نُشر في “البديل” في ١٦ يونيو ٢٠٠٨
في خطابها منذ عشرة أيام الذي أعلنت فيه رسميا إنهاء حملتها الانتخابية حاولت هيلاري كلينتون أن تنهي العداوة مع معسكر غريمها باراك أوباما وأن توحد أنصار الحزب الديمقراطي وراء السيناتور الشاب. وفي إشارة واضحة منها على أنها من الآن وصاعدا ستحمل لواء غريمها السابق استخدمت كلينتون واحدا من أنجح شعارات حملة أوباما وأكثرهم تأثيرا:
“Yes we can”
، أي ما يمكن أن يترجم بعاميتنا إلى “أيوه حنقدر”. وكما هو واضح تكمن جاذبية هذا الشعار البسيط في قدرته على إلهاب مشاعر الأمل والتحدي والنشاط وعلى التواصل مع قاعدة عريضة من الناخبين الذين انجذبوا لأوباما لأسباب عديدة منها تحديدا أنه لم يكن المرشح الأوفر حظا للفوز بل كانت كل التوقعات تقول إنه سيخسر أمام غريمته المحنكة سياسيا.
كانت أول مرة يستخدم فيها أوباما هذا الشعار في يوم ۸ يناير بعد ظهور الانتخابات التمهيدية لولاية نيوهامبشير. وكان أوباما قد حقق انتصارا مدويا قبل خمسة أيام فقط في انتخابات ولاية أيوا حيث حصل على ۳۸% من الأصوات بينما جاء ترتيب كلينتون الثالثة بنسبة ۲۹%. وكانت كل التوقعات تقول إن أوباما سيحافظ على هذا الزخم وسيحقق فوزا مماثلا في نيوهامبشير، وإذ بالنتيجة تظهره وقد خسر لكلينتون بفارق نقطتين اثنتين. حينئذ ظهرت ملكات أوباما الخطابية وبراعته في التواصل مع جمهوره، ففي خطاب قصير لم تزد مدته عن العشرين دقيقة استطاع أوباما أن يبث الأمل في قلوب مستمعيه وأن يقنعهم بأن تلك لم تكن سوى انتكاسة صغيرة سرعان ما سيتغلب عليها، وهو الأمر الذي أثبتته الأيام، وإذ بهذا الخطاب يتحول سريعا على شاشات التليفزيون وعلى مواقع الإنترنت إلى الحدث الأهم، ووجدت كلينتون نفسها وهي المنتصرة في هذه الجولة من الانتخابات وقد سُرقت منها أضواء الإعلام وأقلامه.
ما يلفت النظر في هذا الخطاب ليس فقط تأثيره السحري على مستمعيه بل أن كاتبه لا يزيد عمره عن ۲٦ سنة. هذا ليس خطءا مطبعيا، فكاتب هذا الخطاب وكل خطابات أوباما شاب صغير اسمه جون فاڤرو لم يتعد عمره ستة وعشرين عاما. وتجلت عبقرية فاڤرو ذلك اليوم عندما استطاع في ساعات معدودة أن يعيد صياغة خطاب النصر الذي كان قد فرغ لتوه من كتابته إلى خطاب يعترف فيه رئيسه بالهزيمة، ولكنه أبقى على روح الخطاب الأصلي الكامنة في هذا الشعار الذي أصبح منذ تلك اللحظة شعار حملة أوباما برمتها: “أيوة حنقدر”.
هذه الشاب الموهوب كان قد عمل لفترة قصيرة في حملة جون كيري عام ۲۰۰٤، وفي مؤتمر الحزب الديمقراطي في ذلك العام الذي دشن رسميا حملة كيري انبهر فاڤرو مثله مثل الملايين من الأمريكيين بباراك أوبما الذي اختير لإلقاء الخطاب الرئيسي في المؤتمر. وسرعان ما أن تعرف السيناتور الشاب الذي كان يبلغ من العمر وقتئذ ٤۲ عاما بهذا الشاب وأجرى معه مقابلة قصيرة سأله فيها عن سبب اهتمامه بالسياسة، فجاء رده أنه مثله مثل أوباما تواق للتغيير بعد أن سأم سنوات حكم بوش الطويلة.
وعندما نجح أوباما في الحصول على مقعد في مجلس الشيوخ ثم عندما دشن حملته للرئاسة وجد فاڤرو نفسه يعمل بلا انقطاع حتى تقلصت ساعات نومه في اليوم الواحد لثلاث ساعات فقط. على أن أهم تحدي واجهه فاڤرو لم يكن ساعات العمل الطويلة أوالتفاني في العمل الذي يتوقعه أوباما من كل من يعمل معه، بل عندما وجد نفسه يعمل ككاتب خطب لسياسي معروف بمهاراته كخطيب مفوه يدرك أهمية الكلمة ووطأتها ولديه القدرة على التواصل مع مستمعيه بشكل لم يعهده الأمريكيون منذ جون كينيدي ومارتن لوثر كينج. إضافة إلى أن أوباما كان قد سبق أن أثبت نفسه ككاتب بارع في سيرتين ذاتيتين حققتا نجاحا منقطع النظير. وبمعنى آخر فأوباما ليس كالكثير من الساسة الذين يوكلون إلى كتاب خطبهم مهمة اختيار الجمل والكلمات بعد تلقينهم بعض الأفكار العامة والخطوط العريضة لما يودون قوله، بل إنه يولي خطبه أهمية قصوى ويعتني بأصغر تفاصيلها. وبالتالي فكان على فاڤرو أن يثبت أن ملكاته ككاتب ستتغلب على قلة خبرته، ومما لا شك فيه أنه نجح في ذلك نجتحا باهرا، ومما ساعده على ذلك إيمان أوباما به وبناؤه لعلاقة احترام بينهما تسمح لأوباما أن يجلس مع فاڤرو دون وسطاء لمدة نصف ساعة تقريبا يستمع فيها فاڤرو لما يود أوباما أن يصيغه، بعدها ينكب فاڤرو على صياغة خطاب وكأن أوباما هو الذي كتب كل كلمة فيه. ثم يظهر أوباما على خشبة المسرح وينقل مستمعيه بكلمات فاڤرو إلى آفاق قلما حلقت فيها الخطب السياسية الأمريكية.
لقد كُتب الكثير عن حملة أوباما المبهرة وعن طبيعتها غير التقليدية. ومما لا شك فيه أن توق قطاعات عريضة من المجتمع الأمريكي للتغيير هو ما حاول أوباما أن يعكسه في حملته الانتخابية الناجحة. ولكن ما يميز أوباما أيضا هو قدرته على أن يبث الأمل في نفوس الملايين من الناخبين وأن يقنعهم أن التغيير مطلوب ليس فقط للتخلص من سنوات بوش الثقيلة بل أيضا لأنهم يستحقون مستقبل أفضل وقادرون على تحقيقه. وجون فاڤرو وإن كان ليس الوحيد من مساعدي أوباما الذين يصغرونه في السن بكثير إلا أنه يمثل ربما بشكل أكثر من غيره أهم ملامح حملة أوباما للحصول على أهم منصب سياسي في العالم: التفكير بشكل غير نمطي والحيوية والجدية والأمل.