نُشر في “الشروق” في ٤ نوفمبر ٢٠١٢
بجانب قضية المساواة بين الرجل والمرأة وعدم التمييز بينهما فى الحقوق والواجبات تطرح مسألة الحدود نفسها باعتبارها إحدى أهم النقاط الخلافية بين الإسلاميين والقوى المدنية. فهذه القوى المدنية تزعجها الحدود المنصوص عليها فى الشريعة أيما إزعاج، وترى فى تطبيق الحدود من قصاص للقاتل، وقطع يد السارق، ورجم الزانى والزانية، وقطع الأيدى والأرجل من خلاف للمحارب، ترى فى هذه العقوبات الجسدية انتهاكا صريحا لحرمة الجسد، وامتهانا له، وتقول بأن أغلب القوانين الدولية تمنع هذه العقوبات معتبرة إياها عقوبات قاسية وغير آدمية.
ويضيف المنتمون لهذه القوى المدنية أنه لم يثبت إحصائيا أن هذه العقوبات كانت رادعة فى المجتمعات القليلة التى تطبقها، كما تزعجهم هذه العقوبات بكونها نهائية وغير قابلة بطبيعتها لردها ومحو أثرها إذا ثبت خطأ الإجراءات القانونية التى أنتجتها، فالشخص الذى قطعت يده لن يتمكن من استعادتها إذا ثبت أنه لم يسرق، والزانية التى رجمت لن تعود للحياة إذا ظهرت براءتها من تهمة الزنى.
من ناحيتهم، يتمسك الإسلاميون بهذه الحدود على أنها حدود قطعية واضحة الدلالة منصوص عليها فى القرآن وبالتالى فهى لا تحتمل التأويل أو التفسير. على أنهم يضيفون أن الفقه وضع قواعد صارمة للإثبات حتى لا تُوقع هذه العقوبات إلا على من ارتكب فعلا إحدى هذه الجرائم الخطيرة. ويضيفون أنه لا عبرة لما تقوله القوانين والأعراف الدولية، فالشريعة أسمى وأنقى من القوانين الوضعية حتى تلك المنتمية للمبادئ العالمية لحقوق الإنسان. ويؤكدون كذلك، فى محاولة لطمأنة المجتمع، إنهم لن يعملوا على تطبيق هذه الحدود دفعة واحدة، بل سيعملون على تطبيقها بالتدريج، مراعين ظروف المجتمع، ومنتهجين مثال عمر بن الخطاب الذى أمر بتعليق حد السرقة فى عام الرمادة حينما انتشر الجفاف وعم الفقر.
●●●
ما أراه لافتا حقا فى هذا السجال بين القوى الإسلامية وتلك المدنية فى قضية الحدود هو أنه، باستثناء الإشارة إلى عام الرمادة، يكاد يخلو كل هذا السجال من أية إشارة للتاريخ، وكأن التاريخ الإسلامى على امتداد أربعة عشر قرنا لا يحفل إلا بهذا المثال لكيفية تطبيق الشريعة. وفى غياب أية إشارة للتاريخ يعتمد السجال على كتب الفقه كمصدر أساسى لمعرفة معنى الحدود بشكل خاص، وكيفية تطبيق الشريعة بشكل عام.
على أن مصادر التاريخ الإسلامى حافلة بالعديد من الكتب والمؤلفات والحوليات والسجلات التى تلقي الضوء على نماذج عديدة من القضايا التى نفذت فيها الحدود فى الكثير من المجتمعات الإسلامية على مدى قرون طويلة. هذه المصادر التاريخية توضح لنا جوانب جديرة بالتأمل غير تلك التى تركز عليها كتب الفقه من متون وحواشي ورسائل وفتاوى. فمثلا وعلى عكس باب الحدود فى موطأ مالك الذى يوضح المبادئ العامة التى يجب أن تحتذى عند تطبيق الحدود، تحفل سجلات المحاكم الشرعية المودعة فى دور الوثائق المختلفة بالعديد من القضايا التى طبقت فيها الحدود بالفعل. وعلى عكس باب الأقضية فى كتب الفقه التى تضع نماذج لما يجب على القاضى أن يفعله فى محكمته، تحفل كتب أخبار القضاة بما قضى به القضاة الشرعيون بالفعل.
وبدراسة هذه المصادر التاريخية من سجلات المحاكم الشرعية وسجلات قضاء المظالم وكتب أخبار القضاة والحوليات التاريخية يظهر جليا أننا لسنا أول المجتمعات التى توقفت أمام العقوبات الحدية واحتارت فى كيفية تطبيقها، وأنه قد سبقتنا العديد من المجتمعات الإسلامية الغيورة على الشريعة التى تساءلت عن معنى الحدود وجدوى تنفيذها.
على أن أهم ما يلفت النظر فى هذه المصادر التاريخية هو أن مشكلة الحدود فى الماضي لم تكن تتعلق بقسوتها بل بصعوبة إثبات الجرائم التى يفترض أنها تعاقبها.
فكما هو معروف فقهيا فإن عقوبة الرجم لا تنفذ فى جريمة الزنى إلا إذا توافر أربعة شهود عدول، وعقوبة القصاص لا تنفذ إلا إذا أقر القاتل بارتكابه جريمة القتل أو إذا أتى المدعي بشاهدين تتطابق شهادتاهما فى كل تفاصيل عملية القتل.
وتوضح المصادر التاريخية كيف أدت شروط الإثبات الصارمة التى وضعها الفقه إلى استحالة تنفيذ العقوبات فى أغلب الأحيان. فمثلا انتهت دراسة حديثة بالرجوع إلى عينة من مائة قضية قتل نظرت فيها محكمة أسيوط الشرعية بين عامى ١٨٥٧ و١٨٥٩ إلى أن خمسة من هذه القضايا فقط حكم فيها بالدية، بينما حكم بالقصاص فى اثنتين فقط منها. كما تمكنت هذه المحكمة الشرعية من إصدار حكم واحد فقط بقطع اليد فى قضية سرقة.
●●●
إن صعوبة إقامة البينة الشرعية، أى الإثبات، فى قضايا الحدود كانت المشكلة الأعوص التى واجهت المجتمعات الإسلامية الماضية. ففى قضايا القتل، مثلا، أدت الشروط الفقهية الصارمة، عمليا، إلى صعوبة تنفيذ عقوبة القصاص الرادعة إلا فى حالة وجود قاتل ذى شهامة ومروءة لديه الشجاعة الأدبية للإقرار بفعلته أمام القاضى، أو فى حالة القاتل المغفل الذى يرتكب جريمته فى وضح النهار، الأمر الذى يمكن شاهدين عدلين يطمئن القاضي لهما من الإدلاء بشهادتيهما وبالتالي من إقامة البينة على المتهم. أما وأن أغلب قضايا القتل لا يرتكبها قاتل شهم أو مغفل فكان معنى هذا أن هذه الجريمة الشنعاء كانت ترتكب فى غياب عقوبة رادعة مبنية على الفقه.
وإذا أخذنا فى الاعتبار المنطق الفقهي الذي نظر للقصاص على أنه حق من حقوق العباد وليس حق من حقوق الله، أي بمصطلحات القانون الحديث، أن قضايا القتل تندرج تحت بند القانون الخاص وليس العام، لاتضحت لنا المشكلة التى كانت تواجهها المجتمعات الإسلامية الماضية عند تطبيق الحدود. فكما هو معروف فإن أولياء الدم، أى الورثة، هم وحدهم من لديهم الحق فى إقامة الدعوى فى قضايا القتل. كما أن لديهم الحق فى العفو عن القاتل أو فى طلب الدية. وانتبهت الحكومات الإسلامية العديدة على مدى التاريخ إلى أن هذا المنطق يمكن أن يقوض دعائم المجتمع واستقراره، وتوضح المصادر كيف تمكنت الدول الإسلامية العديدة من إدخال أنظمة قضائية موازية للقضاء الشرعي استطاعت بها سد هذه الثغرات الفقهية. فمثلا تظهر المصادر كيف سمحت أنظمة الحكم الإسلامية المتعددة للقضاء الشرعي أن يأخذ مجراه فى قضايا القتل، ولكنها رأت ضرورة استكماله بنظام قضائي آخر يعاقب القاتل الذى عفا عنه ورثة المقتول أو قبلوا منه الدية. فالقتل، فى نظر هذه الحكومات الإسلامية، ليس أمرا راجعا فقط لأولياء الدم، ولكنه جريمة تهدد المجتمع برمته، وبالتالي كان يجب استحداث أنظمة قانونية موازية للقضاء الشرعي حتى ينعم المجتمع بالأمن والطمأنينة.
●●●
إن البحث فى تاريخ الشريعة، كممارسة وليس كفكر، يوضح لنا طبيعة المشكلات الحقيقية التى تكتنف عملية تطبيق الحدود. هذه المشكلات بعيدة كل البعد عن سؤال الهوية الذى يؤرق الإسلاميين، وهى أيضا بعيدة كل البعد عن الهواجس التى تؤرق القوى المدنية من إمكانية تطبيق الحدود. على أن هذا البحث التاريخي يوضح لنا أيضا كيف استطاعت الدول الإسلامية، منذ الأمويين حتى العثمانيين، التغلب على هذه المشكلات وأن تبدع أنظمة قضائية مرنة ومبتكرة تمكنت بها من تطبيق الشرع وفى نفس الوقت حماية المجتمع.
فهل لنا أن نتعلم من هذا التاريخ؟