Press "Enter" to skip to content

الميدان لمن؟

نُشر في “الشروق” في ٢٣ سبتمبر ٢٠١٢

فى زيارة أخيرة لى لمدينة أمستردام استرعى انتباهى ميدان «دام» المسمى عليه المدينة. الميدان يعج بالمارة من سائحين وسكان المدينة الأصليين، منهم من يعبر الميدان على عجل ومنهم من يقصد الميدان لذاته، فالميدان تحيط به المقاهى والمطاعم، وتوجد بأطرافه محال تجارية تجذب الزبائن على أنواعها. هناك أيضا كنيسة ضخمة يعود تاريخ إنشائها إلى القرن الخامس عشر. 

ولكن ما يجذب الناس للميدان ليست تلك الأنشطة الدينية أو التجارية بل الميدان نفسه، فهو مكان للتلاقى وللجلوس، وهو أيضا مكان للفرجة والفسحة، فهناك الحواة الذين يجذبون المارة بألعابهم، وهناك الموسيقيون الذين يعزفون ويرقصون، وهناك من يجلس على الدكة يقرأ كتابا، وآخر يتحادث مع محببوته، وثالث شارد الذهن يتفرج على الحياة التى تدب حوله فى الميدان.

ميدان “دام”، أمستردام، ١٥ سبتمبر ٢٠١٢، من تصويري

●●●

قبل تلك الزيارة بأسبوعين كنت فى لندن فى زيارة أخرى قصيرة، ووجدتنى مشدوها بميدان آخر له نفس الشهرة العالمية أو أكثر. فى ميدان «الطرف الأغر» فى العاصمة البريطانية لفت نظرى شىء لم ألحظه من قبل. فالميدان كما هو معروف يتوسطه عمود عملاق يحتل قمته تمثال للورد نلسون بطل المعركة البحرية التى سمى الميدان على اسمها (١٨٠٥). وفى الأركان الأربعة للميدان توجد أربع قواعد تماثيل، ثلاثة منها لقادة سياسيين وعسكريين (الملك جورج الرابع، وسير تشارلز نابيير وسير هنرى هافيلوك، وكلاهما قادة عسكريون فى الهند)، أما الرابعة فكانت لتمثال طفل صغير على حصان خشب! كانت تلك أول مرة ألاحظ فيها هذا التمثال، وبدا لى منظر الطفل المرح المعتلى صهوة جواده الخشبى غريبا على الطابع الرصين الذى تضفيه على الميدان التماثيل العسكرية. وبقراءة الشرح المكتوب على قاعدة التمثال تبين لى أن هذه المواجهة بين رصانة القادة العسكريين ومرح الطفل هى القصد وراء هذا التمثال، فقد كتب الفنانان اللذان صمما التمثال (أحدهما دانمركى والآخر نرويجى) أنهما قصدا «رفع الطفل لمصاف الأبطال التاريخيين، بالرغم من افتقاره لأفعال بطولية. هناك فقط مستقبل يحلم به. رأينا أن نقيم نصبا تذكاريا لا يحتفى بقيم الانتصار أو الهزيمة، بل يمجد معارك الحياة اليومية».

تمثال الطفل على جواده الخشبي، ميدان الطرف الأغر، لندن، ٢٨ أغسطس ٢٠١٢، من تصويري

لدى عودتى للفندق الذى كنت أقيم فيه أخذت أبحث عن تاريخ هذا التمثال وتبين لى أنه حديث العهد جدا، وأن قاعدة التمثال الرابعة تلك كانت دوما خالية نظرا للاختلاف حول التمثال الأجدر بوضعه عليها. ولكن فى عام ١٩٩٨ استقر الحال على أن تستخدم القاعدة الرابعة لعرض أعمال فنية مؤقتة يجرى استبدالها من حين لآخر. وكان القوة المحركة وراء هذا القرار المبتكر عمدة لندن المنتخب الذى شكل لجنة من بعض الشخصيات العامة والفنانين والموظفين العموميين لاختيار الأعمال الفائزة.

●●●

خطرت فى بالى هذه الأفكار والذكريات عندما قرأت صفحة رئيس الوزراء، هشام قنديل، على الفيس بوك التى دعا فيها المواطنين لتقديم اقتراحات عن الأسلوب الأمثل لإعادة تخطيط ميدان التحرير. أنا لست مولعا بعقد المقارنات بيننا وبين «أوروبا والدول المتقدمة» لتوضيح مدى التخلف الذى نعانى منه، ذلك لأنى كنت دوما أستطيع أن أعقد مقارنة أفضل مع ماضينا نحن، وليس حاضر دول أخرى، لتوضيح هذا التخلف. إلا أنه عند عودتى لتاريخ ميدان التحرير، بل لتاريخ مدننا بشكل عام، لم أستطع العثور على لحظة تاريخية يمكن أن استخدمها كمثال يحتذى.

المثالان اللذان ذكرتهما هما لمدينتين ملك سكانهما، مدينتان يشعر فيهما المواطن بإنسانيته ويستمتع فيهما بحريته ويمارس فيهما حقه فى الاجتماع فى المكان العام مع أصدقائه أو زملائه أو أحبائه، بل يستطيع أن يشارك، كمواطن، فى اتخاذ قرارات تتعلق بشكل المدينة وتخطيطها وتصميمها. أمستردام ولندن، وغيرهما من المدن العالمية، لديهما أماكن عامة تمارس فيها الديمقراطية ليس فقط بتوزيع المنشورات أو بإلقاء الخطب أو بتجميع التوقيعات على العرائض، بل بإتاحة الفرصة لكل المواطنين أن يجتمعوا فى نفس المكان على قدم المساواة، عكس أماكن العبادة التى تستبعد الأغيار وعكس المولات التجارية التى لا تحبذ الفقراء.

أما مدننا، فإضافة إلى تميزها بالقبح وفساد الإدارة وسوء توزيع الدخل، فإنها تتميز بأن أهم مثال للتخطيط فيها هو ذلك التخطيط الذى يجعل من تلاقى المواطنين فيها، كمواطنين متساوين، أمرا مستحيلا. والميادين العامة خير شاهد على ذلك، فميدان رمسيس أو ميدان التحرير، مثلا، لا توجد بهما أشجار يستظل بها المارة، ولا توجد فيهما دكك يجلس عليها الناس للراحة أو للفرجة أو للقراءة أو للتحادث أو حتى للشرود السرحان، وأعمال «التطوير» التى تدخل الميدان من حين لآخر تقتصر على تبليط الأرصفة ببلاط لامع زلق يصعب السير عليه، وبوضع أسوار قبيحة لا تعزل فقط المارة عن السيارات بل تمنع الناس من ملاقاة بعضهم بعضا. أنا لا يساورنى أدنى شك فى أن الغرض الرئيسى وراء تصميم مياديننا هو منع الناس من التقابل والتحادث، وهو ما تطلق عليه السلطات لفظ «التجمهر»، وهو لفظ يوحى طبعا بالخطر وبالخروج على القانون.

●●●

ميدان التحرير، ٢٥ فبراير ٢٠١١، من تصويري

من هنا تنبع أهمية ما قمنا به فى ثورتنا السلمية، فقد نزلنا لميادين التحرير، ووزعنا العرائض وألقينا الخطب وهتفنا بسقوط النظام وطالبنا بزوال العسكر. ولكن الأهم من هذا وذاك أننا قابلنا بعضنا بعضا وتحدثنا مع بعض وتعرفنا على بعض. وكان من نتاج ذلك أن احترمنا بعضا وإن اختلفنا فى الرأى، بل منا من بدأ صداقات وعلاقات تعدت حدود الأصل والدين والطبقة الاجتماعية. كانت ميادين التحرير تعج إذن بأسمى الممارسات الديمقراطية، وبذلك أثبتنا، لمن كان ينقصه الإثبات، أننا جديرون بالديقراطية، قادرون عليها.

●●●

ثكنات جيش الاحتلال بقصر النيل (مكان جامعة الدول العربية وفندق النيل الآن)، أوائل القرن العشرين

وتزداد أهمية الثمانية عشر يوما فى التحرير إذا عرفنا أن الميدان ذاته، بمكانه وزمانه، دليل على صراعنا الأبدى مع القهر والسلطة. فالكعكة الحجرية الشهيرة كانت فى الأصل ساحة تدريب جيش الاحتلال البريطانى، وكانت ثكنات الجيش تحتل الحيز الذى يحتله غربا الآن مبنى جامعة الدول العربية وفندق النيل ومقر الحزب الوطنى المحروق. فإذا أضفنا إلى الجنوب مبنى المجمع الضخم الذى يرمز لبيروقراطية الدولة المصرية العتيدة، وإلى الشمال المتحف المصرى المقام لخدمة السواح الخواجات وليس لمتعة سكان المدينة وتثقيفهم، فيبقى الطرف الشرقى وهو ذلك الخط من البنايات السكنية الذى كان حتى الثلاثينيات من القرن العشرين هو حدود تمدد المدينة غربا، والذى يمكن أن يعتبر بالتالى خط التماس مع السلطة ومؤسساتها (المتحف، المجمع، وزارة الخارجة، جامعة الدول، الاتحاد الاشتراكى/الحزب الوطنى).

ميدان التحرير، ١٩٥٣

ميدان التحرير، إذن، كان طوال تاريخه الحديث أرض فضاء، غير مخططة، نظرت إليه السلطات بريبة وحذر، واعتنت به فقط كتقاطع ضخم للسيارات، واجتهدت لمنع الناس من «التجمهر» فيه، أما الشعب فقد حارب دوما ليجعل من البلد بلده، ومن المدينة مدينته، ومن الميدان ميدانه، وفى الثمانية عشر يوما المجيدة حقق بالفعل انتصارا مدويا فى حربه تلك.

الشعب ينتظر الآن من حكومته المنتخبة أن تترجم انتصاراته فى التحرير لحقائق جديدة تعكس هذه الانتصارات. الشعب لا يريد إقامة نصب تذكارية تدعى تمجيد الثورة ولكنها فى الحقيقة تطوى صفحتها. الشعب يريد أن يرى التحرير ميدانا مملوءا بالناس على اختلاف مآربهم ومشاربهم، ميدانا مفتوحا أمام مقابلة الأصدقاء ومخاطبة الغرباء، ميدانا تمارس فيه أبسط، وأعمق، الممارسات الدمقراطية؛ تلاقى أبناء الوطن الواحد فى المكان العام على قدم المساوة. فإذا لبى هشام قنديل هذا النداء فسيكون قد انتصر فعلا للثورة ولمبادئها السامية.

One Comment

  1. جمال مناع
    جمال مناع 23/09/2022

    اعنفد ان الاسوار تخطت مهمتها من منع التجمهر الي تصدير الاحساس بالمهانة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.