مقال لعمرو عزت نُشر في “المدن” في ١٧ يونيو ٢٠١٣
فيما تتصاعد المعركة على وزارة الثقافة في مصر، لا يمكن تجاهل غواية المقارنة بين شخصين يحملان الاسم نفسه، وأصبح الخلط بين شخصيهما من مفارقات المعركة: خالد فهمي، المؤرخ ورئيس قسم التاريخ في الجامعة الأميركية… وخالد فهمي، أستاذ الأدب في جامعة المنوفية الذي أصبح رئيساً لدار الكتب والوثائق القومية قبل أيام.
تعرفت إلى خالد فهمي – المؤرخ، للمرة الأولى، عبر كتابه “كل رجال الباشا“، الذي حاول فيه قراءة تأسيس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد علي، مستعيناً بوثائق عن تفاصيل حياة جنود الجيش المصري الذي كان وقتها قد التشكّل والتأسيس. كان الكتاب محاولة لقراءة التاريخ في شكل مقلوب: ماذا حدث للناس فيما الدولة تتأسس وتشد عودها، خصوصاً أولئك الذين كانوا وقود جيشها. حاول المؤلف السير بعكس اتجاه التأريخ القومي الذي ينظر من علٍ ويهتم بحسابات القوة والمصالح والتوازنات بين الأمم والدول.
أما المرة الثانية، فكانت ضمن ورشة للنقد الثقافي. شاركنا خالد فهمي قراءة وثيقة حول تفاصيل الاشتباه في تعذيب أحد الأعيان لخدمه، وذلك في سياق اهتمامه بالوثائق التي تلقي الضوء على تطور الطب الشرعي وعلاقته بالقانون وما مثّله من نظرة مختلفة للجسد وعلاقة السلطة به وحدودها في التعامل معه، وهو ما يظهر في كتابه الآخر “الجسد والحداثة: الطب والقانون في مصر الحديثة” الصادر عن دار الكتب والوثائق.
في العام ٢٠١٠ ترك خالد فهمي التدريس في جامعة نيويورك وقرر العودة إلى مصر. وفي حوار مع “أخبار الأدب”، قال: “هناك شيء ما يحدث في مصر الآن وأحب أن أكون جزءاً منه”. ومنذ ذلك الحين، كان جزء من وجوده هنا هو أن يحرضنا كل فترة على الانضمام إلى قضيته كباحث في التاريخ، أن نرفع أصواتنا كباحثين وصحافيين ومدوّنين للمطالبة بحقنا – وحق كل فرد – في الإطلاع على وثائق تاريخية مهمة تخص تطور المجتمع والدولة في مصر، فنُساهم في كسر أو تخفيف الحس الأمني الذي تُدار به دار الوثائق القومية، من فوق مديريه أو من خلالهم، ربما بهدف حماية “النظام” في مصر من “المعلومات” التي تحملها وثائقه.
ثم انطلقت ثورة كان شعارها الأول “الشعب يريد إسقاط النظام”. والتقيت خالد فهمي، أستاذ الأدب بجامعة المنوفية، على طاولة مستديرة نظمتها “أخبار الأدب” أيضاً، حول رؤية التيار الإسلامي للثقافة وحدود حرية التعبير. دُعيت بصفتي مدوّناً وباحثاً مهتماً بحرية التعبير. وبعدما قدّم خالد فهمي نفسه باعتباره عضواً في حزب “الحرية والعدالة”، وقدّم نادر بكار نفسه باعتباره متحدثاً باسم “حزب النور”، اعترضا على وجودي ووجود أشرف الشريف، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، قائلَين أن الحوار يجب أن يكون بين ممثلين لأحزاب وتيارات.
هدأت حماقة ممثلي التيار الإسلامي وصفاقتهم، بعد وقت ضائع وجهد مضن من مديرَي اللقاء اللذين حاولا عبثاً الشرح بأن هذه الندوة مخصصة لمناقشة ممثلي التيار الإسلامي في رؤاهم لحرية التعبير، وأننا لسنا في مناظرة حزبية، لكن يبدو أن الضيفَين الإسلاميَين لا يريان عالم اجتماع الناس مجالاً للاهتمام بتوسيع حدود الحرية وتوكيد الحقوق، بل لمنافسات القطعان على امتلاك المجتمع والدولة ورسم حدود الحرية. وكان هذا بالفعل مدخل خالد فهمي – الإخواني، للحديث عن حرية التعبير. إذ حرص على التأكيد أنه لا توجد “علمياً” حرية مطلقة، بل ثوابت، وأنه يجب على الجماعة/القطيع وضع حدود لممارسة الإبداع وإنتاج الأفكار لحماية هذه الثوابت.
في هذا الاتجاه دفعت جماعة الإخوان المسلمين وحزبها، ترتيبات الحياة السياسية، لتصل إلى الانسداد الحالي. فكان من الضروري، في السياق هذا، أن يضع الإخوان وزيراً “إسلامياً قومياً” على رأس وزارة الثقافة، ليُعيّن بدوره خالد فهمي – الإخواني، رئيساً لدار الكتب والوثائق. عندما ظهر خبر التعيين في الأخبار، ظن كثيرون – وبعض الظنّ وهم – أنه خالد فهمي، المناضل من أجل إتاحة الوثائق وحرية الإطلاع على المعلومات. لكن، بالطبع، وصل التصحيح سريعاً: إنه خالد فهمي الإخواني، المهتم بحماية الثوابت والهوية وبزرع الأسلاك الشائكة حول وثائق مصر.
كتب خالد فهمي المؤرخ على صفحته، ردّاً على الخلط بين اسمه وخالد فهمي الآخر، وليحاول القول بأن “الأخونة” ليست حجر الزاوية في مشكلتنا مع السلطة والإدارة، بل إنهاء مرحلة الوصاية على وثائقنا. غير أن خالد فهمي الآخر أكد، في تصريحاته الأولى، أننا نعيش مرحلة مضطربة، وأنه سيشدد إجراءات الإطلاع على الوثائق، ثم طالب الجيش بترشيح أحد رجاله المتخصصين ليساعده في ذلك. وكان كلامه بمثابة رد على خالد فهمي المؤرخ: “الأخوَنة” هي المرحلة الجديدة من الوصاية.
ليس الهدف منه هذه المقارنة مديح خالد فهمي المؤرخ، أو ازدراء خالد فهمي الإخواني، رغم أني أقصد ذلك. ولا الهدف هو المقارنة بين مرشح لائق لمنصب في مقابل مرشح آخر. لكنها مقارنة كاشفة عن موقع ما، يمثله كل منهما. ليسا مجرد مَيلَين سياسيَين يتصارعان. هما طريقتان في التفكير في الاجتماع الإنساني وعلاقته بالمعرفة.
خالد فهمي المؤرخ، إذ يقرأ الوثائق ويطالب بإتاحة ما فيها، يحمل همّ باحث فرد، يبحث عن حقه وعن حريته، وحق وحرية كل المصريين في أن يكون بمقدورهم تأمل نقدي في تاريخ اجتماعهم ومجتمعهم ودولتهم والسلطة التي تحاول أن تدير ذلك كله. وخالد فهمي الإخواني، همّه حراسة “الثوابت” و”النظام” والذود عن هذه الحدود، وممارسة السلطة بعين زائغة ومتشككة في “الناس” وفي حركتهم المطالِبة بالحرية والحقوق – والتي يسميها اضطراباً – خشية أن يكون بينهم أعداء داخليين وخارجيين يتآمرون على مستقبل هذه السلطة التي أهدته كرسيّه.
الصورة الأكبر للصراع في مصر ليست بالضرورة بين كتل سياسية منظمة. وما يريده قطيع الإخوان هو رسم صورة للصراع على طريقتهم: “صراع القطعان”. لكن وراء تلك الصورة الرديئة، هناك لوحة معقدة من الصراعات، يمكن أن نرى فيها كل ما يمثله خالد فهمي المتطلّع إلى زيد من الحرية والمعرفة، متمرداً وحانقاً على كل ما يمثله خالد فهمي الآخر باعتباره جندي حدود الثقافة والهوية والنظام العام.
الخبر الجيد أن الكثيرين ممن يمثّلون ما يمثّله خالد فهمي الأول، احتشدوا مثله ليكونوا جزءاً مما يحدث. ربما لا يكونون في متن المشهد باستمرار، لكنهم في الهامش الذي يطرح اتساعه معنى آخر لاجتماع الناس… غير صراع القطعان.