نُشر في “فيسبوك” في ١٠ نوفمبر ٢٠١٢
هذه بعض ملحوظات سطرتها لنفسي كنقاط استرشادية قبل ذهابي لمقابلة الأستاذ ممدوح إسماعيل في حلقة الأمس من برنامج “بتوقيت القاهرة” التي أدارها الأستاذ حافظ المرازي، والتي تجدون رابطا لها أسفل هذا البوست. وكنت أتمنى أن أتمكن من طرح فكرة واحدة من هذه الأفكار، في محاولة حقيقية لمعرفة ما الذي يقصده الإسلاميون بالـ”شريعة” ، وأيضا في محاولة مني لتوضيح خطأ الاعتقاد الشائع لديهم أن كل من يطرح هذا التساؤل إما عميل مستقوي بالغرب أو خائن للأمانة التاريخية التي تحتم عليه التمسك بالهوية. وكنت أتمنى التواصل مع الأستاذ ممدوح لتوضويح فكرة بسيطة وهي أنه توجد أسباب وجيهة ، غير العمالة للغرب أو خيانة الأمانة التاريخية، التي تستدعي طرح السؤال الأساسي: ما الذي تقصدونه بتطبيق الشريعة؟
وسأترك لكم الحكم عما إذا كنت نجحت في طرح بعض تساؤلاتي، وعما إذا كان الأستاذ ممدوح إسماعيل ساعدني على الإجابة على هذه الأسئلة التي أعتقد أنها مشروعة.
مشكلتي مع جمعة “تطبيق الشريعة
أولا: عدم وضوع المعنى المقصود بـ”تطبيق الشريعة”؟
وتحديدا عدم الاعتراف بالاختلافات الهامة بين المذاهب، فالإسلاميون من إخوان وسلفيين وجهاديين وجماعة إسلامية يعتقدون أن الاختلافات بين المذاهب السنية الأربعة اختلافات هينة ويقللون من أهميتها . على أن أي قارئ في الفقه أو في تاريخ القضاء في الإسلام يدرك أن هذه الاختلافات لها تبعات مهمة.
فمثلاُ في قضايا التفريق (وهو نوع من أنواع الطلاق):
الأحناف لا يقبلون بالتفريق إلا في حالتي العنة (أي الضعف الجنسي لدى الرجل) والردة.
وبالتالي في حالة الزوجة التي تطالب بفسخ نكاحها لغياب الزوج يشترط الأحناف مرور 99 أو 120 عاما على غياب الزوج حتى يسمح للزوجة بالتفريق.
أما الشافعية والحنابلة فعندهم الأمر أيسر، وهو ما حدا بالنساء، كما توضح سجلات المحاكم الشرعية، للجوء للقضاة الشافعيين أو الحنابلة للحصول على حكم بالتفريق.
ولنأخذ مثالا آخر، الخلع:
والجدير بالذكر هنا أن الخلع لم يكن بدعة ابتدعها المجلس الأعلى للمرأة، بل كان ممارسة شرعية أقبلت عليها المرأة بالرغم مما يشكله الخلع من إهدار لحقوقها المالية.
ومرة أخرى هناك فروقا كثيرة بين المذاهب في هذا الموضوع، وتوضح السجلات أن مذهب ابن حنبل كان أيسر المذاهب في هذا الموضوع، وهو ما حدا بالمرأة للذهاب للقاضي الحنبلي لكي تحصل على حكم بالخلع.
ولنأخذ مثالا ثالثا، الحرابة، أي قطع الطريق:
الآية الكريمة تقول: “إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الَأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوا مِنَ الَأرْضِ…) (سورة المائدة : 33)
ولكن توجد اختلافات عميقة بين المذاهب في كيفية تفسيرها، وتحديدا في النقاط الآتية: :
أولا في تعريف الجريمة
أبو حنيفة: يجب أن تكون في مكان لا يوجد فيه إمكانية الغوث، وبالتالي فلديه الحرابة لا توجد في المصر، أي في المدينة.
الشافعية اشترطوا الشوكة والتكبر، وبالتالي يمكن أن تحدث في المصر.
ثانيا تعريف المحارب
أبو حنيفة يقول إن النساء لا يمكن أن يكن محاربات “لرقة قلوبهن وضعف بنيتهن”، وبالتالي فإن وجدت إمرأة ضمن عصابة تقطع الطريق خارج المصر، لا تعد محاربة ولا يطبق عليها حد الحرابة. وهو الأمر الذي له تبعاته لأن أبا حنيفة يقول أيضا إن الرجال المشاركين للمرأة في هذه الجريمة يسقط عنهم هم الآخرين حد الحرابة ويعاقبوا كسارقين أو قاتلين.
أما باقي المذاهب فتختلف في هذا الأمر عن الحنفية.
ثالثا طريقة الإثبات
فبينما يجمع كل الفقهاء على أهمية الإقرار والشهادة في إقامة البينة في هذه الجناية، إلا أنهم اختلفوا بخصوص جواز قبول شهادة الرفقة، أي المعتدى عليهم. فالشافعي، على عكس سائر الأئمة، يقول في كتابه “الأم” إن “شهد شاهدان من أهل رفقة [المقتول في حادثة حرابة] لم تجز شهادتهما لأنهما خصمان”.
إن هذه الاختلافات ليست اختلافات هينة، وهي اختلافات في تفسير واحد من جرائم الحدود، وتبعات هذه الاختلافات خطيرة، وعدم تحديد أي من المذاهب سيعمل به في البت في قضايا الحرابة له تبعات خطيرة.
وإذا كان الأمر كذلك في الحدود، التي يفترض أن أمرها واضح الدلالة فما بالك بالمواضيع الأخرى التي لم يرد بها نص صريح في القرآن أو السنة.
ثانيا. المشكلة الثانية هو اعتقاد الإسلاميين أن الشريعة ولدت كاملة سامية شاملة، وهذه هي كلمات عبد القادر عود الشهيرة في كتابه “التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي”.
مشكلتي مع هذا الادعاء هو إغفاله للتاريخ، فالفقه الذي بين أيدينا بصرامته وعبقريته وجمال منطقه وروعة بيانه لم يولد هكذا بل تطور عبر مئات السنين، و بالتالي فإن اقتصار نظرتنا لفترة الرسول والخلفاء الراشدين كفترة وحيدة يجب الاقتداء بها يمكن أن يجعلنا نهمل فترات أخرى لاحقة قد تكون ملهمة أكثر ومناسبة لحالنا.
كمثال على ذلك، يذكر وكيع (متوفى سنة 306 هـ / 918 م) فى كتابه «أخبار القضاة»، وهو من أهم المصادر التى وصلتنا عن تاريخ القضاء الشرعى فى أوائل عهده، يذكر قصة القاضى كعب بن سور الأزدى الذى عينه عمر بن الخطاب قاضيا على البصرة عام 14 من الهجرة. يقول وكيع إن رجلا اشترى من رجل أرضا، فوجدها صخرة، فاختصما إلى كعب بن سور؛ فقال كعب: أرأيت لو وجدتها ذهبا أكنت تردها ? قال: لا؛ قال: فهى لك. هذه الإجابة التى قدمها كعب والتى لم يبد عمر بن الخطاب تحفظا عليها لا تعتبر إجابة صحيحة حسب قواعد الفقه كما تبلور فى القرون اللاحقة، إذ إن أغلب المدارس الفقهية السنية تعتبر أنه فى هذه الحالة كان يجب على القاضى أن يحكم للمشترى بأحقيته فى تعويض. الأمر هنا لا يتعلق بخطأ كعب بن سور، وهو المعين من قبل عمر بن الخطاب، بقدر ما هو يتعلق بوضع الفقه فى فترة السلف الصالح، فالفقه فى هذه الفترة المتقدمة من التاريخ الإسلامى كان لا يزال فى طور التشكيل ولم يكن قد اكتمل بعد، وبالتالى فحصر رؤيتنا لتلك الفترة واتخاذها دون سواها كمثال يجب أن يحتذى قد لا تكون أفضل وسيلة لفهمنا ماهية الشريعة.
المهم هنا هو تركيز الإسلاميين على فترة السلف الصالح وإهمالهم لثلاثة عشر قرنا من تاريخ الإسلام وتحديدا من تاريخ المجتمعات الإسلامية وتاريخ الدول والأنظمة الإسلامية. كل ذلك يسقطوه عندما يركزون على فترة الرسول والخلفاء الراشدين دون سواها، وعندما يغفلون تاريخ الممارسة الفعلية مفضلين التركيز على تاريخ الفكر (أي الفقه). وبالتالي أرى في موقفهم اللاتاريخي هذا تعاليا ليس فقط على المختلفين معهم في الوقت الحاضر، بل أيضا تعاليا على كل من سبقهم في التاريخ الإسلامي الممتد على مدار ثلاثة عشر قرنا باستثناء الأجيال الأولى القليلة التي صاحبت ميلاد الدعوة المحمدية.
إن النظر للتاريخ الإسلامي كتاريخ بدأ بلحظة كمال ثم استمر في التدهور على مدار العصور والأجيال هي نظرة قاصرة وغير دقيقة، بالإضافة لكونها نظرة تاريخية خطيرة إذ أن تبعاتها السياسية تحمل قدرا كبيرا من الإقصاء والإسكات والنفي.
ومما يزيد من حيرتي في هذه الموضوع هو وجود المصادر التاريخية العديدة التي تمكننا من النظر بموضوعية لنماذج عديدة لتطبيق الشريعة عبر العصور. هذه المصادر ليست كلها كتب فقه، بل تشمل أيضا سجلات المحاكم الشرعية، ومجموعات الفتاوى، والحوليات التاريخية، وسجلات قضاء المظالم التي سميت في مصر في القرن التاسع عشر بمجالس السياسية والتي تزخر دار الوثائق ببولاق بالآلاف منها.
أما ثالث المشاكل وأهمها هو ذلك الاتهام القوي الذي يوجهه الإسلاميون لكل من يتساءل عن المقصود بالشريعة أو لم يتردد في تطبيقها. هؤلاء في
نظرهم مغيبون منبهرون بالغرب، على أحسن تقدير ، أو مستقوون به، على أسوأ تقدير. هذا إذا غضضنا الطرف عن اتهامات العمالة والكفر التي كثيرا ما يرددها الإسلاميون لكل من اختلف معهم في هذه القضية.
والحقيقة أن هناك الكثير والكثير من الأسباب التي قد تدعوا المرء للتردد عند موضوع تطبيق الشريعة.
فهناك أولا الأسباب التي ذكرتها، أي الاختلاف بين المذاهب والفقهاء. وقديما ازدهر الفقه وقويت الشريعة عندما سمح للفقهاء وللعلماء، من قضاة ومفتين ومدرسين ونظار وقف وغيرهم، كل أن يقضي بما يقتنع به، ويفتي بما يسر الله له، ويتفقه على أيدي من يختاره. أما نموذج التقنين، أي ترجمة الشريعة (أحكاما أو مبادئ) لنصوص قانونية في code ذي أرقام وفصول فتلك هي الطريقة المثلى للقضاء على الفقه وغناه، ولإصابة الشريعة في مقتل.
ثانيا إن أخشى ما أخشاه أن يؤدي التقنين ليس فقط للتخلي عن تنوع الفقه ومرونته بل أيضا لاختيار أكثر الآراء تشددا من كل مذهب وصياغة قانون مصمت، تكمن خطورته إضافة إلى ما سبق في وجود آلة الدولة القمعية الحديثة. ومثالي على ذلك هو مشروع قانون الحرابة الذي قدمه النائب عادل يوسف العزازى عن حزب النور السلفي في شهر مارس الماضي. هذا المشروع بقانون (الذي لم يصدر لحسن الحظ) كان يغفل كل الاختلافات بين المذاهب التي ذكرتها سابقا واختار منها أشدها وأكثرها تزمتا، ثم، وهو الأخطر، كان يعطي أجهزة الدولة الحديثة، من نيابة وشرطة، صلاحيات في إثبات التهمة لم تكن موجودة عند الفقهاء. وبمعنى آخر ما نص عليه هذا المشروع بقانون هو أسوأ مثال لتطبيق الشريعة: تجاهل الاختلافات بين المذاهب (في اختلافهم رحمة)، تجاهل الحديث النبوي الذي يقول (إدرءوا الحدود بالشبهات) بل بالعكس يحث مشروع القانون على الأخذ بالشبهات، وثالثا، تفويض أجهزة الدولة الحديثة بمهمتي التحري وتوقيع العقاب الصارم.
ثالثا، ثم هناك الوقائع التاريخية التي تثبت أن هناك أسبابا عديدة كانت وراء صياغة القوانين المصرية الحديثة مثل القانون المدني والقانون الجنائي والقانون التجاري وقانون المرافعات وقانون الإجراءات الجنائية. إن القول بأن ما لدينا الآن هو قانون فرنسي لا يمت بصلة للبيئة المصرية المسلمة وأنه نتاج تقاعس النخبة القانونية والسياسية المصرية عن القيام بدورها التاريخي وعوضا عن ذلك افتنانها الأعمى بالغرب – كل ذلك هو محض افتراء. والجدير بالذكر أن أهم من نظّر لهذا الافتراء هو طارق البشري في كتاباته العديدة التي شرع في نشرها منذ السبعينات. مشكلتي مع هذه الافتراءات ليس أنها تجيء من شخص كانت له خلفية يسارية، فكل شخص حر في قناعاته؛ مشكلتي أنها تجيء من شخص قانوني تربى في حضن المؤسسة القانونية المصرية العريقة، وكأنه بكتاباته تلك يتبرأ منها ويطالب بالتخلي عنها من منطلق هوياتي بحت.
ما يحز في نفسي بعمق هو أنه بدراستي لسجلات النظام القانوني المصري منذ القرن التاسع عشر تولد لدي تقدير عميق واحترام لرجال القانون المصري منذ قدري باشا وحتى السنهوري باشا. هؤلاء الناس لم يكونوا مفتونين بالغرب وبأنظمته القانونية بشكل أعماهم عن خلفيتهم القانونية وهويتهم الإسلامية، كما يزعم البشري ومن خلفه ملايين الإسلاميين. هؤلاء كانوا فطاحل في القانون ، وكانوا متمسكين بالشريعة منهاجا ونبراسا، ولكنهم كانوا أيضا مدركين، كالشيخ محمد عبده، أن نظام المحاكم الشرعية فيه الكثير والكثير من المشاكل، وأن إصلاحا جذريا يجب الشروع فيه، وأن الحداثة (وليس الغرب) يجب الاشتباك معها إذا كتب للشريعة وللفقه الاستمرار والبقاء، ولذلك عملوا على مزج الفقه كما فهموه بالحداثة القانونية كما فهموها أيضا.
وأعني هنا ممارسات غريبة على الفقه والقضاء مثل: النيابة ومن ورائها حق المجتمع في تحقيق الجنايات، ومنها المحاماة التي لا توجد في الفقه أو القضاء، أو الاستئناف ومبدأ الرقابة على القضاء، وهو أيضا مبدأ غير معروف في القضاء الإسلامي. ومن أهم هذه الأسباب هو اقتناع فقهاء القانون الحداثيون أن مبادئ الشريعة يمكن تقنينها بل يجب ذلك، خاصة لضرورة تلافي المشاكل العديدة التي واجهها القضاة الشرعيون في محاكمهم.
تلك بعض الممارسات التي اعتقد فقهاء القانون المصري الحديث أن عليهم مزجها بالفقه والقضاء والشريعة. وأظن أن محاولاتهم في إحداث هذا المزج كانت نابعة من ثقة مفعمة في النفس ومن إحساس أنهم على قدر المسئولية التاريخية والحضارية، وأنهم باستطاعتهم مواجهة هذا التحدي التاريخي.
كما أظن أن جهودهم تلك كللت بالنجاح وأن هناك الكثير، والكثير جدا، الذي يجب أن ننبهر به في مؤسسة القانون القضاء المصري كما أرسى قواعدها هؤلاء الرجال. وحسبي أن أشير للقانون المدني المصري أو لقانون العقوبات المصري وهما من أسمى وأجمل النصوص القانونية التي يمكن للشخص أن يقرأها في أي نظام قانوني محترم.
ثم يجيء الإسلاميون ويتهمون هؤلاء الناس بخيانة الأمانة والتقاعس عن تأدية المهمة التاريخية والافتنان بالغرب وفي أحيان أخرى حتى بالعمالة للغرب.
وعلى مدار الخمسة عشر الماضية أخذت أبحث في سجلات النظام القضائي المصري المبهر، تلك السجلات المحفوظة في دار الوثائق القومية، مركزا تحديدا على علاقة هذا النظام الجديد بالفقه وبالشريعة، وما رأيته هو مجهود جبار للبناء على الشريعة والفقه، وليس هدمهما أو التخلي عنهما، ومركزين في نفس الوقت على ضرورة إيجاد حلول للمشاكل العديدة التي تطرحها النظرة الجامدة للشريعة.
ولتوضيح ذلك أسوق مثالا من التشريع الجنائي الإسلامي، وتحديدا في قضايا القتل:
فالقتل في الشريعة حق من حقوق العباد، عكس جرائم الحدود الأخرى، وبالتالي فمن حق أولياء الدم أن يقبلوا بالدية أو حتى أن يصفحواعن القاتل. ذلك أمر له تبعات خطيرة على المجتمع وعلى الدولة، ذلك أنه يعني عمليا أن الأثرياء يمكنهم الإفلات بالقتل، كما يمكن الأقوياء في المجتمع من إرهاب الضعفاء حتى يقبلوا بالدية أو حتى بالعفو.
المشكلة الثانية في قضايا القتل تتعلق بطرق الإثبات في الفقه، فحتى يتمكن القاضي من إصدار حكم بالقصاص يجب على القاتل أن يقر بفعلته أو على المدعين أن يأتوا بشاهدين تتطابق شهادتهما في كل التفاصيل. عمليا هذا شبه مستحيل، إذ أنه يعني عمليا أن أحكام القصاص يمكن أن تطبق فقط على القاتل الأهبل الذي يرتكب جريمته في وضح النهار، الأمر الذي يمكن شاهدين عدلين من مشاهدته، أو على قاتل شهم ذي مروءة ونخوة يصحو ضميره فجأة ويذهب للقاضي بعد ارتكاب فعلته ليقر بها. أما وإن أغلب حالات القتل لا يرتكبها أي من هؤلاء القتلة فكان معنى ذلك أن أحكام القصاص في التاريخ (وليس في الفقه) أحكام نادرة جدا. ففي سجلات المحاكم الشرعية المصرية من القرن التاسع عشر، مثلا، نجد أن 2% فقط من قضايا القتل حكم فيها بالقصاص.
وإذا كان الأمر كذلك، فقد رأى فقهاء القانون المصري ضرورة استكمال أحكام الشريعة بقوانين أخرى تسمح للمشرع أن يثبت جريمة القتل بأساليب أخرى وأن يعاقب عليها بعقوبات أخرى. ولم يكن هذا تنازلا عن الشريعة أو إهمالا لها أو حتى اقتباسا من الغرب وقوانينه. ولكنه كان اجتهادا منهم واقتناعا بضرورة إصدار قوانين حديثة تكمل الفقه وتطوره. وهو في رأيي لا يختلف عما يطالب به الإسلاميون في مليونية اليوم.
وباختصار، مشكلتي مع مليونية اليوم أنها تطالب بما قمنا به بالفعل ، كمصريين، على مدار 150 سنة. أما القول بأن ما لدينا هو قوانين غربية غير نابعة من البيئة المصرية فهذا افتراء وكذب وإهدار لمجهود فقهاء قانونيين ودستوريين أجلاء .
رد أختي رانية على البوست والحلقة هنا.