Press "Enter" to skip to content

الثورة ستنزع القدسية عن الجيش

نُشر في النهار في يونيو ٢٠١١

خالد فهمي: الثورة ستنزع القدسية عن الجيش

في بحثه التأريخي “كل جنود الباشا” عن بنية الجيش المصري الحديث منذ تأسيسه في عهد محمد علي باشا، يقدم خالد فهمي معطيات نقدية جديدة عن تركيبة هذا الجيش وقراراته. “النهار” التقته في القاهرة وحاورته حول الدور الراهن للجيش والمجلس العسكري بعد الثورة.

بناءً على دراستك التأريخية النقدية التي تناولت فيها لحظة تأسيس الجيش المصري الحديث، كيف تنظر الى دور هذا الجيش؟
– حين أفكر في أدوار الجيش المصري وبنيته ومساره، يتهيأ لي – مع إقراري بأنه مؤسسة يتجاوز حجمها وتركيبها مجموع أعضائها – أنه 8050817جماعات بشرية وأفراد وأشخاص تتنازعهم مواقع وخيارات وأهواء متباينة، وفقاً لحقب وحوادث وسياقات ومنعطفات مختلفة.
فما كان يهمني هو دراسة بنية الجيش المؤسسية، وتركيبه وآليات اشتغاله واتخاذ القرارات فيه، وصولاً الى تعيين الفئات الاجتماعية التي تحملت منظومته وتوجهاته وحروبه. فأنا لا أهتم، مثلاً، بمعرفة علاقة جمال عبد الناصر بعبد الحكيم عامر في حرب حزيران 1967.المهم في نظري هو معرفة كيفية تلقي الجنود المصريين في ميدان المعركة أمر الانسحاب من سيناء، وكيفية انسحابهم ومقتل من قتل منهم وأين دفنوا؟ فمعرفة وقائع من هذا النوع، الى أنها تفتح باب الإطلاع على الوثائق المكدسة في وزارة الدفاع، وباب السجال حولها وحول الحوادث التاريخية التي لا تزال وثائقها الرسمية سرية، فإنها (أي معرفة الوقائع) تتيح إنشاء رواية جديدة عن الحوادث.
لا مهرب من بيان الآليات التي تؤكد أن الجيش مؤسسة قمعية. فحين خدمت في الجيش متطوعاً، عايشت مقدار الإذلال الذي يتعرض له الجنود والمتطوعون. وآليات التجنيد العسكري، لا تخرّج جنوداً حسني التدريب، بل مواطنين مقموعين ومقهورين.

 هناك من يقول إن الجيش المصري دخل في منطقة رمادية في عهد الرئيس مبارك الذي سلط على الدولة فئة من الرأسمالية الريعية والطفيلية، مما أشعر الجيش بالتهميش في السنين العشر الأخيرة، وخصوصاً مع مشروع التوريث الرئاسي الذي وقفت ضده فئة من قيادات الجيش. وهنالك من يقول ايضاً إن مشروع التوريث، لو نجح، لكان من الصعب أن يحظى بالشرعية من دون إضطرار جمال مبارك الى الحصول عليها من الجيش الذي وقف الى جانب الثورة محافظة على مكتسباته وكيانه، ليقول البعض إنه استعاد شيئاً من أمجاد “ثورة الضباط الأحرار”. كيف تشخص الدور الراهن للجيش؟

– بعيداً من تلك السيناريوات الافتراضية، أنا أرى أن الجيش الآن مضطر الى أن يأتمر بأمر الشعب. فقادة الجيش الذين يمسكون مقاليد الأمور الآن، أرغموا عل التصدي لهذا الدور، لأنقاذ أنفسهم ومواقعهم. لكن لكل من هؤلاء القادة في المجلس العسكري سيرته وتاريخه العسكري. فبعد تشكيل المجلس نُشرت في الصحف معلومات عن أعضائه. وهناك ثلاثة أو أربعة من أعضاء المجلس خدموا في أفغانستان أيام حرب المجاهدين الأفغانية في ثمانينات القرن العشرين، وكانوا جزءاً من إدارة التعاون الاستخباري والعسكري بين القاهرة وكابول وواشنطن، ومنخرطين في عمليات تجارة السلاح بين هذه العواصم الثلاث. وهناك مجموعة أخرى من القادة العسكريين منخرطون في شبكات تجارة السلاح في أفريقيا التي تشكل مصر بوابتها. وما يظهر من الصفقات وعمليات الفساد التي يبرز فيها إسم حسين سالم، ليست سوى الجزء الضئيل من عمليات وصفقات كبرى اضطلع فيها كبار قادة الجيش في إطار مؤسسي. فالإنفاق الحربي الذي يقال إن نسبته تراوح ما بين 8 و25 في المئة من الاقتصاد الوطني، وفقاً للأرقام الرسمية، لا يشكل سوى قمة جبل الجليد من العمليات والصفقات الاقتصادية الضبابية أو السوداء، ومنها تجارة السلاح التي لم تكن عائلة مبارك وحاشيته تقومان بها إلا بالتعاون الوثيق مع كبار ضباط الجيش. وهؤلاء الضباط جميعاً خائفون من انكشاف أمر ما هم ضالعون فيه. لكن ما هو مستتر الآن لن يبقى طي الكتمان في غدٍ قريب. فالثورة بدأت ترسي تقاليد جديدة من تداول الاخبار والمعلومات في العلنية العامة. والأسئلة الصعبة التي ستبدأ قيادة المؤسسة العسكرية بمواجهتها في غضون هذه السنة أو في السنة المقبلة، سوف تتعلق بماضيها القريب وبموازنتها. وهذا ما بدأ يتناول فعلاً مؤسسة الشرطة وصفقاتها، ولن يُعفى الجيش من هذه الاسئلة. لذا يصرّ المجلس العسكري الآن على وضع بند في الدستور الجديد يمنع رئيس الجمهورية المقبل من التدخل في شؤون الجيش. من الصعب أن تعود الأمور الى ما كانت عليه في هذه الامور. فأثناء عملي الجديد على توثيق يوميات الثورة بالتعاون مع “دار الوثائق القومية”، أرسلت لنا إدارة الدار مسودة قانون جديدة لتنظيم عمل هذه المؤسسة، يتضمن مادة تستثني من أحكام القانون كل وثائق وزارة الدفاع. لكننا رفضنا هذا الاستثناء واستطعنا حذفه من مسودة القانون الجديد.
اليوم صار في مستطاع المواطن العادي أن يقول لضابط الشرطة: أنا دفعت لك 200 جنيه غرامة، فعليك أن تعطيني إيصالاً يثبت ذلك. وقد تكون المشكلة التي تعتر سبل هذا السلوك، هي افتقادنا اليوم لإطار مؤسسي ينشّط التعبير عن هذا التوجه ويعمقه ويحميه ويعممه. أما الجيش فتحوطه هالة مزمنة من القداسة الوطنية والسرية في مصر. لذا سيكون التصدي للجيش على هذا المستوى صعباً وطويلاً، ويحتاج الى أساليب دقيقة ومتوازنة في إدارة المعركة معه. لكن المؤسسة العسكرية لن تبقى مسورة بهذه الهالة، وقادتها مدركون أن المعركة معهم آتية.
أمس في الذكرى السنوية لمقتل خالد سعيد، رُفعت شعارات تعلن أن ليس من خط أحمر سوى المواطن المصري، رداً على شعار سابق أشاعته المؤسسة العسكرية يقول إن الجيش خط أحمر. واللافت أن المتظاهرين رفعوا شعاراتهم المعاكسة أمام وزارة الدفاع التي يعتبر بناؤها حصناً منيعاً وضخماً، يبعث على الرهبة في لونه الاسود وهندسته المستوحاة من المعابد الفرعونية. لكن المتظاهرين قاموا بإلصاق صور خالد سعيد على صورة النسر الكبير المنصوبة على مدخل الوزارة الرئيسي. ما يؤجل المجابهة مع الجيش ايضاً، أن أخبار ممارسة التعذيب، غير منتشرة حتى الآن، إلا بين العاملين والناشطين في المجال الحقوقي.

 كيف تنظر، إذاً، الى شعار “الجيش والشعب يد واحدة”؟
– الشعار الوحيد الذي لم أردده أثناء مشاركتي في التظاهرات، هو هذا الشعار، الذي كنت مدركاً أن الناس يرددونه من باب إحراج الجيش.

 في دراستك عن بنية الجيش في عهد محمد علي باشا، بيّنت مقدار القسوة والعنف والعبودية التي تعرض لها الفلاح المصري اثناء موجات التطويع القسري في الجيش. اليوم كيف ترى الى بنية الجيش المصري، وخصوصا في حقبة مبارك الرئاسية التي يقال ان الجيش استُعمل في اثنائها كيد عاملة مجانية لانجاز مشاريع خاص لمستثمرين من الحاشية السلطوية.
– اود اولاً الاشارة الى اعتزاز فئات واسعة في بلدان المشرق العربي بالوطنية القومية المصرية وبوطنية الدولة والجيش المصريين منذ تأسيسهما الحديث في مطالع القرن التاسع عشر. وذلك لأقول ان هذا الاعتزاز ينطوي على شيء من الخطأ والخطورة. يجب على المشرقيين، كما يجب على المصريين، أن ينظروا الى الريادة المصرية في ما يتعلق ببناء الدولة والجيش، نظرة نقدية جديدة، برغم افتقاد البلدان العربية، كلبنان وسوريا والعراق وليبيا، الى ما اُنجز في مصر على هذين الصعيدين. وما اريد التنبيه اليه هو الكلفة البشرية والمادية والاخلاقية المترتبة على بناء الدولة والجيش في مصر، منذ ايام محمد علي باشا وحتى اليوم. فدولة محمد علي كان الجيش محورها وعمودها الفقري، وغاب عنها المشروع التنويري غياباً تاماً. وادعاءات التنوير التي جرى الصاقها بدولة محمد علي، كانت كلها نابعة من حاجا الجيش، وخصوصاً في مجالين اساسيين من مجالات الحداثة، ألا وهما القانون والطب. فأقدم مؤسسة طبية في المنطقة، وهي مستشفى القصر العيني في القاهرة، نشأت كمستشفى عسكري. لدي وثائق تثبت ان اطباء هذه المستشفى كانوا يجرون تجارب التشريح الطبي على اشخاص احياء ومرضى. واحدث القوانين المصرية ليست سوى قوانين عسكرية. فقوانين العمل الاولى نشأت لتبيح التحكم بالفلاحين في العزب الزراعية، ومن حق صاحب العزبة انشاء سجن لمعاقبة الفلاحين العاملين في ارضه. وقانون ملكية الارض لا يخلو من وجه عسكري قهري اساسي في مصر منذ دولة محمد علي. فقوانين الملكية الخاصة لم تنشأ لأن هنالك طبقة او فئة اجتماعية جديدة حاولت انتزاع ملكية الارض من الدولة، كما يُشاع في الادبيات المستعجلة، بل هي نشأت نتيجة وقوع الدولة مالكة الارض، في ازمة مالية كبرى بعد انخراطها في مشاريع كبرى داخل السوق العالمية. ما أود قوله ان ذهنية بناء الدولة المصرية الحديثة في خدمة الجيش، وضعت الركن الاساسي لعملية استعباد الاهالي، وخصوصاً الفلاحين. وثورة عرابي قامت تمردا على هذه الذهنية، وقد اجهضت بعد تدخل اوروبي. لذا نحن في حاجة ماسة الى اعادة قراءة لكيفية نشوء الدولة المصرية الحديثة ولنزع ما يلابس ذلك النشوء من تعظيم، لأن المشروع كله كان محكوماً بذهنية عسكرية عميقة الجذور، لا تزال آثارها ماثلة الآن، بعدما كلّفت الشعب المصري اربعة اجيال او خمسة عاشت في حال من القهر السلطوي. اخيراً ما احاول قوله للمشرقيين ان حماسهم للدولة المصرية القوية المركزية التي نشأت في بدايات القرن التاسع عشر، يجب ان يهدأ ويخضع للتبصر والمساءلة، وخصوصاً ان حقبة مبارك الرئاسية ادت الى تقويض هذه الدولة، على صعيد التعليم والقضاء والاعلام والادارة.

هل ستتمكن الثورة الراهنة من انجاز قطيعة ما مع هذه الذهنية؟
– ما نعاني منه في هذه اللحظات، ليس ما يسمى الثورة المضادة، بل لأننا أنجزنا ثورة ناقصة، او غير مكتملة، لأنها لم تستطع التعرض للمؤسسة العسكرية. فلو ان المتظاهرين دخلوا الى وزارة الدفاع، بعد دخولهم الى وزارة الداخلية ومقرات امن الدولة والحزب الوطني، لاختلفت حال الثورة اختلافا جذرياً.

 لكن هل كان ذلك ممكنا؟
– لا لم يكن ممكنا. لذا اقول ان قدراتنا أوصلتنا الى ثورة ناقصة، من دون الاستهانة بالانجاز الكبير الذي حقّقه الشعب المصري: اسقاط نظام مبارك في علاقاته الدولية والاقليمية، واسقاط جهازه الامني وحكومته ومشروع التوريث، وزجّ رأس النظام وبطانته في السجون. وما احاول الاشارة اليه لا يتوخى اسقاط الجيش كمؤسسة، بل كدور سلطوي متحكم في ادارة الدولة التي دفعنا دماً وجهداً كبيرين لبناء مؤسساتها، طوال قرنين من السنين. فالمؤسسات هذه هي التي تميّز الدولة المصرية عن غيرها من دول المنطقة. لكن محاولة الجيش اليوم الا تفتح الثورة سجلاته في العلنية العامة، لن يكتب لها النجاح. انه الآن يحاول العثور على شكل من اشكال توازن القوى يتيح له التهرب من المساءلة وتحمل مسؤولية اخطائه التي يريد الباسها لأي طرف غيره. في تركيا “حزب العدالة والتنمية”، لا يزال المجتمع التركي يحاول الحد من قوة المؤسسة العسكرية وسلطتها، وهو ينجح في هذا، خطوة فخطوة. في مصر امامنا طريق صراعية طويلة لا بد ان تستغرق سنوات. لكن الورشة بدأت ولن تتوقف. وها نحن نتكلم في الموضوع. صحيح ان لا احد يقول الآن اننا نريد وزيرا مدنيا للدفاع، ونريد فتح ملفات الفساد في المؤسسة العسكرية، لكن الكلام على الفصل بي المجلس العسكري الحاكم، والجيش كمؤسسة، بدأ كمناورة سجالية قامت بها مجموعة من الصحافيين، وقد نجحت المناورة في ايجاد مساحة لنقد المجلس العسكري الذي ما ان ينسحب من سدة الحكم، سوف تستمر مساءلة ضباطه الكبار. ردات وارتكاسات كثيرة ستحصل لكن المسار الذي أطلقته الثورة من الصعب ان يتوقف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.