نُشر في “أخبار الأدب” في ٢ يونيو ٢٠١٢
منذ أسبوعين كتبت هنا عن ضرورة تحالف قوي التحرير من ليبراليين ويساريين وعلمانيين ضد العسكر، وبعد ظهور نتيجة الجولة الأولي من الانتخابات الرئاسية كررت هذه الدعوة علي صفحتي علي الفيسبوك، ودعوت إلي التصويت لمرشح الإخوان ضد مرشح النظام البائد.
وسرعان ما أن عاتبني أصدقائي علي موقفي هذا وعلي طريقة عرضه، فكنت قد شبهت موقفنا بعد الانتخابات بموقف تشرشل في الحرب العالمية الثانية حينما وجد نفسه في مواجهة خطر الشيوعية وخطر النازية في وقت واحد، فإذا به يختار أخف الضررين ويتحالف مع ستالين ضد هتلر. وأعترف الآن أنه قد جانبني الصواب تماما في عقد هذه المقارنة، فشفيق بفاشيته لا يقارن بهتلر، ومرسي بتعجرفه ليس بستالين، ولا نحن بتشرذمنا مثل تشرشل الذي كان يرأس وزارة.
وقد اعتذرت بالفعل للكثير من الأصدقاء علي تسرعي في دعوتي للوقوف خلف جماعة الإخوان ومرشحها الرسمي، هذا بعد أن ذكروني باستهتار نواب الجماعة بنا في عملية تشكيل الجمعية التأسيسية، وبعد أن استرجعوا معي مواقف كثيرة تخلي فيها نواب الإخوان عنا، من أهمها نفيهم لحقيقة إستخدام الرصاص الحي في أحداث وزارة الداخلية بينما أصدقاؤنا وصديقاتنا مرميين في المستشفيات وأجسادهم مليئة بالرصاص والخرطوش.
ولكن وبالرغم من عدولي عن ضرورة الاصطفاف خلف مرشح الإخوان، فأنا أري أن الاستقطاب الديني-العلماني (إن جاز التعبير) ليس مفيدا ولا هو ضروري، كما أري أن ما يجمع قوي الثورة بشقيها العلماني والديني أهم مما يفرقها. فلا يمكن التغاضي عن الدور الهام الذي لعبه شباب الإخوان في حماية ميدان التحرير في موقعة الجمل، ولا يمكن إغفال نزول الآلاف من سلفيي كوستا للشوارع والميادين ضد أوامر شيوخهم. وأظن أن الكثير من شباب الإخوان والسلفيين يشتركون مع الشباب الليبرالي واليساري والثوري في مزاجه العام، وإن اختلفوا في الخطاب والملبس والمظهر. كما أن دراستي لتاريخ مصر الاجتماعي (وليس تاريخ الفكر) يوضح لي أن المصريين لم يعبأوا كثيرا بهذا الاستقطاب. فالمصريون لم يحجموا مثلا عن الإقبال علي المحاكم الأهلية لأنها لم تكن مستقاة من الشريعة، ولم يعترضوا علي الطب الحديث القائم علي التشريح بدعوي انتهاكه لحرمة الجسد.
خطاب المرجعيات والهوية، في رأيي، خطاب نخبوي لا يعكس اختيارات الناس وإدراكهم لمصالحهم وقضائهم لحوائجهم. الناس تقبل علي المحاكم ابتغاء الحصول علي حقوقهم، وليس تكريسا لهوياتهم، وهم يذهبون للمستشفيات طلبا للعلاج وليس تأكيدا علي أن أجسامنا وديعة من الله.
وبالمثل، فخطاب التنوير الذي يرفعه الكثير من المثقفين والفنانين فيه الكثير من الاستخفاف بالناس والتعالي عليهم. فإطلاق اللحية ولبس الجلباب لا يمكن الاستهزاء به علي أنه نتيجة وعي زائف أو تمسك بقشور الدين أو تأثر بالفكر الوهابي النفطي.
ما أقصده هو أن الكثير من الاستقطاب العلماني الديني هو نتاج خطاب نخبوي أكثر من كونه يعكس حقيقة مجتمعية. وإن كان صحيحا أن النخب العلمانية والدينية مسئولة بدرجة ما عن هذا الاستقطاب، إلا أني ألقي بالجزء الأكبر من اللوم علي جماعة الإخوان المسلمين، فهم الآن أصحاب الأغلبية البرلمانية، الأمر الذي يحتم عليهم التصرف بقدر أكبر من المسئولية الوطنية.
من أهم إنجازات ثورة يناير أنها فتحت المجال السياسي علي مصراعيه، الأمر الذي أعطي لنا، نحن المصريين، أن نشتبك مع أهم سؤالين طرحهما تاريخنا الحديث: ما هو موقع الدين في السياسة، وما هو دور الجيش في السياسة. وأنا وإن كنت متأكدا أننا نشهد بداية نهاية حكم العسكر، أري في نفس الوقت أن سؤال علاقة الدين بالسياسة لا يجب أن يحسم في الشارع أو حتي في صناديق الانتخاب. هذا سؤال صعب يستدعي خفض حدة الاستقطاب بين فصائل الثورة، كما يستلزم وقفة شجاعة مع النفس تقوم بها جماعة الإخوان المسلمين حتي تتصالح ليس فقط مع شركائها في الوطن ولكن أيضا مع ماضيها ومع مستقبلها المتمثل في شبابها الثوري.