نُشر في “الشروق” في ٢٤ مايو ٢٠١٣
قبيل منتصف ليلة الجمعة ١٧مايو ٢٠١٣ نزلت لميدان التحرير للتوقيع على استمارة حملة «تمرد» التى تطالب بسحب الثقة من الرئيس محمد مرسى العياط. لم يكن هذا القرار اعتباطيا أو وليد اللحظة، بل كان نتيجة تفكير عميق وتقدير لأهمية هذه الحملة وما تدعو إليه.
القصة بدأت يوم ٢٥ يناير ٢٠١١، يوم انفجار هذه الثورة. يومها نزلت ميدان التحرير اعتراضا على سياسات مبارك وتحديدا سياسات وزير داخليته حبيب العادلى. يومها استنشقت لأول مرة الغاز المسيل للدموع فى تمام منتصف الليل عندما هجمت علينا جحافل الداخلية. وبعدها بثلاثة أيام، يوم جمعة الغضب، سرت مع عشرات الآلاف من أبناء وطنى من ميدان مصطفى محمود لميدان الجلاء حيث اصطدمنا مع قوات الشرطة صداما عنيفا. وبعد معركة استمرت لأكثر من ساعتين مستعينين فيها بما لا يزيد عن كوفيات وكمامات وزجاجات خل تمكنا من دحر قوات الشرطة وإجبارها على التراجع باتجاه التحرير. ثم وجدت نفسى مرة أخرى بعدها بقليل فى الصفوف الأمامية على كوبرى قصر النيل فى مواجهة مصفحات الشرطة التى أطلقت علينا خراطيم المياه والرصاص المطاطى.
واستمر نزولى للتحرير وغيره من الميادين والساحات، ليس فقط أثناء الثمانية عشر يوما بل أيضا فى الكثير مما تلاها من أحداث واشتباكات على مدار عامين ونصف العام. وأثناء تلك المظاهرات والوقفات تعرضت، كغيرى من المواطنين، لخطر حقيقى ومباشر، واعتبر نفسى محظوظا أننى لم أصب حتى بخدش أو جرح.
كان ما يحركنى للنزول دائما، وما يزال، شعور عميق بالغضب من ممارسات وزارة الداخلية، وتحديدا من حالات التعذيب العديدة التى تمارس بشكل منهجى فى كل أقسام الشرطة بطول البلاد وعرضها والتى يفضى الكثير منها للموت. أنا مؤرخ، تشمل اهتماماتى البحثية تاريخ التعذيب فى مصر فى القرن التاسع عشر، وأمضيت سنوات طويلة فى دار الوثائق أدرس تاريخ هذه الظاهرة البغيضة. ولكن هالنى أن اكتشف أن ما تمارسه الشرطة المصرية فى القرن الحادى والعشرين أفظع بكثير مما كانت تمارسه قبل قرنين من الزمان. وما دفعنى للاشتراك فى هذه الثورة منذ لحظاتها الأولى هو يقينى بأننى لن أسامح نفسى إذا تقاعست عن درء هذا الخطر أو تكاسلت فى المشاركة مع الملايين من أبناء وطنى فى المطالبة بوطن خال من التعذيب.
•••
على أنى، ومنذ الأيام الأولى لهذه الثورة العظيمة، ومنذ تأكدت من أن نظام مبارك يترنح، كنت متأكدا بأن الإسلاميين هم الفصيل الأقوى الذى سيتمكن من الاستئثار بالحكم فى حالة سقوط النظام. لم أسعد بهذا الإدراك، فأنا كنت وما زلت مقتنعا بأن الإخوان المسلمين، وهم أهم فصيل إسلامى على الساحة، مفلسون سياسيا، فقراء أخلاقيا، منعدمو الخبرة إلا فى الحشد والتنظيم، فاقدو الرؤية التاريخية، قليلو الارتباط بهذا الوطن وغير مكترثين برفعته أو كرامته. ومع ذلك وحتى قبل سقوط مبارك كتبت مدافعا عن حقهم فى المشاركة السياسية والوصول للحكم. ففى يوم ٩ فبراير ٢٠١١ كتبت افتتاحية فى السى إن إن عنوانها «يجب أن يكون للإخوان المسلمين مقعدا على الطاولة» وقلت فيها «طالما رضى الإخوان المسلمون بالعمل تحت دستور جديد يعلى من مبدأ المساواة بين كل المواطنين، دون تفرقة بناء على الدين أو الجنس، فلهم الحق فى بناء مصر جديدة يتمتع فيها، أخيرا، كل المواطنين بالحرية والعدل والكرامة.» وبعد ذلك بشهرين تحدثت فى برنامج شهير فى القسم العالمى من البى بى سى مدافعا عن حق الإسلاميين فى الحكم قائلا إن «مصر من الرحابة بحيث يمكنها أن تسعنا كلنا، علمانيين ودينيين، مسلمين وأقباط». وحتى بعد فوز الإخوان بالحكم وبعد انتخاب مرشحهم بالرئاسة اشتركت فى مناظرة عامة أدارها الإعلامى البارز، تيم سباستيان، واعترضت فيها على مقولة المناظرة التى ذهبت إلى أن «عملية التحول الديمقراطى فى مصر كانت مخيبة للآمال».
كان هذا فى أكتوبر الماضى، وكنت حتى وقتها مقتنعا بأن الرئيس محمد مرسى هو الرئيس الشرعى لمصر، وأنه بالرغم من أننى لم أصوت له نظرا لاقتناعى بأن لا خبرته السياسية ولا قدراته العقلية ولا تكوينه الأخلاقى يؤهله لحكم مصر، إلا أننى أعتبره ليس فقط رئيسا شرعيا، بل رئيسى أنا شخصيا. احترامى لمحمد مرسى كان نابعا من إدراكى أن شرعيته نابعة من صندوق الانتخاب، أى من أصوات مواطنين مثلى وإن كانت لديهم توجهات مختلفة. وكنت اتطلع لليوم الذى ستأتى فيه الانتخابات القادمة لأصوت ضده مرة أخرى وأسقطه، وهو ما يساعدنى هو نفسه عليه بسوء إدارته وسجله الفاشل أمنيا واقتصاديا وسياسيا.
•••
لماذا إذن وقعتُ على وثيقة تمرد التى تدعو لسحب الثقة من الرئيس مرسى؟ لماذا الإصرار على عدم استكمال الرئيس مرسى لفترة رئاسته والتعجيل بإجراء انتخابات رئاسية؟ إن هذا الموقف لا يمثل «هروبا من الكلام الجاد والمسئول، ومحاولة للالتفاف على قواعد اللعبة الديمقراطية،» كما كتب البعض، بل هو تمسك بأهم وأسمى ما نادت به هذه الثورة، أى تحقيق الكرامة الإنسانية ووضع حد للانتهاكات الداخلية من تعذيب وقتل.
إن بعض ممن وقع العريضة فعل ذلك معترضا على فشل الرئيس فى استعادة الأمن، ومنهم من يعترض على انهيار الاقتصاد، ومنهم من يعترض على عدم إجراء تغيير حقيقى فى سياسة مصر الخارجية واستمرار منهج التبعية للولايات المتحدة والرضوخ لإسرائيل. أنا احترم هذه الأسباب وأقدرها، ولكنى لا اعتبرها كافية للمطالبة بالرحيل الفورى لمحمد مرسى.
ما أراه فشلا قاتلا للرئيس مرسى هو تقاعسه عن وضع حد للتعذيب الذى تمارسه الداخلية. إن موضوع التعذيب، بالنسبة لى، ليس تفصيلة صغيره فى قائمة طويلة من المطالب. إن وقف التعذيب فى مصر هو المطلب الأساسى الذى نزلت من أجله التحرير واشتركت بسببه فى الثورة وجازفت لتحقيقه بحياتى. وكنت أتوقع من الإخوان المسلمين تحديدا، نظرا لما لاقوه من بطش وظلم وتعذيب على أيدى النظام السابق، أن يسارعوا فى إعادة هيكلة القطاع الأمنى ووقف التعذيب الممنهج فى أقسام الشرطة وتقديم المسئولين عن قتل المواطنين للعدالة. ولكن الرئيس مرسى وجماعته فضلوا أن يصطدموا بالقضاء والإعلام لا الداخلية، وغضوا الطرف عما ترتكبه الداخلية من أهوال كل يوم.
أنا لم أنزل التحرير للمطالبة بإجراء انتخابات حرة ونزيهة فقط، ولم أشارك فى الثورة لاستبدل حزب الحرية والعدالة بالحزب الوطنى الديمقراطى، أو استبدل محمد مرسى العياط بمحمد حسنى مبارك. هذه الثورة قامت ليس لتغيير اللاعبين بل لتغيير قواعد اللعبة، وسبب تمردى على حكم الرئيس محمد مرسى هو موافقته على أن يستمر فى نفس اللعبة وبنفس الحَكَم.
•••
هذا عن التمرد. أما التفاؤل بمرده هذا الشباب الواعد الواعى الذى فكر فى هذه المبادرة الخلاقة وطرح على كل واحد منا التحدى الأخلاقى الأهم: هل سترضى بنتائج صندوق الانتخاب حتى إن أدى هذا للتضحية بأسمى هدف من أهداف الثورة، أم أنك ستراجع نفسك وتتساءل عما قامت من أجله الثورة من الأصل؟ سبب تفاؤلى إذن هو هذا الشباب الذى سبق كل النخب الدينية والسياسية والصحفية والأكاديمية، وذكرنا، مرة أخرى، أن هناك ثورة، وأن أهدافها نبيلة، وأنها مستمرة.