نُشر في دويتشه فيله في ١٦ يوليو ٢٠١١
أعادت الاعتصامات الأخيرة في ميدان التحرير ومدن مصرية أخرى الجيش المصري إلى دائرة الضوء وطرحت تساؤلات جدية حول علاقته بالثورة. ولفك “ألغاز” هذه العلاقة أجرت دويتشه فيله الحوار التالي مع المؤرخ المتخصص في تاريخه خالد فهمي.
دويتشه فيله: كيف يمكن النظر للمؤسسة العسكرية المصرية في إدارتها للبلاد الآن بمنطق التاريخ القريب (ثورة يوليو) والتاريخ البعيد (التأسيس، أي عصر محمد علي)؟
خالد فهمي: يمكن النظر إلى المؤسسة العسكرية المصرية في تاريخها القريب عبر ثلاثة مراحل: هناك ثورة يوليو بمركزية مشهدها الانقلابي، وهي تختلف عن جيش الهزيمة والعبور ثم السلام، وهناك جيش مبارك. والمراحل الثلاثة يكتنفها الغموض بالنسبة للمؤرخين، فأرشيف الجيش المصري ليس مفتوحا للدارسين. والكلام عن أي فرد في المؤسسة تابو محرم، ومن ثم نحن مضطرون لمواجهة صندوق الأسرار هذا وفقا لما يرشح عنه من معلومات في كتب أجنبية أو مقالات صحفية دولية. وأهم ما طرحته الثورة هو ضرورة التعامل مع هذه المؤسسة على أنها “ملك الناس”. فمكونها الأساسي هم المجندون ويحق للمجتمع، الذي فوضها للقيام بوظيفة الدفاع عنه، أن يشرف عليها ويراقب أعمالها. وهذا تحديدا ما يفسر مقاومة المؤسسة الآن للاقتراب من مناطق نفوذها.
أنت تكتب منذ وقت طويل عن أحقية المصريين في معرفة ما حدث في هزيمة يونيو 1967 وفي أكتوبر 1973، ألم يفاجئك شخصيا أداء المؤسسة العسكرية منذ بداية الثورة وحتى الآن؟
المؤسسة العسكرية فوجئت واضطرت للتضحية بمبارك. ثمة ذكاء انبثق فجأة من دعمها للثورة، ضحوا بالجناح السياسي للنظام من أجل بقاء الجناح العسكري سليما. وفيما اخترع الناس في الميدان منذ اللحظة الأولى شعار “الشعب والجيش يد واحدة” من أجل طمأنة أنفسهم و”تثبيت” الجيش، سارعت المؤسسة للاستيلاء على الشعار وتحويله إلى دعامة للغدر بالثورة نفسها، لكن الأسابيع الثلاثة الأخيرة أعادت المؤسسة لنقطة الصفر. فارتباك إدارتها للمرحلة الانتقالية (تباطؤ المحاكمات، الدفاع عن الجهاز الأمني، تعطيل محاكمة مبارك) وأخيرا الخطاب التهديدي لأحد قياداتها، يؤكد أن ذكاء تلك المؤسسة على المحك.
هل نستطيع الحديث عن نسخة جديدة للجيش اسمها “جيش مبارك” مختلفة عن الخط العام للجيش المصري تاريخيا؟
نستطيع أن نتحدث عن “نسخة مبارك” الشخصية، التي يتحدث عنها باحثون أجانب اهتموا بالشأن المصري منذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات. فمنذ أن كان مبارك مديرا لمدرسة الطيران عرف عنه الانضباط الصارم، وكبيروقراطي عسكري صغير قادر على إدارة من حوله عبر السيطرة النفسية القائمة على الإمساك بالزلل والدناءات الصغيرة لمرؤوسيه.
ألا تعتقد أن الأمر لا يقف عند حدود شخصية مبارك؟ بمعنى تأثير اتفاقية السلام في إضفاء فراغ إيديولوجي على عقيدة الجيش وكذلك بما فعله الزواج الكاثوليكي بأمريكا في جيش تربى على العداء لها ولإسرائيل؟
أتفق معك في السياق العام لهذه الأفكار. وإذا علمنا أن امتيازات المساعدات الأمريكية، التي تدفع للجيش المصري، تكون في الغالب لمصلحة قياداته العليا، نستطيع إذن التأكد من حجم الفساد الواقع داخله. وإذا ما أضفنا الفجوة العمرية التي جعلت من مبارك والمشير طنطاوي وحولهم اثنان أو ثلاثة فوق السبعينيات، لأدركنا حجم الفجوة الجيلية الجبارة التي صنعها مبارك بسياسته لتفريغ الجيش من كل من شارك في الحروب الماضية، وهو ما يفسر نزول القيادات الصغيرة للميدان في 9 أبريل لدعم الثورة.
هل تراهن فعليا على وجود خلاف بنيوي داخل المؤسسة العسكرية بما يفيد الثورة؟
نعم؛ لأن جزءا من ارتباك المجلس العسكري الآن هو نتاج لانقسام داخلي على ما يبدو. سأحكي لك قصة طريفة: قابلت قريبا أحد فلول النظام السابق، روى لي كيف كان طنطاوي يظهر في اجتماعات مجلس وزراء مبارك أقرب للصيغة اليسارية. كان يقاوم إجراءات خصخصة البنوك الوطنية مثلا، لأن تلك البنوك ببساطة هي غطاء لأنشطة الجيش المالية والاقتصادية. كان المشير، حسب هذا القيادي، مستمتعا بقدرته على فرملة المجموعة الاقتصادية الليبرالية، ليس إيمانا بتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، بل دفاعا عن مصالح مؤسسته التي تحتكر شركاتها قطاعا كبيرا من الاقتصاد المصري. وبنفس المنطق يقاوم العسكر الآن فكرة تولي مدني قيادة الدولة. فهم لا يتخيلون مصر كأمريكا مثلا، يستطيع أوباما المدني إزاحة وزير الدفاع، أو أن تتحدث الصحافة مثلا عن القدرات العسكرية والتأهيلية لرئيس الأركان، هذا بالنسبة لهم خط أحمر.
ألا ترى أن بعضا من ضمير ثورة 25 يناير يعبر عن ضجر من حكم المؤسسة العسكرية؟
هذا مؤكد، فالجيش عاش طويلا محميا في ثكناته، معتمدا على رصيده الرمزي التأسيسي، وهذا الرصيد ينفذ في أرض الواقع. فالجيش بعد الثورة لم يحقق الأمن، ولا الحسم، ولا العدالة، لخصومه كما لمواليه. وكلما بقي متورطا في العملية السياسية تجرأ الميدان على رفع شعارات لم يكن أصغر ضابط يتخيلها في كوابيسه. وكلما بقي في الشارع ستزداد الفجوة بين جهازه السياسي وقواعده من الضباط الذين يختلطون ويفكرون في حجم الفوارق الضخمة بين حياتهم وحياة جنرالاتهم، خاصة بعد أن انكشف غطاء الفساد عن مئات المليارات التي مرت بموافقة الجيش أو تواطؤه.
هل ترى التحالف بين الجيش والقوى الإسلامية وليد ميل محافظ تقليدي أم أنه وليد ميل إسلامي في الجيش الذي تأثر منذ الثمانينيات بما شمل المجتمع المصري من نزوع نحو التدين؟
هناك على ما أعتقد تنازع هويات داخل الجيش؛ فالبعض يرى في حجاب زوجة المشير ميلا إلى الإسلام، وآخرون يرون في خاتم زواجه الذهبي انفصالا عن هذا الميل. لا معلومات حقيقة عن نوعية التدين داخل الجيش، لكن التحالف التكتيكي جاء عبر إغراءات التيار الإسلامي بالتحالف والتمكين من الشارع. والجيش وجد في الإخوان عونا في معركة الاستفتاء على التعديلات الدستورية. المشكلة أن بعضا من التيارات الليبرالية والقومية تلهث بوثائق واقتراحات تضع للجيش مستقبلا في مكانة غير قابلة للانتقاد.
يتواتر الحديث حاليا حول صيغة “أردوغانية”، مرشحا الرئاسة عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد سليم العوا يروجان لعلاقة بين الجيش والقوى الإسلامية على النموذج التركي، كيف ترى ذلك؟
لقد عشت فترة منذ عام ١٩٨٩ في تركيا، أي في لحظة بداية مشروع نجم الدين أربكان. الأمر مختلف عن مصر. لقد نزع إسلاميو تركيا الأمر من إطار الهوية الإسلامية، ووصلوا إلى الحكم من خلال تبني قضايا وهموم دنيوية كالنظافة في إسطنبول، وبخطاب للطبقة الوسطى اقتصادي اجتماعي. إسلاميو مصر يصرون على سؤال الهوية، ولا يدركون السياق التاريخي الذي أنجز النموذج التركي. لا أعتقد أن السجال السياسي الحالي حول هوية مصر كاف لعقد تحالف طويل المدى بينهما، فالإسلاميون لا يقدمون خارطة واضحة لمصر، وتحالف الجيش معهم على المدى الطويل محفوف بالمخاطر؛ كلاهما يفتقد لرؤية إستراتيجية مستقبلية، وهي رهينة بتفاعل قوى عديدة لن تترك لهما المجال للانفراد بتحديد مصير البلاد.