نُشر في “الشروق” في ٢٥ نوفمبر ٢٠١٢
بعد ثمانية أيام من القتال وبعد سقوط أكثر من مائة قتيل نتيجة القصف الإسرائيلى الوحشى لغزة تنفس الجميع الصعداء عندما أعلنت واشنطن أن هيلارى كلينتون فى طريقها للقاهرة وأن الرئيس مرسى قد استطاع التوسط بين حماس وإسرائيل للوصول إلى هدنة بينهما. وما هى إلا ساعات حتى وقفت كلينتون بجانب محمد كامل عمرو، وزير الخارجية، ليعلنا تفاصيل الهدنة وانفراج الأزمة.
فى اليوم الثانى خرجت علينا كبريات الصحف الأمريكية والإسرائيلية تزف لنا ليس فقط هذه الأخبار السارة ولكن أيضا احتفاءها بمرسى وبحنكته السياسية. كان من أطرف المواضيع الإخبارية عن تفاصيل الوصول للهدنة ذلك المقال الذى نشرته النيويورك تايمز يوم الخميس الماضى عن المكالمات التليفونية المتواصلة بين مرسى وباراك أوباما فى الساعات القليلة قبل الإعلان عن الهدنة. ونقلت الصحيفة عن مصادر فى البيت الأبيض إعجاب الرئيس الأمريكى بنظيره المصرى وبطريقته فى إدارة الأزمة. وأخذت الصحيفة تؤكد على أن انتماء مرسى لجماعة الإخوان المسلمين المبغوضة لم يمنعه من الضغط على حلفائه من حماس للقبول بالهدنة التى اشترطت توقف حماس عن إطلاق الصواريخ. وأخذت النيويورك تايمز مع الواشنطن بوست تذكر القراء بفترة الجفاء بين القاهرة وواشنطن فى أعقاب فوز مرسى بالرئاسة، مركزة على تقاعسه عن حماية السفارة الأمريكية فى أحداث الفيلم المسىء للرسول، وتصريحاته المتشددة ضد إسرائيل فى بداية الأزمة الحالية وتصعيده للأمور بسحبه للسفير المصرى من تل أبيب.
السؤال المؤرق الذى طرحته الصحافة الأمريكية كان إلى أى درجة سيشكل انتماء مرسى للإخوان عقبة أمام السياسة الأمريكية فى المنطقة، وهل سيحتكم لإيدلوجيته الإسلامية أم لحسه البراجماتى فى تعامله مع الأزمة. لذا فلم تخف الصحيفتان ومعهما جوقة الإعلام الأمريكى كله اغتباطهما بمرسى وتهنئته على «تحكيم عقله»، وكان الخبر السار الرئيسى الذى ركزتا عليه ليس التوصل للهدنة ووقف الاقتتال بل إن مرسى برغم ميوله الإسلامية اتضح أنه رجل دولة حكيم، «ينفذ ما تعهد به، ولا يتعهد بشىء لا يستطيع تنفيذه». مبارك قد يكون قد ذهب بلا عودة، إلا أن مرسى سوف يضمن استمرار السياسة الأمريكية على ما هى عليه فى المنطقة. ذلك هو الاستنتاج الرئيسى الذى خرجت به الصحيفتان فى تغطيتهما للأزمة.
●●●
هذه هى الهواجس الرئيسية التى تشغل الرأى العام الأمريكى: الإسلام السياسى وكيفية دحره أو التعامل معه، وبالتالى فلم يكن مستغربا أن تحتفى النيويورك تايمز بمرسى كما فعلت. نعم هو إسلامى، ولكننا يمكن العمل معه.
شخصيا السؤال الذى كنت أحاول الإجابة عنه ليس مدى تأثير انتماء مرسى للإخوان على سياسته الخارجية بقدر ما إذا كانت لديه أية نوايا لتأسيس سياسية مصر الخارجية، خاصة فى الملف الفلسطينى، على أسسس مختلفة عن تلك التى انتهجها مبارك.
فعلى مدار ثلاثين سنة انتُزع، عمليا، ملف فلسطين من وزارة الخارجية وعُهد به لجهات أمنية «سيادية»، هذا بالرغم من أن هذا الملف هو أكبر وأٌقدم ملفات وزارة الخارجية المصرية، التى هى بدورها أقدم الوزارات المصرية وأكثرها حرفية. فخبراء السياسة الدولية والتاريخ والقانون الدولى المعنيون بفلسطين والعاملون فى الخارجية المصرية ليسوا بالقليلين، وعلى مدار عقود طويلة راكموا خبرات مهمة، وأنتجوا دراسات رائدة واقترحوا حلولا مبتكرة لهذه القضية الشائكة.
ولكن ولشىء بنفس مبارك انتُزع هذا الملف المهم من وزير الخارجية، وعلى مدار سنوات طويلة تولاه عمر سليمان، وأثناء الأزمات العديدة التى شهدتها الساحة الفلسطينية فى سنوات مبارك الأخيرة كان عمر سليمان وليس وزير الخارجية هو من يقصده الدبلوماسيون والوفود الأجنبية فى محاولة الوصول لحل. فأثناء حرب إسرائيل السابقة على غزة عام 2008 وأثناء الاقتتال الداخلى بين فتح وحماس وأثناء أزمة الرهينة جلعاد شاليط كان لوزارة الخارجية دور صغير جدا، أما من تبوأ موقع الصدارة فكان دوما عمر سليمان.
وطوال هذه السنوات تعامل عمر سليمان مع هذه الأزمات، كما المتوقع، من منطلق أمنى بحت، وغاب التاريخ والقانون والحقوق. وبات الحديث يدور ليس عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى بل عن مواعيد وشروط فتح معبر رفح، وعوضا عن استخدام القانون الدولى كوسيلة لإجبار إسرائيل عن تقديم تنازلات كان الاهتمام منصبا على فتح قنوات اتصال بين الموساد والمخابرات الفلسطينية، وبدلا من الاحتكام للتاريخ جرى التركيز على قوائم العناصر «الإرهابية» الخطرة التى تطالب إسرائيل مصر بتتبعها.
هذا المنطق الأمنى الاستخباراتى الذى ينحى القانون والحق والتاريخ جانبا هو ما زلنا نراه مهيمنا فى تعامل مرسى مع عملية «أعمدة الدفاع» التى شنتها إسرائيل على غزة. صحيح أن من وقفت هيلارى كلينتون بجانبه عند إعلانها التوصل للهدنة كان وزير الخارجية محمد كامل عمرو، ولكن وكما نوهت الصحف الأمريكية، من كان له الفضل فى الوصول لهذه النهاية السعيدة كان اللواء رأفت شحاتة رئيس جهاز المخابرات. فشحاتة، مثل سلفيه رضا موافى وعمر سليمان، ذو خبرة طويلة بالملف الفلسطينى، وكان له دور محورى فى المفاوضات التى أدت للإفراج عن جلعاد شاليط. وأبرزت الصحف الأمريكية الكبرى الدور المحورى الذى يلعبه شحاتة فى إيجاد قنوات اتصال بين الإسرائيليين وبين حماس، وخاصة أحمد الجعبرى «رئيس أركان حركة حماس» الذى اغتالته إسرائيل مؤخرا والذى أدى اغتياله لاندلاع المواجهات الأخيرة.
وكان من نتيجة اضطلاع الأمن بالدور الرئيسى فى هذه التسوية الأخيرة أنها جاءت، مثل الكثير من التسويات السابقة، مركزة على النواحى الأمنية ومهملة الجوانب السياسية والتاريخية والحقوقية. وبالتالى استمر مسلسل أسرلة السياسة الخارجية المصرية بانتهاجها نفس المنهج الأمنى الذى تتبعه إسرائيل فى تعاملها مع كل ملفاتها الشائكة: الأمن أولا وعلى حساب كل الاعتبارات أخرى.
●●●
لا أحد يطالب استبعاد الأمن والمنطق الأمنى من رسم السياسة الخارجية المصرية، وخاصة تلك المتعلقة بملف فلسطين مع ما لهذا الملف من تقاطعات مع الحركات الجهادية فى سيناء. ولكن ما كنا نطمع أن نراه هو تحول حقيقى فى سياستنا الخارجية وانتهاج رؤية جديدة عن الأمن القومى، رؤية لا تحصر الأمن القومى فى الجانب الاستخبراتى والمعلوماتى بل تتعداه لتشمل التهديد الناتج عن ممارسة الاستبداد.
كنا نطمع من رئيس جاء نتيجة ثورة قامت للمطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية أن تعكس سياسته الخارجية هذه المطالب السامية، وكنا نحلم أن نرى مصر تبنى سياستها الخارجية، خاصة تجاه فلسطين، على مبادئ القانون الدولى والحقوق التاريخية وعلى التصدى للاستبداد الذى تمارسه على الفلسطينيين إسرائيل وأيضا حركتا فتح وحماس.
على أنه يبدو أن مرسى يتبع خطى مبارك فى محاولة كسب ود الإسرائيليين والأمريكيين، وفى انتهاج سياسة خارجية تكرس الاستبداد ولا تقاومه أو تتصدى له.