نُشر في “فيسبوك” في ١١ يونيو ٢٠١٣
أتستغيثون بالجيش يا مثقفي مصر؟
التليفون لسه بيرن. “يا دكتور خالد، عاجبك اللي بيحصل ده في دار الكتب والوثائق؟ الإخوان بيحكموا سيطرتهم على الدار ومفيش حد قادر يوقفهم. أربع قيادات مرة واحدة؟!!! يقيل أربع قيادات في دار الوثائق مرة واحدة؟ ده بعد ما شال أحمد مجاهد وإيناس عبد الدايم وصلاح المليجي؟”
الأصدقاء يقولون إن الوزير الجديد، علاء عبد العزيز، فلتت منه بعض الكلمات دون قصد منه في لقائه مع فناني الأوبرا: “أنا جاي لي تعليمات ولازم أنفذها”.
ما هي هذه التعليمات؟ بجانب التمكين، ما الذي يقصده إخوان (على رأي مسعد أبو فجر) من وزارة الثقافة ومن دار الوثائق تحديدا؟
هذه جماعة سرية، تعمل في ضبابية ولا تعترف بالشفافية أو المصارحة أو المشاركة السياسية. وبالتالي فمن الضروري التوجس منها.
أيضا هذه جماعة ترتاب في الفنون، من باليه وأوبرا وموسيقى ورسم، ويبدو أنها بدأت بالفعل في اتخاذ إجراءات تهدف إلى تضييق الخناق على هذه الفنون.
ثم هذه جماعة على راسها بطحة، تاريخها ملوث بالدماء وفيه الكثير مما لم يعترف به أعضاؤها من شباب وكهول، ما بالنا الاعتذار عنه.
ومن هنا التوجس تحديدا من هذه الهجمة على دار الوثائق. فالدار فيها الكثير من الوثائق المتعلقة بإخوان من أول قرار حل الجماعة إلى وثائق كثيرة أخرى تتعلق بها صادرة من البوليس السري ورئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء وغيرها من الجهات. د. عبد الناصر حسن، الذي سبق د. خالد فهمي كرئيس لدار الوثائق والكتب القومية، نفى أن يكون أحد من إخوان قد اتصل به ليطلب وثائق عن تاريخ الجماعة، ولكن يظل التخوف مما قد تفعله هذه الجماعة السرية في الوثائق المتعلقة بتاريخها.
هذا عن دار الوثائق. أما دار الكتب (التي يجب توضيح أنها مختلفة تماما في محتوياتها ورسالتها وطبيعتها عن دار الوثائق) ففيها أيضا الكثير مما يتوجس منه إخوان. فدار الكتب فيها الكثير من المخطوطات الفارسية والتركية والعربية التي لم تنشر أبدا والمتعلقة بالشيعة وبالتشيع. هناك أيضا تفاسير للقرآن لا تتفق مع ما يعتقد إخوان، بضحالة فكرهم وضيق أفقهم، أنه الدين الصحيح. ومن هنا التوجس الآخر مما قد تقوم به هذه الجماعة، التي يهيمن عليها تيار قطبي متزمت، في المكتبة الوطنية الأولى في منطقة الشرق الأوسط كله ومن أهم دور الكتب في العالم.
لذلك فأنا أضم صوتي لصوت الكثير من المثقفين والكتاب والأدباء والفنانين المعتصمين في وزارة الثقافة والذين لديهم أسباب قوية للتخوف من أخونة الوزارة وأخونة الثقافة وتحديدا أخونة داري الكتب والوثائق القومية .
ولكني وإن اتفقت مع هؤلاء المثقفين في تشخيص الداء إلا أني اختلف معهم، وبشدة، في توصيف الدواء.
المعتصمون أصدروا بيانا ناشدوا فيه الجيش “سرعة التحرك وإنقاذ تاريخ مصر بتشكيل لجنة محايدة ومتخصصة للإشراف على دار الوثائق”.
الجيش يا مثقفي مصر؟؟؟ الجيش اللي نزلنا نهتف ضده في ميادين التحرير؟ الجيش اللي عرى أخواتنا وبناتنا في الشوارع؟ الجيش اللي عرض أشجع وأطهر من فينا لكشوف عذرية؟ الجيش اللي ضربنا بالرصاص وبخراطيم المياة؟ الجيش اللي مستشفياته اتعمل فيها عمليات على المتظاهرين من غير بنج ومن غير معقمات؟ الجيش اللي خطف المتظاهرين وأخفاهم؟ الجيش اللي مخابراته وأمنه القومي بتتحكم في دار الوثائق وفي البحث العلمي وفي الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، اللي بدوره بيقتل البحث العلمي في البلد؟ الجيش اللي حكمنا لمدة ستين سنة منع فيها الحريات وخرب فيها البلد وودانا في الوكسة اللي احنا فيها ده الوقت؟
الجيش يا مثقفي مصر؟؟؟؟
وبعدين سيبتوا لإخوان إيه؟ أهو خالد فهمي مدير الدار الجديد زايد عليكم وناشد السيسي بأن يرشح له “قيادة عسكرية متخصصة فى الوثائق”.
خايفين م الإخوان؟ ماشي ومشروع. إنما نتحامى من إخوان في الجيش؟؟ ده اسمه كلام؟ صحيح ما اسخم من ستي إلا سيدي (وقصدي هنا إخوان والجيش). وداوني بالتي كانت هي الداء. ونطلع من حفرة، نقع ف دحديرة.
من أول يوم في هذه الثورة ونحن نعترض على هذا الخيار البائس: إما إخوان أو مبارك. مورسي أو شفيق. أنا أرفض هذا الخيار، وأظن أن هذه الثورة ترفضه أيضا. وما حملة تمرد إلا تعبير جلي عن هذا الرفض. نحن كشعب نستأهل أحسن من هذا بكثير، ونقدر عليه أيضا.
لذلك أنا أرفض أن نستنجد بالجيش، الذي هو سبب أساسي وعميق لتردي دار الوثائق الآن وليس بعد أن يتحكم إخوان فيها.
محتويات دار الوثائق ليست ملك الإخوان. كما أنها ليست ملك الجيش. محتويات دار الوثائق ملك الشعب وهو الوحيد القادر على صيانتها والحفاظ عليها.
كيف؟
لنؤجل هذا السؤال قليلا حتى نتبين ما الذي نتحدث عنه.
الأستاذة سكينة فؤاد أرسلت استغاذة أمس تطالب فيها كل من يهمه الأمر التحرك للحفاظ على مقتنيات دار الوثائق. دار الوثائق، حسب رأي الأستاذة سكينة فؤاد بها “مستندات وخرائط ومخطوطات تتعلق بأحقية مصر في حلايب وشلاتين… مستندات وخرائط ومخطوطات تتعلق بطابا وسيناء ….. مستندات وخرائط ومخطوطات تتعلق بحوض نهر النيل …..مستندات وخرائط ومخطوطات تتعلق بحدود مصر مع ليبيا ….. مستندات تدين تاريخ الإخوان المسلمين”.
هذه هي مقتنيات دار الوثائق التي تخاف عليها الأستاذة سكينة فؤاد وتخشى سرقتها أو ضياعها على يد إخوان.
ومرة أخرى أقول هذه مخاوف مشروعة.
ولكن ما الذي تضمه دار والثوائق غير هذه النماذج التي أشارت إليها الأستاذة سكينة فؤاد؟
عندما نقول إن دار الوثائق “ذاكرة الأمة”، عما نتحدث؟
دار الوثائق فيها الآلاف من سجلات المحاكم الشرعية التي تتناول قضاياها شتى تفاصيل الحياة الجتماعية والاقتصادية والثقافية في مصر من أوائل القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
من ضمن هذه القضايا، قضية الحرمة توزر التي رفعت قضية على زوجها متهمة إياه أنه ضربها وكسر ذراعها وطالبته بتعويض مالي عن فعلته تلك. وكسبت القضية. كان ذلك في عام ١٦١٠.
ومن ضمن هذه القضايا أيضا قضية الحرمة أم الخير بنت محمد بن وفا النشار التي طالبت فيها بخلع زوجها المتغيب عنها غيبة شرعية، والتي حكمت لها المحكمة بالخلع ومكنتها من نفسها تمكينا شرعيا. كان ذلك في عام ١٥٨٠.
دار الوثائق بها أيضا مكاتبات الإدارة المصرية الحديثة التي أُسست في القرن التاسع عشر والتي تفوق في دقتها وحجمها ما تحتويه الكثير من دور الوثائق في العالم.
من ضمن عشرات الآلاف من هذه الوثائق يمكننا أن نقرأ عن تاريخ الأرياف والمديريات من ري وصرف وأمن وتجارة واقتصاد وضرائب وسخرة وتجنيد وصحة.
ومن ضمنها أيضا معلومات عن تاريخ القاهرة وتحديثها على يد علي مبارك والخديو اسماعيل. ومن يريد أن يعرف كيف ومتى ولماذا أخذت القاهرة شكلها الحديث فالدار لديها العديد والعديد من الثوائق في هذا الموضوع.
دار الوثائق بها ملايين الوثائق عن النظام القضائي المصري، وكيف تطور، وكيف بنى على ما سبقه من فقه وقضاء شرعي، وكيف استقى من الغرب بعض من نماذجه وصهرها مع تراثه الفقهي بشكل يصعب على أفقه المتأسلمين تخيله.
دار الوثائق فيها عشرات الآلاف من وثائق الصحة العامة التي توضح كيف استطاعت الإدارة الصحية المصرية أن تتحكم في الأوبئة من كوليرا وطاعون، وكيف استحدث أول مشروع قومي في المنطقة للتطعيم ضد الجدري، وكيف نجحت الإدارة المصرية في إجراء أول إحصاء حديث للسكان، رصد الأشخاص وليس فقط البيوت. كان ذلك عام 1848.
دار الوثائق تحتوي على الآلاف من سجلات الشرطة والمحاكم الأهلية التي تلقي الضوء على حياة المصريين اليومية بشكل يصعب على خيال أبدع مبدعينا تخيله. هناك قصة الخواجة اسمعلون اليهودي من الإسكندرية الذي نصحه تاجر مغربي بأن قال له إنه إذا دفع له في اليوم الواحد مبلغ كذا من القروش سيدله على بيت خرب في المدينة يحتوي على أربع زلع كل واحدة منها تحتوي على زمرد وألماس وذهب وفضة. وبعد أن دفع اليهودي للمغربي شيئ وشويات وبعد أن عثروا بالفعل على الزلع، اكتشف أن الزلع مملوئة تراب وزلط. كان ذلك عام 1857.
من ضمن هذه القضايا أيضا قضية الشاب سرور الذي فار دمه عندما رأي رفيقته، الحرمة حسنة من الفواحش، تتحدث مع رجل قبطي وعندما نهرها قالت له “القبطي يساوي اتنين منك”، فما كان منه إلا أنه أمسك برقبتها واحكم قبضته حتى فاضت روحها، فانهار في البكاء والنحيب. كان هذا في عام 1861
من ضمن هذه القضايا أيضا قضية العجوزين بسطاروس يوسف واسحق طانيوس الذي أمرهما الحكمدار، على بهجت، بهدم جدار، وعندما بدا له أنهما يتكاسلان أخذ في جلدهما. وعندما لم يتأوه أحدهما، بسطاروس، لأنه كان أبكم ظن بهجت أنه يتحداه باصطناع القوة فزاد عليه الضرب حتى مات، فما كان من أهل البلده كلها إلا أن أغلقوا مداخل القرية كلها ورفضوا استلام الجثة حتى يوقعوا الكشف الطبي عليها ويدينوا علي بهجت.
دار الوثائق فيها الملايين من هذه القصص والروايات والقضايا والسجلات والوثائق المتعلقة بتاريخنا كشعب وكأمة وكأفراد، وليس فقط كدولة أو حكومة.
دار الوثائق فيها تاريخنا نحن، أنا وأنت، ويجب علينا الإقبال عليها والاطلاع على ما فيها.
دار الوثائق مفيدة ليس فقط للأمن القومي حتى يحافظ على الحدود ومنابع النيل، بل أيضا مفيدة للباحثين وللروائين وللشعراء ولكتاب السيناريو وللمهندسن والأطباء ومخططي المدن ولموظفي الحكومة وللمحامين وللقضاة الذين يرغبون في الاستزادة من تجارب الماضي كل في مجال عمله وتخصصه.
ولكن دار الوثائق، على غناها يرتادها في اليوم الواحد أقل من عشرة باحثين.
السبب ليس الإخوان، ولكنه الأمن. الاطلاع على وثائق تاريخنا المحفوظة في دار الوثائق يتطلب تصريحا من الأمن القومي والأمن الوطني. هذا التصريح يستغرق الأسابيع بل الشهور، وقد يأتي وقد لا يأتي. والنتيجة هي ما قلت: دار الوثائق ميتة بالفعل، ليس بسبب الإهمال أو السرقات أو الإهمال، بل بسبب قلة عدد مستخدميها.
ثم زيد على هذه الكارثة كارثة إخوان، والتخوف الذي في محله بالفعل مما قد تقوم به هذه الجماعة السرية المحافظة في الوثائق والسجلات والمخطوطات الفريدة.
ما العمل إذن؟
بالطبع ليس الاستعانة بالجيش فهو مكمن الخطر وأس البلاء.
الحل يكمن في الإتاحة، أي إتاحة الوثائق للباحثين.
ما الفائدة من وجود ملايين الوثائق التي لا يطلع عليها أحد؟ دار الوثائق لا تحتوي فقط على “معلومات”. دار الوثائق تحتوي على بيانات يمكن أن تنتج معرفة وثقافة وفنا وعلما. ولكن هذا يستدعي ولوجنا لمصادر المعرفة تلك، أي الوثائق.
الحل يكمن في التخلي عن إجراءات الأمن المتبعة، وفتح الدار للجمهور من باحثين وغير باحثين. الحل يكمن في إصدار قانون حرية تداول المعلومات الذي صيغ بالفعل والذي يتيح للمواطن الوصول لأي معلومة يريدها، وليس فقط المعلومات التاريخية، بعد توضيح المحاذير التي تمنع الإفصاح عن المعلومة أسباب قهرية. القانون معد وجاهز، ولكن “الجهات الأمنية” لها تحفظات عليه وإخوان لا يريد الدفع به لمجلس الشورى.
الحل لا يكمن في مزيد من القيود (وهل دخول الجيش سيعني أي شيء آخر؟) بل في التقليل من هذه القويد.
حال مثقفينا الذين يستنجدون بالجيش لحماية دار الوثائق كحال صاحب الشقة الذي يملك شقة تحتوي على درر وكنوز، فخوفا منه على مقتنيات شقته أحكم غلق بابها ووضع الأقفال السلاسل، وزاد بأن وضع بابا حديديا لمنع اللصوص من دخول الشقة. ثم ارتاب في بواب العمارة الذي على علم بمحتويات الشقة والذي يخطط لسرقتها، فاستعان بظابط الشرطة بلدياته حتى يأمر بوضع حارس على الشقة، هذا مع معرفته أن الضابط عينه على الشقة هو الآخر وسجله في النصب والاحتيال مستعينا بمنصبه القوي سجل طويل وحافل بالمخالفات. وطوال هذا الوقت الذي يضع فيه صاحب الشقة الأقفال ويعين البواب ويستنجد بالظابط بلدياته المية ناشعة في الحمام وسارحة ع الأنتريه والصالون مغرقة الشقة كلها من سجاد وعفش وتحف.
كان أمام صاحبنا حل آخر بسيط لم ينتبه له: فتح الشقة والانتقال لها والسكن فيها والاستمتاع بمحتوياتها. وإذا لزم الأمر يجيب أهله وأصهاره يقيموا معه ليحموا الشقة حتى تزول الغمة.
الحفاظ على دار الوثائق يا مثقفي مصر لا يكون بالاستنجاد بالجيش، بل بالمطالبة بإتاحة محتويات دار الوثائق للجمهور، والعمل على تشجيع الناس، وانتم أولهم، للذهاب للدار والتردد عليها. التجارب أثبتت أن الوسيلة المثلى للحفاظ على الوثائق أن يكون هناك جمهور له الحق في الحصول على الوثائق وله الحق أيضا في مقاضاة من يمنع عنه هذه الوثائق والمعلومات إما بحجة أنها غير موجودة، أو في الترميم، أو مفقودة.
الحفاظ على دار الوثائق يا مثقفي مصر يكمن في المطالبة بقانون حرية تداول المعلومات، ويكمن في التمسك بالحق في المعرفة، والحق في البحث العلمي، والحق في الاجتماع، وحرية الرأي وحرية التعبير والحرية الأكاديمية.
ولو انتم ما طالبتوش بالحقوق دي، مين هيطالب بيها؟
ولو ما تمسكناش بالحقوق دي في أوقات الأزمات، أمال نتمسك بيها امتى؟
الجيش؟ ده اسمه كلام؟