Press "Enter" to skip to content

خالد فهمي بتاع المنوفية

نُشر في فيسبوك في ٣١ مايو ٢٠١٣

التليفون لم ينقطع عن الرنين. “د. خالد، عاجبك كده؟ شفت اللي بيعمله وزير الثقافة؟ آخرها يجيبو خالد فهمي بتاع المنوفية مدير لدار الكتب؟!! مش كان الأحسن يجيبو خالد فهمي بتاع الوثائق والتاريخ؟ طب قول لنا يا دكتور نعمل إيه؟ وقفة احتجاجية؟ شكوى لليونسكو؟ ممكن تكتب مقال في الشروق عن المهزلة دي؟”

مع احترامي للمتحدثين، ولغيرتهم على حال الثقافة في مصر، أظن أن الموضوع فيه لبس.

%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ac%d9%85%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%85%d9%8a-%d9%81%d9%8a-%d9%a1%d9%a7-%d9%86%d9%88%d9%81%d9%85%d8%a8%d8%b1-%d9%a2%d9%a0%d9%a1%d9%a1
المجمع العلمي محترقا يوم ١٧ ديسمبر ٢٠١١ (من تصويري)

هذه المكالمات ذكرتني بالمكالمات التي تلقيتها ليلة حرق المجمع العلمي، ليلة ١٧ ديسمبر ٢٠١١. الحريق يلتهم المجمع بمعتوياته. صحيح. ولكني بالفعل لم أكترث. فكنت وقتها راجعا للتو من جنازة الشيخ عماد عفت، ومع احترامي للكتب والوثائق، ومع عدم معرفتي الشخصية بالشيخ عماد، إلا أني رأيت أن الدم أهم من الحبر. ولكن وقتها تساءلت أيضا: مَن مِمن يتصل بي زار بالفعل المجمع العلمي؟ أنا لم أزره مرة في حياتي ولم أجر فيه أية بحوث بالرغم من أن أغلب أبحاثي تتعلق بالفترة التي أنشئ فيها المجمع. فإذا كنت لم أزره فهذا في حد ذاته دليل على مشكلة عميقة. المجمع كان ميتا بالفعل حتى قبل حرقه، والفائدة منه كانت منعدمة بالفعل حتى قبل أن تلتهمه النار.

الكتب والوثائق والتحف واللوحات والموسيقى والمسرحيات والقصص والحكايات لا معنى لها ولا قيمة إذا حفظت وخزنت ولم تقرأ أو تسمع أو تشاهد أو تحكى.

هذه مشكلتي مع دار الوثائق ودار الكتب تحديدا. مشكلة هاتين الدارين (وهما مختلفتان عن بعضهما البعض) أنهما ميتتان بالفعل حتى قبل أن يترأسهما مدير إخواني. الكارثة ليس في توجهات المدير، ولا أنه سيبيع الوثائق لإسرائيل أو قطر، أو أنه سيمنع ألف ليلة وليلة. المشكلة أبسط وأعمق وأفدح من ذلك بكثير. المشكلة قائمة بالفعل.

مشكلة دار الوثائق لا تتعلق بالمال أو بالكفاءات أو بالفساد. فأنا على طول مدة ترددي على الدار (٢٥ سنة) لم أسمع قصة سرقة أو تلف واحدة حقيقية. الصحافة من حين لآخر تتكلم عن هذا، والشكاوى الكيدية من موظفي الدار تتلقاها الصحافة وتنشرها بتلذذ قل نظيره.

مشكلة دار الوثائق تتلخص في أنها لا جمهور لها. لا صاحب لها. ملهاش دية. دار فيها مائة مليون وثيقة يتردد عليها في اليوم الواحد سبعة أو ثمانية باحثين نصفهم من الأجانب. أيها المثقفون، هل توجد فضيحة أكبر من هذه؟ ألا تعتبرون أن هذا إهدار للمال العام؟ ألم يخطر في بالكم يوما أن تسألوا أنفسكم ماذا نحن فاعلين بما لدينا من كنوز، بجانب التشدق بها والتخوف من ضياعها؟ ألا ترون أن مسئوليتنا الأساسية تكمن في فتح دار الوثائق للجمهور الأوسع وألا تقتصر على الأكاديميين من طلاب دكتوراه وماجستير؟

نفس السؤال تطرحه كل مؤسساتنا الثقافية: ما الفائدة من هذا العدد الغفير من المتاحف الخاوية على عروشها؟ ألا يحزنكم أن متحف محمود خليل الذي سرقت منه لوحة فان جوخ يتردد عليه في اليوم الواحد ثمانية زائرين في مدينة يقطنها ثمانية عشر مليونا من البشر؟ ألا تعتبر هذه كارثة أكبر من كارثة سرقة اللوحة؟

ألم يخطر في بالكم يوما أن دار الأوبرا فشلت على مدار سنوات وجودها في أن تجد لفن الأوبرا جمهورا جديدا؟ ألا يدرك القائمون على الأوبرا وغيرها من مؤسساتنا الثقافية أن معيار النجاح الأهم والأول والأسمى والأنبل يتلخص في سؤال بسيط وأساسي: كام واحد زارك؟ كام تذكرة بعتها؟ كام واحد دخل على موقعك ع النت؟ كام كتاب بعته؟

وزارة الثقافة يا اخواننا مش وزارة للمثقفين. دي وزارة للشعب. غرضها لا يجب أن يكون إقامة المؤتمرات والمسابقات والندوات والاحتقاليات والفعاليات الثقافية. غرضها توصيل الثقافة للناس. أنهي ثقافة؟ أنا بصراحة ما يهمنيش. هوية الثقافة ما تهمنيش. إسلامية، علمانية، يسارية، بزرميط. مش مهم. المهم أنا بأعمل ده لمين؟ إذا قلت لي أنا بأعمل ده للمثقفين فده ما يفرقش عندي عن فاروق حسني وحظيرته. إنما لو قلت لي أنا بأحاول أوصل الثقافة لكل واحد في هذا الشعب، في الكفور والنجوع قبل المكاتب والجامعات، أقول لك أنا معاك حتى لو بتنشر ابن تيمية وابن قدامة.

السؤال، بالتالي، مش أنهي خالد فهمي اللي مسك دار الكتب والوثائق القومية، بتاع المنوفية ولا بتاع الوثائق والتاريخ؟ السؤال هو: إزاي أقدر افتح دار الكتب ودار الوثائق للجمهور من غير حدود؟ إزاي أشجع الناس أنها تيجي وتقرأ وتطلع على مخطوطات الشافعي وأوائل مطبوعات بولاق وجوابات طه حسين وأول طبعة من ألف ليلة وليلة؟

بتسألوني نعمل إيه علشان ننقذ دار الكتب؟ أقول لكم سيبكو من شخص المدير. اضغطوا علشان الدارين يفتحوا أبوابهم للجمهور، ونرجع نشوف قاعة الاطلاع في دار الكتب بتعج بالقراء من طلاب لأرباب معاشات لربات بيوت للسائحين للمتسولين للروائيين وللباشوات. أحب اشوف بلال فضل بيروح دار الوثائق يستلهم من سجلات البوليس في القرن التاسع عشر قصة لفيلم جديد. أحب أشوف سلوى بكر بتروح دار الوثائق علشان تبحث عن موضوع لروايتها الجديدة. أحب أشوف واحد من الأشراف بيروح الدار علشان يثبت تاريخ عيلته. أحب أشوف محمد الشاهد بيروح دار الوثائق علشان يدرس تاريخ القاهرة في الخمسينات والستينات.

أحب أشوف دار الوثائق مكان لإنتاج المعرفة وليس لحفظ المعلومات، مكان للتلاقي وللتسامر وللمتعة وليس مكانا للتحايل على البيروقراطية والأمن. أحب أشوف دار الوثائق بيروحها روائيين وفنانين وكتاب مش بس أكاديميين بيحضروا رسائل دكتوراه.

لو حقق لي خالد فهمي بتاع المنوفية هذه الأمنيات سأكون أول من يهنئه. أما المتباكون على حال الثقافة في مصر فيمتنعون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.