فيه أية تغييرات. المشكلة هي المال وعدم وجود إرادة سياسية من أي شخص، وليس فقط وزير التعليم. حتى الليبراليين في المعارضة المصرية لا يعتبرون هذا أولوية. هذا ليس على جدول الأعمال في مصر.

هل هناك فترة في التاريخ المصري لعبت خلالها الجامعات دورا أكثر نشاطا بحيث يمكن للمؤسسات الحالية استخلاص الدروس منها، على سبيل المثال فترة طه حسين؟

 سيجيب كثير من الناس بنعم. ولكني أود الإجابة بكلا. العديد من الناس لديهم الحنين إلى ما يسمى بـ”العصر الليبرالي” في مصر. لكن توفير منح دراسية حقيقية للطلاب مثل حسام رأفت [طالب دكتوراه في جامعة ماكجيل] أو غيره من الباحثين الذين يدرسون التربية.. هذا المشهد السياسي سيشكك بهذه المنح في هذه الفترة.  أنا لا أعتقد بوجود وقت كانت فيه الجامعات المصرية مراكز لتنمية التفكير النقدي. كان هناك عصرا ذهبيا للسينما المصرية، الروايات المصرية، هذا كله صحيح. لكن ذلك لم يكن نتيجة نمط مختلف من التعليم الذي وضع آنذاك. لطالما كان كذلك.

 ماذا عن دور الدين في الخطاب العام والتعليم، وما هو الدور الذي يمكن أن تقوم به الجامعات في تعزيز هذا النقاش؟

 أفضل التقليل من الفجوة العلمانية والدينية. إنه مثير للاهتمام مشاهدة ما حدث ويحدث في مصر منذ 30 حزيران/ يونيو. وقد اعتمد بعض العلمانيين مواقف متعصبة أكثر من أولئك أصحاب التحجر الفكري.  إن عدم وجود تفكير نقدي، عدم وجود الثقة هي من صفات الليبرالية المصرية بقدر ما هي صفة خطباء الدين من الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية وغيرها من المجموعات الإسلامية. إنها سمة من سمات الطبقة المثقفة المصرية في جميع المجالات، ولا تقتصر على الشخصيات الدينية. هنالك شيء أعمق من ذلك بكثير يحتاج المساءلة أكثر من الانقسام الديني-العلماني.

 والجامعات لديها دور كبير [في هذا]. أفضل شيء هو إقامة هذا النوع من التربية، سواء في العلوم، التاريخ أو الأدب. طالما لم يتم ذلك، سوف نستمر في العثور على الأشخاص الذين يتم تدريبهم ليمجدوا الأجداد، ويجلوا التقاليد ويتميزون بعدم انتقاد السلطة. وهذه هي المشكلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.