Press "Enter" to skip to content

كيف نكتب تاريخنا الحربي؟

نُشر في “الشروق” في ١٢ ابريل ٢٠١٣

فى الأسبوع الماضى نشرت جريدة هآرتز الإسرائيلية مقالا عن وثيقة سرية تعود لعام 1973 أفرجت وزارة الدفاع عنها مؤخرا. الوثيقة تتعلق بالمعلومات الاستخباراتية التى تلقتها إسرائيل قبيل اندلاع حرب أكتوبر. فبالإضافة إلى المعلومات التى أمدها العميل أشرف مروان والتى أكد فيها اتخاذ السادات قرار بدء القتال بالتنسيق مع سوريا، ركز المقال على المعلومات الجديدة التى احتوتها هذه الوثيقة النابعة من مكتب وزير الدفاع، موشى ديان. المعلومات الجديدة تؤكد، حسب تفسير المقال، على أن رئيس المخابرات العسكرية، إيلياهو زيرا، كان قد أكد هو الآخر معلومات ترجح نية مصر القيام بأعمال عسكرية. فالوثيقة تقول إن زيرا حضر اجتماعا للمجموعة العسكرية فى صباح يوم 6 أكتوبر ونقل للقادة العسكريين معلومات تفيد تحريك سوريا لقواتها إلى مواقع هجومية، وكذلك برقية فكت المخابرات العسكرية شفرتها كان قد بعث بها لبغداد سفير العراق فى موسكو وقال فيها إن السوريين على وشك بدء القتال.

وبالتالى فإن المقال يشكك فى النتائج التى خلصت لها لجنة أجرانات التى كانت قد شكلت بعد الحرب للتحقيق فى الفشل المعلوماتى والاستخباراتى الذى أدى لفشل إسرائيل فى التنبؤ بالحرب. فكما هو معروف خلصت لجنة أجرانات إلى إلقاء اللوم على المخابرات العسكرية (أمان) وحملتها وحدها مسئولية التخبط العسكرى فى الأيام الأولى للحرب. ولكن الوثيقة الجديدة توضح بجلاء عدم تقاعس المخابرات العسكرية عن القيام بواجبها وأن زيرا لم يتعمد إخفاء أية معلومات عن القيادة العسكرية كما زعم تقرير لجنة أجرانات.

•••

لقد مرت على حرب أكتوبر أربعون سنة، وطوال هذه المدة ونحن نستمد معلوماتنا الأولية عن هذه الحرب من إسرائيل. وكما يوضح مقال هآرتز، فإن إسرائيل تفرج بشكل مستمر عن وثائقها، السياسية منها وغير السياسية، بل والسرية أيضا. أما نحن فلا يسع أى من مؤرخينا سوى الاعتماد على وثائق أجنبية لكتابة تاريخ موثق عن هذه الحرب المهمة. فوزارة الدفاع لا تفرج عما بحوزتها من وثائق مهما طالت المدة التى تفصلنا عن حرب معينة. ودار الوثائق القومية، وهى أرشيفنا القومى الذى يجب أن تودع فيه الوثائق القديمة، لا تحتوى على أية وثائق ذات صبغة عسكرية تتعلق بأى من حروبنا مع إسرائيل. وكانت النتيجة أن كل كتبنا العربية، وأكرر كل كتبنا العربية، المتعلقة بحروبنا مع إسرائيل لا تعتمد على وثائقنا نحن بقدر ما تعتمد على وثائق أجنبية، إما أمريكية أو سوفييتية أو فرنسية أو بريطانية، أو حتى إسرائيلية. والنتيجة أن أجيالا من شبابنا يستقى معلوماته عن صراعنا مع إسرائيل إما من كتب غير موثقة (أى غير معتمدة على وثائق رسمية)، أو من كتب موثقة ولكن أغلب وثائقها إسرائيلية بينما وثائقنا المصرية ما زالت حبيسة الأدراج.

فى تبريرها لرفضها الإفراج عما لديها من وثائق تاريخية تقول وزارة الدفاع (ومعها كل مؤسسات الأمن القومى التى اصطلح على تسميتها بـ«الجهات السيادية») إنها تحمى الأمن القومى وإن الإفراج عن هذه الوثائق التاريخية سيهدد الأمن القومى. ولكن أية معلومات عسكرية تلك التى تعود لأربعين سنة والتى يمكن الإفصاح عنها الآن أن يضر بالأمن القومى؟ هل خططنا العسكرية وأسلحتنا وطريقة إدارتنا للمعارك لم تتغير منذ أربعين سنة (أو أكثر إذا كنا نتناول حرب يونيو أو حرب السويس أو النكبة)؟ فإذا كانت خططنا العسكرية قد تغيرت فما ضير الإفراج عن هذه الوثائق التاريخية؟ أما إذا كانت خططنا العسكرية وعقليتنا القتالية لم تتغير منذ أكثر من أربعين سنة فتلك إذن مصيبة أخرى. هل هذا هو السبب وراء عدم الإفصاح؟ هل لدى الأجهزة السيادية ما تخشاه ويدفعها إلى الاحتفاظ بما لديها من معلومات قديمة؟

•••

فى كل مكان فى العالم يتلخص الدور الأساسى الذى تقوم به أجهزة الاستخبارات فى جمع المعلومات وتحليلها وليس الإفصاح عنها ونشرها. أتفهم هذا. ولكن السؤال هنا هو عن معلومات عسكرية واستخباراتية قديمة لم تعد لها قيمة سوى للبحث العلمى الأكاديمى. وكما قال ماجد عثمان فى مقال مهم له هنا منذ أيام قليلة فإنه يجب علينا، كمجتمع، أن نجد «نقطة توازن بين ضرورات السرية وتكلفة عدم الإفصاح». ولا يجب أن ينتهى النقاش فى هذه المسألة المهمة متى طُرح موضوع الأمن القومى، بل يجب أن يكون هذا بداية الحوار وليس نهايته.

فى كل المناقشات التى خضتها فى هذا الموضوع منذ سنوات طويلة ينبرى دائما ممثلو الجهات الأمنية ويقولون ما معناه إننا، نحن المنادين بحرية تداول المعلومات، لا ندرك جيدا مدى الأخطار المحدقة بالبلد. وعندما نرد بأننا ندركها جيدا يُرد علينا بأنه يبدو إذن أننا متهاونون فى أمن البلد أو مفرطون فيه. ونحن دائما نرد بالقول إننا لسنا سذجاء أو عملاء، بل إننا، نحن أيضا، غيورون على أمن هذا البلد وعزته وما يحركنا ليس افتنانا بالغرب أو محاكاة عمياء لقوانينه وأعرافه التى تحكم سرية المعلومات، بل ما يحركنا هو رغبتنا فى رؤية هذا البلد ينهض ويزدهر. اختلافنا إذن ليس فى الغاية بل فى الوسيلة: الجهات السيادية ترى فى حجب المعلومات للأبد الوسيلة المثلى للحفاظ على الأمن، أما نحن فنرى ضرورة الحفاظ على سرية المعلومات الحساسة ولكن لمدة لا تزيد على عشرين أو ثلاثين سنة يفرج بعدها عنها ويسمح للجمهور من متخصصين وغير متخصصين الاطلاع عليها.

ويبقى السؤال الأساسى: لماذا يجب السماح للجمهور بالاطلاع على وثائقه العسكرية القديمة؟ أظن أن الجواب واضح: للتعلم من الماضى والاتعاظ من تجاربه. إن وثائق الحروب والمعارك القديمة مثلها مثل الصندوق الأسود للطائرة المنكوبة الذى يُبذل الجهد المضنى للعثور عليه بعد سقوط طائرة، ففقط بعد العثور عليه ودراسة المعلومات التى يحتويه يمكن الجزم بسبب الكارثة وبالتالى العمل على تلافى وقوعها فى المستقبل.

ويعز على فى الختام الاستشهاد مرة أخرى بإسرائيل. فهذه دولة مهوسة بأمنها لدرجة الهستيريا، ولكن هوسها بأمنها لم يمنعها من الإفراج المنتظم عن وثائقها العسكرية متى مرت عليها ثلاثون سنة. بل يمكن القول إن هوسها بالأمن هو تحديدا ما يدفعها لنشر هذه المعلومات، فعندها فقط يمكن فتح حوار مجتمعى عن أخطاء الماضى وتحديد المسئول عنها ومحاسبته؛ وعندها فقط يمكن العمل على تصحيح هذا الأخطاء والعمل على منع حدوثها مرة ثانية، وعندها فقط سيدرك القابع فى السلطة أنه حتى لو غابت الرقابة الصحفية والبرلمانية على أعماله بسبب ما فستظل رقابة التاريخ مسلطة عليه، وستتمكن الأجيال القادمة من الحكم عليه.

ذلك إذن أهم سبب يدعونى للمطالبة بالإفراج عن وثائقنا العسكرية القديمة، فالإفراج عن هذه الوثائق من شأنه ليس فقط تشجيع البحث العلمى وإماطة اللثام عن أحداث الماضى وتبصير الناس بحقيقة صراعنا مع إسرائيل، بل أيضا من شأنه أن يحث المسئولين على إدراك أن الشعب، وهو صانع التاريخ وقارئه أيضا، رقيب على أفعالهم وأنه قدير على الحكم عليهم ولو بعد حين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.