حديث مع سيد جبيل نُشر في الوطن في ١١ يوليو ٢٠١٢
أزمتنا الحالية سببها سؤالان فشلنا فى الإجابة عنهما خلال الـ٢٠٠ عام الماضية، وهما عن «دور الدين فى الدولة» و«علاقة العسكر بالسياسة». وعمق أزمتنا أن الإخوان والعسكر يفتقران لقيادات كبيرة وملهمة، وتواطؤ القضاء مع العسكر. هكذا بدأ المؤرخ الدكتور خالد فهمى رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية حواره مع «الوطن»، مؤكدا أن الصراع الدائر حاليا بين المجلس العسكرى والإخوان، صراع على مؤسسات الدولة التى اندلعت الثورة لاستعادة ملكيتها للشعب، من نظام مبارك الذى اغتصبها وعطلها. الخطر الحقيقى الذى يهدد مصر، كما يقول «فهمى»، هو انهيار تلك المؤسسات بفعل فاعل، خصوصا بعد أن باتت المحكمة الدستورية طرفا فى كتابة الدستور بدلا من تفسيره، والشرطة تؤدى دور النيابة، والجيش ترك مهمته وتفرغ لـ«البزنس»، ولن يسلم السلطة فعليا، باختياره، لأن لديه مصالح فئوية ضخمة جدا، يصعب التخلى عنها، فهو لا يدافع إلا عن الجيش ولا يحمى إلا مصالحه.
كمؤرخ.. كيف تقرأ الموقف الراهن الذى يحتدم فيه الصراع بين العسكريين والإخوان على السلطة؟
يمكن النظر للصراع الدائر على أنه صراع بين الإخوان والعسكر. لكن تقديرى أن الصراع ناتج عن سؤالين انفجرا فى وجوهنا بعد الثورة وهما: ما حدود علاقة الجيش بالسياسة؟ وما دور الدين فى الدولة؟ هذان السؤالان فشلنا فى الإجابة عنهما بشكل قاطع خلال الـ٢٠٠ عام الماضية، ولم نكن مستعدين للإجابة عنهما بعد الثورة. وضاعف من صعوبة اللحظة أن طرفى الصراع الرئيسيين (الإخوان والجيش) يفتقران لقيادات قوية وملهمة قادرة على إدارة هذه اللحظة التاريخية.
لكن الإخوان لديها قيادات كثيرة، والجيش يتحدث بثقة عن فهمه للأمور ورؤيته للمستقبل؟
قيادات الإخوان قد تكون كثيرة، لكنها ضعيفة وليس بينها شخص فى مستوى حسن البنا أو سيد قطب. صحيح عندهم خيرت الشاطر لكنه قائد «تكتيكى» وليس استراتيجى، أى يمكن أن يربح كل المعارك ثم يخسر الحرب! وصحيح أن لدى الإخوان إدراكا لأهمية اللحظة التاريخية التى نعيش فيها، لكن رؤيتهم رؤية
«eschatological»
أى رؤية دينية تتعلق بلحظة «التمكين» التى كتبها الله لهم، حسب ما يزعمون! أما بالنسبة للمؤسسة العسكرية فالوضع أسوأ، فليس بين صفوفها قيادات كبيرة ولا صاحبة كاريزما ولا رؤية، وإذا كانت لديهم رؤية فهى رؤية فئوية قوية جدا، تتعلق بمستقبل الجيش وليس البلد. وحين أسمع أعضاء المجلس العسكرى يتحدثون، أوقن أنهم لا يدركون ولا يفكرون فيما سيقوله التاريخ عنهم، وكيف سيحكم عليهم. هذه كانت مأساة مبارك، لأنه لم يكن مشغولا بحكم التاريخ عليه، ويقال إنه صرخ يوم التنحى فى وجه ابنه جمال واتهمه بأنه «ضيع شرفه العسكرى»! إذا صح هذا فمعناه أن مبارك الذى حكم مصر ٣٠ عاما، مهموم فقط بسجله الوظيفى وليس مكانته فى التاريخ. أعضاء المجلس العسكرى يفكرون بهذا المنطق.
إذن كيف تحكم أنت على قيادات المجلس العسكرى؟ وكيف تقيم أداءهم؟
أنا لا أعرف قادة المجلس، وجزء من أزمتنا أننا لا نعرف شيئا عمن يحكمونا، وأظن أنهم لا يعرفوننا أيضا. وحسب علمى فإن بعض أعضاء المجلس العسكرى أتى بهم المشير حسين طنطاوى من بيوتهم، بعد أن كانوا قد أنهوا خدمتهم. لكن لدى تصور «سسيولوجى» عنهم؛ هؤلاء ضباط لم يعملوا بالسياسة ولا بالحرب، ومعظم خبراتهم تتركز فى إدارة «بزنس» القوات المسلحة، وغير مثقفين لأنهم لا يقرأون، أضف إلى ذلك أنهم تربوا على مبدأ «الطاعة العمياء». كل هذا يجعلنا أمام خلطة مخيفة، وليس صدفة أن يكون «توفيق عكاشة» أكبر بوق إعلامى لهم، فهذا مستواهم!
هل هذا توصيف لهم، لأن البعض قد يعتبره هجوما عليهم؟
هذا توصيف بالطبع، فضباط الجيش ممنوعون من العمل فى السياسة، وهم بالضرورة لا يقرأون، ليس لأنهم لا يحبون القراءة، بل لأن القراءة كانت ممنوعة عليهم، وممارسة السياسة كانت محرمة عليهم منذ أيام عبدالناصر الذى أتى للحكم بانقلاب وكان يدرك خطورة الأفكار على ضباط الجيش، ثم تطور الأمر بعد اغتيال السادات، فصارت كل الكتب ممنوعة على الضباط، خوفا من انتقال عدوى «الإسلام السياسى» إليهم، وربما لاحظت أن نوادى الضباط تكاد تخلو من الأنشطة الثقافية وتقتصر على الترفيه فقط لا غير، وجيشنا ليس لديه تجربة حرب كبيرة منذ ١٩٧٣، أى إن هناك عددا منهم لم يشهد أى حروب على الإطلاق، وما حدث فعليا أن الجيش حين توقف عن الحرب اتجه لـ«البزنس»، الذى تحول إلى إمبراطورية اقتصادية ضخمة يديرها كبار الضباط، فضلا عن أن الجيش المصرى غنى وموفور الموارد.
ماذا تقصد بـأنه «جيش غنى»؟ وما الضرر أن يكون للجيش استثمارات؟
الجيش غنى، لأنه يتحصل على ١،٣ مليار دولار سنويا منذ ١٩٧٩، أى إن نحو ٤٥ مليار دولار دخلت خزانة جيش لا يحارب، وبالتالى لديه فوائض مالية كبيرة، وهى طبعا لا تخضع للرقابة. أما فيما يتعلق بالجزء الثانى من السؤال، فإن الاستثمار ليس وظيفة الجيش الأساسية، خصوصا أن هذه الاستثمارات تشعبت فى كل القطاعات، ولم تقتصر على الصناعات العسكرية، فنشاط الجيش شمل كل شىء من أول بيع المكرونة وصالات الأفراح حتى بناء الطرق والكبارى والصناعات الحربية، مرورا بتصنيع الغسالات والسخانات واستصلاح الأراضى ومحطات بنزين، باختصار كونوا إمبراطورية اقتصادية، تتراوح تقديرات حجمها من ٨ إلى ٤٠% من إجمالى اقتصاد مصر، وبمرور الوقت تحول الجيش لدولة داخل الدولة، ودولة الجيش مستقلة تماما حتى بأنديتها الرياضية وقضائها الخاص، ووصل الأمر إلى أن يقرض الجيش الخزانة العامة مليار دولار.
وكيف انعكس ذلك على أدائه السياسى؟
المؤسسة العسكرية بدأت تتصرف بعيدا عن المجتمع، وحين اندلعت الثورة لم يحتجْ الجيش للتحالف مع أى فصيل. قارن ذلك بجيوش أمريكا اللاتينية، هناك الجيوش ليس لها موارد مستقلة، لذلك هم فى حاجة ماسة للمؤسسات الأخرى، وفى أى انقلاب عسكرى، يبحث الجنرالات هناك عن تحالف مع أحد الأحزاب أو الكنيسة وطبقة كبار الملاك وغيرهم، للحصول على التمويل. هذا لم يحدث فى مصر بعد الثورة، الجيش حقيقة كان فى حاجة لواجهة وليس شريكا، وجزء من تخبطه خلال العام الماضى سببه البحث عن «شريك» يلعب دور الحزب الوطنى، ووجده أخيرا. لكن هذا الشريك لم يكن حزبا، بل قاعدة شعبية من الخائفين من عدم الاستقرار وحزب الكنبة ومؤيدى شفيق. الحقيقة أن الجيش فى وضع صعب لأن مصالحه ضخمة جدا، يصعب التخلى عنها، لكن الجيش لا يحمى إلا مصالحه، ولا يدافع إلا عن نفسه.
وكيف ترى مستقبل الصراع بين العسكر والإخوان فى المستقبل القريب؟
محتقن جدا، لأن المؤسسات التى كانت قادرة على امتصاص ذلك الاحتقان، وهى الآن إما غير موجودة، مثل البرلمان، وإما أداءها معيب، مثل المحكمة الدستورية العليا، التى أصدرت قرارا بحل مجلس الشعب.
وهل أداء المحكمة الدستورية معيب فى تقديرك؟
المحكمة الدستورية العليا جزء من النظام القضائى المهترئ، ورأيى أن الجهاز القضائى متواطئ مع المجلس العسكرى، وأحد مظاهر ذلك التواطؤ هو مسلسل الأحكام المتتابعة بالبراءة لضباط الشرطة المتورطين فى قتل المتظاهرين، فقد أصدرت المحاكم ١٨ حكم براءة فى ١١ محافظة لضباط متهمين بقتل المتظاهرين. والحكم ببراءة مساعدى حبيب العادلى أيضا كان مريبا، وأقر المستشار أحمد رفعت بعجز النيابة عن الحصول على أدلة، وأقرت النيابة قبله بذلك، لكنه بدلا من إعادة القضية للنيابة أو مباشرة التحقيق بنفسه، أصدر أحكاما بالبراءة، والنتيجة أن لدينا نحو ٨٠٠ قتيل لا نعرف من قتلهم. هذه الأحكام ليست خطيرة فقط لأنها لا تحقق العدل، وبالتالى لا تحقق الاستقرار، لأن «العدل أساس الملك»، ولكن لأنها تهدم وتقوض مؤسسة القضاء، التى قضى المصريون عقودا طويلة فى بنائها، ولها تاريخ مشرف، ومنها اتخذت كثير من الدول العربية نظمها القضائية، والحقيقة أن أكثر ما يقلقنى الآن هو انهيار المؤسسات التى خرجت الثورة تطالب باستردادها.
لكن لم يكن بين مطالب الثورة المعلنة أى مطلب يتعلق بمؤسسات الدولة التى تقصدها؟
صحيح أن شعارات الثورة المعلنة هى «حرية – عدالة – كرامة إنسانية»، لكن إذا دققت النظر ستجد أن الناس ثارت لأن مؤسسات الدولة (بدءا من أصغر جمعية زراعية أو مطحن حتى وزارتى الداخلية والخارجية، مرورا بالإعلام والجامعات والمدارس) التى بناها المصريون خلال ٢٠٠ عام، وصلت إلى أسوأ حالاتها، وباتت تعمل من أجل مبارك ونظامه وليس من أجل الشعب. ولا تنسى أن الثورة خرجت فى يوم ٢٥ يناير لتحتج على مؤسسة بعينها وهى الشرطة، وفسادها كمؤسسة أمنية تصدر أولويات المتظاهرين، ولم تكن الوحيدة، فسخط الشعب كان مصدره شعور المتظاهرين بأن هذه المؤسسات لم تكن فى خدمة الشعب، ولا سلطان له عليها، ومن يديرونها فقط يمنون عليه ببعض الخدمات، ويعاملونه كأنه عالة عليها. وفى قلب مطالب الثورة رسالة تقول: «نحن أصحاب البلد، وتلك المؤسسات يجب أن تخدمنا، وأيا كان من يدير البلد ليس إلا موظفا عندنا». وأنا شخصيا شاركت فى الثورة ليقينى أن نظام مبارك بات خطرا على مؤسسات الدولة.
وكيف تُقدر خطورة مبارك نفسه على مؤسسات الدولة؟
كل مؤسسات الدولة التى سيطر عليها مبارك، كانت إما معطلة وإما لا تعمل بكفاءة أو تركز جهودها لخدمة النظام، والهدف الحقيقى من الثورة هو إعادة بناء تلك المؤسسات بحيث لا تخدم أشخاصا بل المجتمع كله. والصراع الدائر الآن بين القوى السياسية المختلفة هو صراع على المؤسسات، التى قضى المصريون عقودا فى بنائها ويحق لنا أن نفخر بها أكثر من الأهرام. وأكثر ما يقلقنى الآن هو إلى أى درجة ستظل هذه المؤسسات متماسكة؟ نحن فى مصر نأخذ نعما كثيرة على أنها أمور عادية ومسلم بها، منها المؤسسات القوية وتماسك وحدة البلد، وأرى أن أعظم إنجازات الثورة ليس ما تحقق ولكن ما لم يتحقق! فمؤسسات البلد تأثرت لكنها لم تنهار، والمجتمع لم يتفسخ ولم تندلع حرب أهلية. وقارن بيننا وبين ليبيا حتى تدرك بوضوح ما أقصده؛ هناك انهارت الدولة وظهرت مطالب الانفصال بمجرد سقوط القذافى. والخطر الداهم أن تنهار تلك المؤسسات فى ظل صراع قائم الآن على السلطة، وهناك بوادر لذلك فالشرطة تقوم بدور النيابة والجيش ترك مهمته وتفرغ للبزنس، والمحكمة الدستورية باتت، بنص المادة (٦٠) من الإعلان الدستورى المكمل، طرفا فى كتابة الدستور بدلا من تفسيره.
ولماذا تنتقد المؤسسة العسكرية فقط على طول الخط؟
أنا لم أثق أبدا أو أطمئن أن الجيش سيسلم السلطة مختارا، هذا ليس من طبيعة الأمور، وهو يعمل منذ تنحى «مبارك» فى فبراير الماضى على تحجيم الثورة، دفاعا عن مصالحه، ويجب أن يخضع الجيش للحساب والرقابة، ليس فقط ميزانية الجيش بل أداؤه العام، ومن حق الشعب معرفة ماذا يفعل الناس الذين يسلحهم بأمواله، وعلى أى أساس تصرف الأموال التى يدفعها.
لكن انتقادك للمؤسسة العسكرية شامل ولا يقتصر على اللحظة الراهنة، لماذا؟
الجيش حقق انتصارا مذهلا عام ١٩٧٣، وكانت لحظة عظيمة فى تاريخ المؤسسة العسكرية المصرية، لكن هذه اللحظة لم تتكرر كثيرا فى تاريخنا ولم يحقق جيشنا انتصارات كثيرة يمكن أن يفخر بها، مثل الجيش التركى مثلا، وانتصاراته فى عهد محمد على لم تكن انتصارات لمصر بل لـ«أفندينا»، فهتافات الجنود كانت: «اللهم انصر أفندينا»، وأعلام الجيش كانت صورا لمحمد على.