Press "Enter" to skip to content

الداخلية والقتل خارج القانون

نُشر في “الشروق” في ٢٥ يناير ٢٠١٣

أثناء زيارة لمدينة نيويورك قمت بها مؤخرا دعيت لحفلة عشاء أقامها لى أحد زملائى السابقين فى الجامعة التى كنت أدرّس بها، وفى تلك الحفلة تعرفت على شابتين لا تعرفان بعضهما البعض ولكن تجمعهما الرغبة فى الدفاع عن المستضعفين والانتصار للمغلوبين.

الشابة الأولى أمريكية فى أوائل الثلاثينيات، قررت بعد سنوات طويلة من دراسة الحقوق العمل فى مكتب المدعى العام فى مدينتها. وعندما سألتها عن سبب تضحيتها بفرصة العمل فى أحد مكاتب المحاماة الكبيرة قالت إن تلك كانت أمنيتها طوال سنوات دراستها، إذ إنها قرأت يوما خبر مقتل إحدى المومسات أثناء مداهمة شرطة نيويورك لبيت من بيوت الدعارة، وأن الخبر أكد أن الشرطة استخدمت العنف المفرط بشكل لا داعى له، الأمر الذى أدى لمقتل هذه المومس. وعندما أبديت اندهاشى من سبب حماسها لتلك القضية قالت إن حتى المومسات لهن حقوق، ومن أهمها الحق فى الحياة، وإنه بالرغم من احتقار المجتمع لهن وتدنى مستواهن الاجتماعى فيجب أن يكون لهن من يدافع عنهن ومن يقتص لهن إذا قتلن غيلة. هذا ما دفعها لدراسة الحقوق وللعمل فى مكتب المدعى العام وللتخصص فى قضايا تدور فيها الشبهات عن تجاوزات للشرطة فى حق مهمشى المجتمع من مومسات ومدمنى مخدرات ومهاجرين غير شرعيين.

أما الشابة الثانية فبريطانية، قررت بعد دراسة الطب لسنوات طويلة أن تتخصص فى الطب الشرعى والعمل فى مكتب الطب الشرعى فى يوركشير بشمال إنجلترا. وعندما استفسرت عن الداعى وراء تخصصها قالت إنها كانت من مدمنى حلقات كوينسى الأمريكية التى كان بطلها طبيب شرعى أمريكى تدور جهوده حول محاولة إماطة اللثام عن جرائم جنائية، وإنها فى عملها الجديد تجد سعادة غامرة فى الحالات القليلة التى قد تشعر فيها أن خبرتها تساعد على إقامة الدليل الذى قد يدين ضباط شرطة ينتهكون القانون.

***

أسرد قصة هاتين الشابتين بمناسبة التحقيق الجاد والرصين الذى نشرته هنا فى «الشروق» منذ يومين شابة أخرى، اسمها نادية مبروك، عن عمليات القتل خارج القانون التى ارتكبها جهاز أمن الدولة أثناء حكم مبارك. التحقيق تناول قضايا مختلفة يعود بعضها لأوائل التسعينيات حينما تأججت مواجهة الداخلية، وخاصة جهاز أمن الدولة، مع الجماعة الإسلامية فى شتى ربوع البلاد.

من ضمن الوقائع التى تسردها نادية مبروك فى تحقيقها واقعة فاطمة محمد، أم الخمسة أولاد، والتى اعتقل ابنها الأكبر، مجاهد، لمدة 14 عاما دون توجيه اتهام له، والتى اعتقل ابنها الثانى، علي، يوم 16 فبراير 1994. وأثناء اعتقاله الذى استمر لمدة عشرة أيام كانت تذهب له بالطعام كل يوم ثم فوجئت باستدعائها للشرطة وإخبارها إن عليا قد قُتل فى اشتباكات مع الشرطة، هذا مع علمها أنه كان معتقلا فى مباحث أمن الدولة. وبالرغم من أن تقرير الطب الشرعى أشار إلى وجود التهابات بالمخ، غالبا سببها التعذيب بالكهرباء وكسر بالعمود الفقرى، فإن فاطمة ما زالت تقف أمام قبر ابنها الأصغر كل يوم تتساءل عن سبب وفاته. الكلمة الوحيدة التى تلقتها كانت من ضابط أمن الدولة اسمه أبوزيد أثناء القبض على ابنيها، مجاهد وعلى، إذ سأل فاطمة «لديك كم من الأولاد؟» وعندما قالت 5، رد قائلا «كفاية عليك ثلاثة».

تسرد نادية مبروك أيضا قصة جيهان إبراهيم، السيدة التى تبلغ من العمر 42 عاما والتى حكمت عليها محكمة عسكرية بالسجن 15 عاما، قضت منها 11 عاما فى سجن القناطر. التهمة التى وُجهت لجيهان إبراهيم كانت إيواء الهارب حسن صالح، أحد المطلوبين فى قضية مقتل الكاتب فرج فودة. وبالرغم من إنكارها التهمة فإنها ظلت قيد التحقيق والتعذيب فى أمن الدولة، ثم واجهتها مباحث أمن الدولة بـ»حقيقة» ضبط حسن صالح فى شقتها ومصرعه أثناء محاولة القبض عليه. وظلت جيهان إبراهيم تستغرب هذه القصة إلا أن جاءتها إحدى جاراتها لزيارتها فى السجن وسردت لها ما حدث بالفعل. «قوات الأمن جاءت البيت لما كنتى انتى فى بيت أهلك، وشالوا جثة واحد على نقالة، ورفعوه من الشارع لغاية شقتك من الشباك»، وتضيف جيهان على لسان جارتها: «بعد إدخال الجثة لشقتى صعد أحد الجنود إلى داخل الشقة وادعى أن حسن صالح هو [صاحب الجثة] بينما قام الضابط من الشارع عبر مكبر الصوت مطالبا إياه بتسليم نفسه، إلا أنه رفض، وتم إطلاق نار لينتهى المسلسل بخروج جثمان «حسن صالح» من البيت على نفس النقالة التى دخل عليها.»

كما يحفل تحقيق نادية مبروك بالعديد من القضايا الأخرى التى ارتكبها ضبط أمن الدولة ولم يتم التحقيق فيها، منها قضايا قتل خارج القانون جرى تغطيتها بالادعاء أن من قُتلوا كانوا فى الزراعات ثم أثبت تقرير الطب الشرعى لاحقا أنهم ماتوا من التعذيب، وقضايا أجبر ضباط أمن الدولة فيها النساء على السير عاريات فى الطرقات عقابا لهن على عدم إدلائهن بمعلومات، وقضايا اختفى فيها متهمون بعد رفضهم العمل كمرشدين لأمن الدولة، وقصص كثيرة لآباء وأمهات ما زالوا ملتاعين يجوبون الأقسام والمستشفيات والمشرحات بحثا عن أولادهم.

***

اليوم نحتفل بالذكرى الثانية لثورتنا، تلك الثورة التى اندلعت يوم 25 يناير، يوم عيد الشرطة، اعتراضا على الانتهاكات المنهجية التى كانت الشرطة ترتكبها فى سنوات حكم مبارك الطويلة والمظلمة. وطوال العامين الماضيين بُحت أصواتنا بالمطالبة بضرورة إصلاح وزارة الداخلية وبالتأكيد على أهمية هذا الملف الذى قد لا يضاهيه أهمية إلا ملف الاقتصاد. كما قُدمت المقترحات الجادة والمدروسة لكيفية إعادة هيكلة قطاع الأمن كله، ومن أهمها مبادرة «شرطة لشعب مصر».

وبالرغم من كل هذه المطالب المهمة فإن السلطات لم تحرك ساكنا، بل تعاقبت أحكام البراءة التى نالها ضباط الشرطة فى قضايا قتل المتظاهرين، وتعددت انتهاكات الداخلية بعد الثورة من أحداث محمد محمود 1 و2، إلى أحداث مجلس الوزراء، إلى مجزرة ماسبيرو، إلى مجزرة بورسعيد والكثير غيرها دون إدراك السلطات أن هناك خللا هيكليا فى قطاع الأمن يجب معالجته، وأن هناك من الجرائم ما لا يمكن السكوت عليه.

ولكن وفى مقابل تهاون السلطات وتواطئها لا يسعنى سوى الشعور بالفرح والسعادة وأنا أقرأ تحقيق نادية مبروك التى ذكرتنا أن الملف الدامى للداخلية لا يقتصر على الأحداث العديدة التى وقعت منذ اندلاع الثورة بل يتضمن الكثير والكثير من القضايا التى ارتكبها جهاز أمن الدولة قبل الثورة. وأقول لنادية مبروك: مبروك على تحقيقك الرائع، وعلى انضمامك للكثيرين من خيرة شباب وشابات هذا الوطن المدافعين عن حقوق المغلوبين فيه، والمتصدين لانتهاكات الداخلية، من وائل عبدالفتاح لوائل عباس لحسام بهجت لسميرة إبراهيم لعايدة سيف الدولة، وللكثيرين غيرهم الذين يسعون لجعل مصر بلدا خال من التعذيب. لكِ ولهم أقول «كل ثورة وأنتم بخير».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.