حديث مع محمد فرج نُشر في موقع “مراسلون” في ٢١ مارس ٢٠١٣
“إنها دولة الفساد المرتبط بالقمع منذ تأسيسها”. هكذا يلخص صاحب كتاب “الجسد والحداثة” الجذور التاريخية لفساد الدولة المصرية الحديثة، وينطلق من هذا التخصيص لرواية واقع حكم الاخوان الآن، حكم الأزمة المستحكمة التي يحاول الكثيرون التعمية علي سؤالها الأهم: كيف تؤسس جمهورية ثانية مقطوعة الصلة عن هذه الجذور؟
مراسلون: بداية كيف يمكن تشخيص حالة الدولة – كمجموعة مؤسسات – الآن؟
د. فهمي: تبدو الدولة منذ بداية الثورة شبه مشلولة، وجزء من ذلك الشلل يرجع إلى سببين، الاول اعتراضا على ما يسمى أخونة الدولة ويبدو هذا مثلا في تظاهرات أمناء الشرطة، فهناك حالة حذر وتوجس من الجهاز الادراي للدولة ضد القيادات الجديدة، خاصة في المناصب الصغرى، والبيروقراطية المصرية عبر تاريخها تمتلك قدرة شل العمل في حالة وجود مدير غير مرضي عنه – وذلك بعيدا عن الايديولوجيا.
من ناحية اخرى هناك حالة خوف لدى الوزراء والمسؤولين الكبار تمنعهم من التصرف واتخاذ القرارات خوفا من تحمل نتائج هذه القرارات في ظل الظرف المضطرب الذي يصاحب تشكيل الوزارات، خاصة ونحن نعيش حالة انتظار انتخابات منذ أكثر من عامين.
لكن ما يثير اهتمامي هو ما اصاب الجهاز الادراي للدولة قبل الثورة، وليس بعدها، فجزء من أسباب الثورة هو ما اصاب الجهاز الادراي من فساد، والمثال الاكبر على ذلك هو فساد وزارة الداخلية.
متى يمكن تاريخيا تحديد بداية الفساد في الدولة المصرية؟
د. خالد فهمي
الدولة المصرية فاسدة منذ ١٨١١، أي منذ نشأتها الحديثة، بمعنى وجود امكانية للفساد في صلب الدولة ذاته، وذلك لعدم وجود آليات لمنع الفساد.
والوثائق التاريخية تبين ذلك، فعلى سبيل المثال ثمة عدد من الخطابات المشهورة في اوساط المؤرخين والباحثين لمحمد علي باشا، منها خطاب سنة ١٨٤٨ موجه إلى الموظفين يستحثهم على العمل وعلى خدمة الفلاح سبب النعمة التي يعيشون فيها، ويتوعدهم بالعقوبات في حال اخلوا بوظيفتهم.
انا اقرأ هذا الخطاب من زاوية اخرى، هؤلاء الموظفون الذين يخاطبهم محمد علي ليسوا موظفين تماما ولكنهم “أهله وعشيرته” بالمعنى الحرفي للكلمة، هم أبناء عمومته وأصهاره واقاربه، تلك هي الحاشية التي كونها محمد علي عندما بدأ يمسك بزمام الامور في مصر.
بدأ في استجلاب اقاربه ليتولوا ادراة شؤون البلاد، بعد ذبح النخبة القديمة – مذبحة المماليك في القلعة – وإقامة بيت حاكم واحد بدلا من بيوت المماليك المتنازعة. وأصبح اقارب محمد علي هم القائمين على شؤون البلاد.
من هنا جاء لقب “ولي النعم” فهو بالفعل ولي نعمة هؤلاء القادمين وهو الصلة الوحيدة التي تربطهم بالبلاد الجديدة التي اقاموا فيها.
هكذا نشأت الدولة المصرية، عبر بيت محمد علي الحاكم الذي امتلك البلاد خلسة، دون اي مصدر للشرعية المحلية.
لكن بعد دولة محمد علي جرت في النهر مياه كثيرة، كيف ترى ذلك؟
دولة محمد علي التأسيسية لم تكن نتاج عقد اجتماعي بينه وبين عموم المصريين، ولا هي نتاج تفاوض النخبة الاقتصادية او العسكرية او الدينية مع هذا البيت الحاكم، ولكنها دولة قمعية، لهذا كانت مذبحة المماليك هي البداية الحقيقية للدولة.
وبالتالي لا يوجد اي قيود للحد من سلطة هذه الدولة وتغولها، إلا عبر كلمات الحاكم نفسه، وهنا كان محمد على على قدر كبير من الذكاء، في محاولته الاجابة على سؤال قديم جدا في علم السياسة وهو: من الذي سيحرس الحرس؟
محمد علي تولى الاجابة بنفسه، ولكن لم يتم خلق اليات تقيد الشطط الذي يمكن ان يتسبب فيه بعض مسؤولي الدولة، و طوال القرن التاسع عشر وحتى دولة يوليو كانت هناك اشكال كثيرة للاعتراض على هذا الشكل القمعي، واخذ هذا الاعتراض اشكال كثيرة، فطوال الوقت هناك ثورات تقوم في الصعيد ووجه بحري اعتراضا على الضرائب وعلى نظام السخرة، لم تتم دراسة اغلبها.
كيف تعقد مسار الدولة الفاشلة تلك بأسئلة جديدة لاحقا؟
لقد جاء الاحتلال الاجنبي بمشكلة اخرى بجانب المشكلة الاساسية، وهي كيف يمكن تأطير السلطة الغاشمة بدستور عادل. ثم في العشرينات وما بعدها اصبح لدينا سؤال مشكل اخر وهو سؤال الهوية، ومع اواخر الاربعينات اضيفت مشكلة اقليمية جديدة اسمها اسرائيل زادت من تعقيد الامور.
تم حل هذا التعقيد عبر إنقلاب عسكري. لكنه لم يستطع حل كل هذه المشاكل، استطاع ان يدفع الانجليز خارج البلاد، ولكنه لم يستطع حل مشكلة سلطة الدولة المطلقة ولا مشكلة اسرائيل، التي زادت الطين بلة وسمحت لسلطة الدولة بالتغول واتاحت لمبارك البقاء ثلاثين عاما حيث اصبح الصراع العربي الاسرائيلي مبررا للكثير من السياسات، وساعد انفجار النفط الفكر الوهابي على الانتشار اكثر وبالتالي ادى الى تعقيد سؤال الهوية اكثر.
لذلك ما زلنا متوقفين امام السؤال الاول المتعلق بسلطة الدولة المتوحشة وكيف يمكن لجمها، وخلت الدساتير المصرية منذ ١٩٢٣ حتى ١٩٧١ من ادوات تحد من سلطة الدولة. وبسبب الصراع العربي الاسرائيلي اوقف عسكريي دولة يوليو كل الحياة السياسية، ومن بعده الشرطة باسم العدو الخارجي صادرت كل الحريات السياسية والحقوقية، ثم استفحل سؤال الهوية ليتحول إلى صراع مسلح بين الشرطة والاسلاميين وصل ذروته في سنين مبارك.
هل ترى في ثورة ٢٥ يناير قطعا مع تلك السيرورة؟
جاءت الثورة في لحظة انهيار ادوات الدولة في مواجهة هذا التعقد والتشابك، وربما ليست صدفة أن تتكون أكبر الصفحات دعاية لتظاهرات الخامس والعشرين من يناير هي صفحة “كلنا خالد سعيد” شهيد التعذيب، وقمع الدولة.
بالتأكيد لم يكن الامر فقط تمرد على حبيب العادلي وسياسات جمال مبارك والتوريث، ولكن على كل المسار الذي أفضى بنا إلى هذه الحالة. ولكن كيف يمكن فك هذا التعقيد المتشابك،اظن ان لا يوجد من يمتلك اجابة كاملة حتى الآن.
هل نستطيع القول أن الاخوان ورثوا الدولة القديمة ويواجهون الثورة؟
أغلب تحليلات الاخوان ومن والاهم تنظر إلى الوضع على انه صراع ثنائي: الاخوان ضد الفلول والبلطجية، فالرئيس مستهدف من قبل رجال النظام البائد وقيادات المعارضة الذين يضللون شباب الثورة غير الواعي.
ايضا من الجانب الاخر، الجانب الثوري يرى المسألة ايضا بشكل ثنائي حيث ان الاخوان متحالفين مع الشرطة أو مع الجيش في مواجهة الثورة، ورؤية المسألة بشكل ثلاثي مفيد في معرفة الفارق بين مصر وبين بلاد أخرى حدث فيها تحول ديموقراطي، مثل جنوب افريقيا ودول شرق اوربا وبعض دول امريكا اللاتينية، حيث كان مأزق التحول الديموقراطي يتمثل في ان النظام القديم انهار، ولكنه لم ينهار تماما، وتحديدا في جهازه الامني الذي يظل يدار من قبل رجال النظام القديم الذين يمتلكون الخبرة والكفاءة، بينما مازالت تنقص رجال النظام الجديد، المختلف في مصر انه زيادة على هذا المأزق لم تصل الثورة إلى الحكم بالاساس، بينما من تولى الحكم لم يدعو للثورة ويخاف منها، وهو بالاساس تنظيم غير ثوري، وبالتالي لديه هواجس تصل إلى أن تكون عداءاً اصيلاً للثورة.
الثورة إذن تواجه اكثر من طرف؟
نحن بالفعل أمام ثلاث فصائل: الاخوان والاسلاميين على اختلاف اطيافهم، والفلول وقيادات الجيش والداخلية ورجال الاعمال الفاسدين، ورجال الحزب الوطني، وهناك الفريق الثالث الثوري الذي يضم فصائل كثيرة ربما لا تبدأ بالبرادعي ولا تنتهي بالبطلجية.
وما يؤزم الأمر أكثر انه برأيي لا يوجد طرف في هذه المعادلة الثلاثية يستطيع ان يفرض سيطرته على الاخرين بشكل كامل، واذا صح تحليلي بأن جذور هذه الثورة تمتد إلى ١٨١١ فنحن إزاء وضع معقد جدا، فالثورة ليست نتاج تراكم فكري، وليس لدينا أشباه ماركس أو روسو، ولكن العكس فحركة الشارع تسبق المعارضة والدولة والاخوان والاعلام وبطبيعة الحال الأكاديميين.
لكن الجميع يشير لوجود تحالفات بين الاخوان وبين الجيش أو الداخلية؟
لا اعتقد بوجود تحالفات حتى الان بين الاخوان وقوى الدولة سواء الداخلية او الجيش رغم كل الكلام المثار، ربما توجد تفاهمات بين القيادة السياسية وبين الداخلية على غض الطرف عن اداء الشرطة وهو ما يفسر حالات التعذيب المتعددة في الفترة الاخيرة.
الاخوان اضعف مما يظنون، قوتهم تتجلى في صناديق الانتخاب، ولكن ماذا بعد الوصول للسلطة؟ فالصناديق التي جاء بها الاخوان ليست صناديق انتخابات عادية، ولكنها صناديق جاءت بعد ثورة، فرجال النظام القديم مازالوا موجودين، والثوار ايضا ما زالوا موجودين، وبالتالي الاخوان غير مسيطرين وهو ما ينذر بتدهور الوضع الحالي.