Press "Enter" to skip to content

الانسحاب الإسرائيلى من غزة: خطة شارون والفرص الفلسطينية

نُشر في مجلة “البوصلة” في ٢٩ أغسطس ٢٠٠٦

تبدو واقعة وجود أكثر من 3.5 مليون فلسطينى، متمسكين بتمايزهم عن المشروع الصهيونى، وما يسفر عنه ذلك من ضغوط دولية على إسرائيل، التحدى الأساسى أمام هذا المشروع العنصرى. يبين خالد فهمى فى هذا المقال كيف أن إصرار شارون على إتمام الانسحاب من قطاع غزة وجزء من شمال الضفة يمثل حلا مؤقتا لمجابهة هذا التحدى، يبين فى نفس الوقت حدود قدرات الدولة الإسرائيلية، والآفاق الممكنة لتحقيق مزيد من الخطوات نحو استعادة ما يمكن الحصول عليه من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطينى.

فاجأ رئيس الوزراء الإسرائيلى، أرييل شارون، العالم أجمع عندما أعلن فى ربيع 2004 عن خطته أحادية الجانب لـ”فك الارتباط” مع قطاع غزة. وقد انتهى المحللون الغربيون إلى أن تحولا مهما قد طرأ على تفكير شارون، حيث اقتنع برؤية منافسيه فى حزب العمل لإمكانية التسوية مع الفلسطينيين وبمبدئهم القائل بضرورة التنازل عن الأرض مقابل السلام. وبالتالى ظهر شارون كمن يمتلك بالفعل رؤية تاريخية لحل هذا الصراع الدامى الذى امتد لما يزيد على قرن من الزمان.

وفى داخل إسرائيل نفسها أحدثت خطة فك الارتباط لغطا كبيرا نظرا لأنها جاءت من رجل عُرف عنه دائما إيمانه بـ”أرض إسرائيل الكبرى” وتبنيه للاستيطان كأهم الوسائل لفرض حقائق جديدة على الواقع استباقا لأية تسوية سياسية مع الفلسطينيين. وسرعان ما تعالت الأصوات من اليمين المتدين ومن غلاة المستوطنين بمقاومة أية محاولة لاقتلاع مستوطنى قطاع غزة من “ديارهم”، وعدم شرعية الخطة حسب قراءاتهم التوراتية، وبالتالى حض جنود الجيش على عصيان أوامر إخلاء المستوطنين بالقوة.

أما على الجانب العربى فقد أحدثت خطة شارون ارتباكا كبيرا فى صفوف الفلسطينيين ولدى الحكومات العربية المعنية وبخاصة المصرية. فخطة شارون هى حسب نصها نفسه خطة “فك ارتباط” أحادية الجانب وليست خطة “انسحاب” مبنية على اتفاق بين جانبين. وبرغم اقتناع الكثيرين بالإخطار المخيفة الكامنة فى الخطة أعلنت السلطة الفلسطينية مرارا أنها ترحب بأى انسحاب إسرائيلى من أية بقعة فلسطينية. ومن ناحيتها سعت مصر لوضع خطة فك الارتباط فى إطار خارطة الطريق التى التزم بها الرئيس الأمريكى جورج بوش، ولكن دون نجاح كما سنوضح لاحقا.

ويحاول هذا المقال التعرف على الملامح العريضة للخطة ووضعها فى سياقها التاريخى وربطها بالأزمات القانونية والأخلاقية والديموجرافية التى تعانى منها إسرائيل، ومن خلال ذلك يحاول أن يبرهن على أن الخطة لا تنبع من تسليم شارون بعدم شرعية الاحتلال وانعدام أخلاقيته، أو حتى اقتناعه بأهمية الانسحاب من الأراضى الفلسطينية المحتلة لتحقيق السلام، بل رغبته فى التخلص من صفة “الاحتلال”، الموصومة بها إسرائيل، عن طريق انسحاب جزئى مشروط، وكذلك وأد محاولة إقامة الدولة الفلسطينية التى يزداد الإجماع الدولى حولها. وأخيرا يحاول المقال أن يقدم اقتراحا بما يمكن للفلسطينيين عمله إزاء هذه الخطة الخبيثة مبنيا على التجربة المصرية فى مقاومة الاحتلال البريطانى.

ملامح الخطة وأهدافها:
فى صدر نص الخطة كما أعلنها مكتب شارون فقرة ملفتة تقول إنه “إذا تم الوصول إلى أية اتفاقية دائمة فى المستقبل لن يكون هناك تواجد إسرائيلى فى قطاع غزة. ولكن [تضيف الفقرة سريعا] من الواضح أن بعض المناطق من يهودا والسامرة [الاسم الذى تطلقه إسرائيل على الضفة الغربية] ستظل جزءا من إسرائيل”.

كما تنص مادة أخرى على أن “دولة إسرائيل ستقوم بمراقبة الحدود الخارجية [للقطاع] وستشرف عليه، وسيكون لها، دون غيرها، الحق فى التحكم فى المجال الجوى، كما ستواصل عملياتها العسكرية قبالة ساحل قطاع غزة.” وتؤكد الفقرة التالية على أن القطاع سيكون منزوع السلاح كلية. ثم تضيف مادة ثالثة أن “دولة إسرائيل تحتفظ لنفسها بحق الدفاع عن النفس، ويتضمن هذا القيام بإجراءات وقائية بالإضافة إلى استخدام القوة ضد تهديدات نابعة من داخل القطاع”. وينطبق نفس الشىء على النذر اليسير من الضفة الغربية التى انسحبت منه إسرائيل (وهو أربع مستوطنات: “جانيم” و”كاديم” و”صا- نور” و”هومش”).

وهكذا فإن الخطة أبعد ما تكون عن إعادة السيادة إلى الفلسطينيين على هذه القطعة من أرضهم، ولا تقوم بأى حال على مبدأ السعى لحل سياسى للصراع التاريخي الطويل يقوم على مبادئ العدالة أو القانون الدولى. أما الأهداف التى يبتغيها شارون من وراء تلك الخطة، ومواطن الخطر فيها، فهى إنهاء صفة الاحتلال، وشراء الوقت، والأخطر وأد مشروع الدولة الفلسطينية:

(١) إنهاء صفة الاحتلال
من أهم دوافع الخطة محاولة تخفيف الضغط الأخلاقى الذى تتعرض له إسرائيل مؤخراً والذى يصورها كدولة محتلة. وهذا عامل مهم، وإن كان ليس أهم العوامل؛ فإسرائيل شديدة الاهتمام بصورتها الدولية، وحريصة على إسباغ الشرعية على أفعالها. وبرغم أن هذا الضغط ليس جديدا، إذ تحثها مختلف القرارات الدولية على التخلى عن الأراضى المحتلة منذ حرب ١٩٦٧، فإن وتيرته زادت بشكل كبير مؤخرا فى المحافل الدولية وفى الدوائر الليبرالية الغربية (مثل الجامعات والمراكز البحثية والصحف اليسارية). وجاءت فتوى محكمة العدل الدولية بخصوص الجدار الذى تقيمه إسرائيل على الأراضى الفلسطينية التى صدرت فى الصيف الماضى (٤ يوليو ٢٠٠٤) لتعيد التأكيد على صفة الاحتلال وعلى عدم مشروعية بناء الجدار من وجهة نظر القانون الدولى.

وبالرغم من أن الكثير من المراقبين والمحللين الإسرائيليين كانوا قد توقعوا ألا يكون رأى المحكمة الاستشارى مؤيدا لهم، إلا أن صيغة هذا الرأى ولغته وحيثياته القانونية المسهبة، إضافة إلى تطرقه إلى نقاط لا ترتبط بالجدار مباشرة (مثل التأكيد على حق تقرير المصير للفلسطينيين) – كل ذلك أجبرهم على إدراك حرج موقفهم الأخلاقى والقانونى فى المحافل الدولية، وأن ركوبهم لموجة “الحرب على الإرهاب” التى توجهها الولايات المتحدة، وإن كان قد ساعدهم فى قمع الفلسطينيين، فإنه لا يكفى لإلغاء وضعهم كدولة محتلة.

وبخصوص قطاع غزة فقد ازدادت فى الآونة الأخيرة مطالبة إسرائيل إما بالانسحاب من القطاع (ومن سائر الأراضى العربية المحتلة في حرب ١٩٦٧) أو بتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بالأراضى المحتلة وبالتزامات دولة الاحتلال تجاه الشعب الواقع تحت الاحتلال، الأمر الذى نجحت إسرائيل فى تحاشيه حتى الآن. ومن هنا جاء فى نص الخطة أنه بعد تنفيذها “لن يكون هناك أي أساس للادعاء بأن القطاع أرض محتلة”. وسعت إسرائيل منذ إعلان الخطة للترويج لأنها تعفيها من مسؤوليتها كدولة احتلال، وتنقل تلك المسؤولية إلى السلطة الفلسطينية أو المجتمع الدولى.

غير أن هناك مشكلتين أساسيتين فى هذا الزعم. فقطاع غزة والضفة الغربية يشكلان فى نظر القانون الدولى وحدة ترابية واحدة، وقد قبلت إسرائيل بذلك بتوقيعها على اتفاقية أوسلو، وبالتالى لن يزيل الانسحاب من جزء واحد فقط من هذه الوحدة الترابية صفة الاحتلال قانوناً. ولكن حتى بالنسبة للقطاع ذاته، فإن القانون الدولى قد حدد (فى اتفاقية لاهاى لعام ١٩١٠) مفهوم الاحتلال قائلا أن “العبرة فى الحكم بزوال الاحتلال ليس توقف سلطة الاحتلال عن ممارسة سيطرتها على المنطقة وإنما قدرتها على فرض هذه السيطرة”. وبالتالى فإن احتفاظ إسرائيل بحقها فى مراقبة الحدود الخارجية [للقطاع] والإشراف عليه والتحكم فى المجال الجوى، الخ ما مر بنا، يبقى على صفة الاحتلال فى عرف القانون الدولى.

ومما يثير الدهشة حقا غياب الجهود العربية الداعمة للفلسطينيين فى هذا المجال الحقوقى والقانونى، الذى هو من أقوى الأوراق فى أيدى الفلسطينيين والعرب عموما فى المحافل الدولية وفى المفاوضات الثنائية مع إسرائيل، إضافة إلى أهميته فى التواصل مع الرأى العام الغربى. فلم تسع الحكومة المصرية مثلاً إلى التأكيد على أن صفة الاحتلال سوف تظل لصيقة بإسرائيل حتى بعد تنفيذها لبنود الخطة.
وبشكل عام يلاحظ فى الفترة الأخيرة انتقال الملف الفلسطينى من الخارجية المصرية إلى جهاز المخابرات بشكل كامل، سواء فيما يتعلق بما يسمى “التنسيق بين الفصائل الفلسطينية” أو مسألة مراقبة الحدود المشتركة. وهو الأمر الذى اعترف به وزير الخارجية، أحمد أبو الغيط، فى حديث له مع جريدة الحياة اللندنية فى ١٦ يوليو ٢٠٠٥. وفحوى تسليم للملف للمخابرات تغلب الرؤية الأمنية القائمة على التخوف من ظهور دولة “حماسية” على الحدود الشرقية لمصر، على حساب أية معايير أخرى بما فيها القانون الدولى، ناهيك عن الحقوق التاريخية المشروعة للشعب الفلسطينى.

(٢) شراء الوقت:
الهدف الثانى من أهداف شارون هو محاولة حل المشكلة الديموجرافية التى باتت تهدد المشروع الصهيونى برمته. فكما هو معروف تقوم الصهيونية على مقولة أساسية وجوهرية وهى حق اليهود الأبدى والأزلى فى “أرض إسرائيل”، ذلك الحق الذى لا يمكن أن يوصف إلا بأنه حق عنصرى. وإزاء حقيقة وجود شعب آخر يعود تاريخ وجوده على نفس تلك البقعة إلى مئات السنين فقد حاولت الصهيونية التشكيك فى وجود هذا الشعب بتصويره كمجرد أفراد وجماعات “لاجئة”، يتحمل العرب، لا إسرائيل، مسؤولية توطنيهم، أو القول بأنه شعب ليس له حق تاريخى فى فلسطين. وساند هذه المقولات أكاديميون أمريكيون وبريطانيون وغيرهم. ولكن تصدى لهم باحثون آخرون، منهم الباحث اليهودى نورمان فينكلستين، أثبتوا تلفيق مزاعمهم.

على أن أنجح محاولة صهيونية فى التعامل مع معضلة وجود شعب فلسطينى هو الاعتراف بوجود أشخاص غير يهود على أرض إسرائيل، لهم بعض الحقوق المدنية والسياسية، ولكنهم محرومون من حقوق أخرى بحكم أنهم ليسوا يهودا، وفقا للإيديولوجيا الصهيونية المؤسسة للدولة، التى لا تقوم على حق المواطنة مثل القوميات الليبرالية الغربية.

وقد جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية لتوضح للإسرائيليين مدى صعوبة نفى وجود شعب بأكمله. فبرغم نجاح المشروع الصهيونى فى القرن الماضى فى خطته الاستيطانية وتشريد جزء لا يستهان به من الشعب الفلسطينى، تبقى داخل حدود إسرائيل عند إقامتها عام ١٩٤٨ نحو ثمانون ألفا من الفلسطينيين بلغ عدهم الآن حوالى المليون. وبعد حرب ١٩٦٧ أضيف لهم فلسطينيو الضفة والقطاع ويبلغ عددهم الآن حوالى ثلاثة ملايين.

وبحسبة سريعة تأخذ فى الاعتبار ارتفاع نسبة الزيادة السكانية لدى الفلسطينيين مقارنة بالإسرائيليين اليهود نستطيع أن ندرك مدى القلق الذى يشكله هؤلاء “الأغيار” على الهوية اليهودية لإسرائيل وعلى المشروع الصهيونى ككل. إذ يمكن الجزم بأن غير اليهود سيشكلون أغلبية السكان فى إسرائيل بحلول عام ٢٠٢٠. وحتى وقت قريب كان هناك حلين اثنين لتلك المعضلة، يتمثل الأول فى إدماج فلسطينيي الضفة والقطاع داخل إسرائيل ومعاملتهم كأمثالهم من فلسطينيي الداخل، أي أن يصبحوا مواطنين إسرائيليين لا يتمتعون بنفس الحقوق التى يتمتع بها اليهود ولكن يتمتعون بحق الانتخاب والترشيح، الأمر الذى يطرح إمكانية وصولهم للحكم عن طريق صناديق الاقتراع ليضعوا نهاية ليهودية الدولة. أما الحل الثانى فهو إنهاء احتلال الضفة والقطاع وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم (منقوصة بالطبع). على أن هذا الحل يستلزم مفاوضات جادة مع الفلسطينيين والتنازل عن معظم الأراضى المحتلة عام ١٩٦٧، وهو الحد الأدنى الذى يستطيع أى زعيم فلسطينى أن يقبل به وأن يسوغه لشعبه.

هنا تتمثل عبقرية شارون فى التكتيك فى طرحه لخطة فك الارتباط، فالخطة فى فحواها محاولة للتخلص من ١،٣ مليون فلسطينى يسكنون القطاع. وقد قصد شارون بذلك أولا تجزئة القضية الفلسطينية، بأن يعزل ثلث الفلسطينيين عن إخوانهم فى الضفة والقدس (هذا إضافة إلى عدم اكتراثه أساسا بالملايين التى تعيش فى المنفى وكثير منهم متمسكون بحق العودة). وهو، ثانيا، يحقق ذلك بالتخلى عن ١% فقط من مساحة فلسطين التاريخية. وهو، ثالثا، يحتفظ لنفسه أيضا بحق التدخل فى القطاع وقتما يريد. ورابعاً وهو الأهم، يؤخر اللحظة التى يتمكن فيها الفلسطينيون من تشكيل أغلبية سكانية مدة نصف قرن.

وبطرحه لهذه الخطة يكون شارون قد أدرك أخيرا منطق شيمون بيريز فيما كان يقوم به منذ عشرين عاما. وقد طور شارون مفهوم بيريز القائم على مبدأ “الأرض مقابل الأمن” إلى “الأرض مقابل الوقت”، هذا علما بأنه يحتفظ لنفسه بحق إعادة الاستيلاء على تلك الأرض كما بينّا.

(٣) وأد مشروع الدولة الفلسطينية:
أما ما يمكن أن يعتبر ثالث أهداف شارون وأخطرها، فهو قتل إمكانية قيام دولة فلسطينية. ومن المثير للسخرية أن الخطة نفسها توضح ذلك صراحة كما بينّا، أى النص على ضرورة الاحتفاظ بأجزاء من الضفة الغربية.

وقد يكون من نافلة القول التذكير بأن أعداد المستوطنات فى ازدياد مضطرد منذ بداية ما يسمى بـ”عملية السلام” فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى. وحسب آخر إحصاء بلغ عدد المستوطنين حوالى ٣٦٤ ألف مستوطن (بما فى ذلك مستوطنى القدس الشرقية) يقطنون ٤٧٤ مستوطنة تقطع أوصال الأراضى الفلسطينية وتحول الضفة إلى مجموعة من الـ”بانتوستانات” الشبيهة بتلك التى عُزل فيها السود على أيدى نظام الفصل العنصرى فى جنوب إفريقيا، بما يحول دون إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على الضفة الغربية.

وقد أجمع المجتمع الدولى على عدم شرعية المستوطنات، وأكدت الولايات المتحدة نفسها والإدارات الأمريكية المتعاقبة على أن هذه المستوطنات هى العقبة الكئود ضد قيام دولة فلسطينية مستقلة وتحقيق حل الدولتين. ولا شك أن شارون قد أزعجه تبنى الرئيس بوش لرؤية الحل القائم على دولتين وخارطة الطريق. ولذلك سعى جاهدا حتى يفرغ هذا التعهد من أى محتوى. وأثناء زيارته لواشنطن فى إبريل ٢٠٠٤ قدم شارون لبوش خطته لـ”فك الارتباط عن غزة” فى مقابل توقيع بوش على خطاب ضمانات كان قد صاغ مسودته دوف فايسجلاس، مدير مكتب شارون وصديقه الحميم، يعترف فيه الرئيس الأمريكى بأن من حق إسرائيل الاحتفاظ بـ”تجمعات سكانية” فى الضفة، فى تحول حاد عن الخط الذى انتهجته كافة الإدارات الأمريكية السابقة. وبذلك فاز شارون مقابل خطة فك الارتباط تلك بتعهد أمريكى بإسباغ الشرعية على المستوطنات، فأفرغ تعهد الرئيس بوش بإنشاء دولة فلسطينية من أى محتوى.

ومرة أخرى لا يحتاج المرء أن يبذل مجهودا كبيراً للتأكد من أن منع قيام الدولة الفلسطينية هو الدافع الرئيسى من وراء خطة شارون، فقد أعلن عن ذلك صراحة فايسجلاس فى حديث أدلى به لصحيفة هآرتس فى ٨ أكتوبر ٢٠٠٤. حيث أوضح أن الهدف من خطة فك الارتباط تجميد عملية السلام والتخلى عن خارطة الطريق: “عملياً، لقد محونا تماماً أية إشارة لما يسمى بالدولة الفلسطينية من أجندتنا… وقد تمكنا من القيام بذلك بمباركة الرئيس الأمريكى وتصديق الكونجرس بمجلسيه”. فـ”العملية السياسية، كما تعلم، … تعنى إنشاء دولة فلسطينية مع كل المخاطر الأمنية المترتبة عليها. العملية السياسية معناها إخلاء المستوطنات وعودة اللاجئين واقتسام القدس. كل ذلك تم تجميده الآن”.

ولكن العجيب هو ذلك الصمت المطبق الذى استُقبلت به تلك التصريحات فى مصر، فلم يكلف وزير الخارجية المصرى نفسه عناء استدعاء السفير الإسرائيلى والاستفسار منه عن موقف بلاده من العملية السلمية التى ترعاها مصر بقوة ويدعمها جهاز المخابرات المصرية. وكل ما طالعتنا به الصحف المصرية هو خبر صغير يقول أن “الولايات المتحدة رفضت التصريحات الإسرائيلية الخاصة بتجميد عملية السلام… [وأنها] طلبت من تل أبيب تقديم إيضاحات حول ما أعلنه دوف فايسجلاس…”.

بدلا من ذلك قررت الدولة المصرية تقديم العون لشارون حتى يمرر خطته. فقد أعلنت مصر عن إعادة سفيرها لإسرائيل الذى كانت قد سحبته بعد اندلاع الانتفاضة الثانية. وقامت أخيرا بتوقيع إتفاقية لتوريد الغاز الطبيعى لإسرائيل على مدار العقود القليلة القادمة. كما أعلن الرئيس مبارك عن عزمه لزيارة إسرائيل فى نهاية العام الحالى بعد فوزه المتوقع فى إنتخابات الرئاسة (وكل ما طالب به مبارك فى المقابل، حسب ما أعلنه مراسل صحيفة يديعوت أحرونوت الذى أجرى المقابلة، ألا يلتهم شارون خرفان مزرعته وحده وأن يترك له جانبا منها). والأدهى من ذلك، وعدت مصر أن تقدم المساعدة للإسرائيليين فى إحكام الطوق حول فلسطينيي القطاع. فقد نصت خطة شارون بوضوح على أن إسرائيل تأمل فى أن تعاونها قوات الأمن المصرية فى إحكام السيطرة على ممر صلاح الدين الضيق (الذى تطلق عليه إسرائيل ممر فيلادلفى) الذى يفصل القطاع عن الأراضى المصرية. وبالفعل أبرم عمر سليمان، رئيس المخابرات العامة، اتفاقاً تقوم مصر بموجبه بنشر قوة من 750 فردا على طول ممر صلاح الدين.

أما الخارجية المصرية فقد حاولت أن تؤكد أن فك الارتباط ليس سوى مرحلة من المراحل التى أعلن عنها الرئيس بوش فى خطته المعروفة بخارطة الطريق، ولكنها فشلت فى ذلك. وأثبت شارون أنه قادر على تجاهل هذه الأصوات المصرية الخافتة. صحيح أنه يحتاج لتعاون قوات الأمن المصرية (وليس الجيش)، إلا أنه لم يضطر لأن يقدم للمصريين أى شيء مقابل ذلك، نظرا لأنهم متوجسون أصلا من استئثار حماس بالسيطرة الفعلية على القطاع وتحويله إلى دويلة يحكموها بالفعل بعد الانسحاب الإسرائيلى، الأمر الذى يزعج الدولة المصرية بشدة نظرا لتأثيره المحتمل على جماعات الإسلام السياسى فى مصر وعلى رأسها الإخوان. وبمعنى آخر فقد تعاملت الدولة المصرية مع خطة شارون بمنظور ضيق للغاية، مضحية بالمصالح الفلسطينية نظير تحقيق قدر ضئيل من مصالح النظام المصرى، وليس حتى المصالح القومية المصرية أو دفاعا عن الأمن القومى المصرى.

الخلاصة:
لا شك فى أن شارون يأمل بتمريره لخطة فك الارتباط عن قطاع غزة أن يحقق عدة أشياء، منها إعادة امتلاك زمام المبادرة فى التعامل مع الفلسطينيين، والنجاح فى التخلص من الضغط الأمريكى والدولى الهائل الذى مثلته خطة “خارطة الطريق”، فكما بين فايسجلاس: “ستصبح أنظار العالم كله منصبة على الفلسطينيين وليس علينا. والعالم كله يتساءل عما ينوون عمله فى تلك الشريحة من الأرض”. وهو، ثالثا، يأمل فى إقناع الأمريكان بأن هناك بديلا عن الضفة الشرقية لنهر الأردن، أى البديل الأردنى الذى ظل يدعى لسنوات عدة أنه الوطن القومى للفلسطينيين، حتى جاءت الاتفاقية الإسرائيلية الأردنية لتقوضه. هكذا يتمنى شارون أن يحول غزة إلى وطن دائم للفلسطينيين إضافة إلى جزء صغير من الضفة على أن تكون السيادة فيهما لإسرائيل.

وبالتالى يتمثل التحدى الرئيسى الذى يواجهه الفلسطينيون فى هذه اللحظة المحورية من نزاعهم مع الصهيونية فى كيفية إجبار إسرائيل على ألا يكون هذا آخر انسحاب تقوم به إسرائيل كما يأمل شارون. ويمكن للفلسطينيين أن يستلهموا التجربة المصرية ليس فى التعامل مع إسرائيل ولكن فى التعامل مع الاحتلال البريطانى. فحين واجهت بريطانيا بعد احتلالها لمصر مقاومة شعبية متنامية أدت إلى ثورة عارمة عام ١٩١٩ اضطرت فى النهاية إلى إعادة النظر فى طبيعة سيطرتها على مصر. ونظرا لأنها لم تكن مستعدة إلى إنهاء الاحتلال بشكل كامل وغير منقوص، فقد قامت بخطوة أحادية الجانب أعطت مصر بموجبها استقلالا منقوصا (تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢). صحيح أن مصر قد قبلت بهذا التصريح وأنها تحولت إلى دولة ذات سيادة يحكمها نظام ملكى برلمانى إلا أن القوى الوطنية المصرية قد قبلت بهذا التصريح كحد أدنى وليس كحد أقصى وعملت جاهدة على تعديله. وفى مواجهة المقاومة الشعبية المتواصلة أُجبرت بريطانيا على توقيع إتفاقية ١٩٣٦ وفى النهاية اضطرت فى عام ١٩٥٤ توقيع اتفاق بالجلاء عن مصر نهائيا.

وبالمثل على الفلسطينيين أن يقبلوا الانسحاب من غزة ليس كنهاية لصراعهم مع الصهيونية كما يأمل شارون بل كخطوة هامة من هذا الصراع. وبمعنى آخر يمكن للفلسطينيين من أن يستفيدوا من إزدياد اقتناع المجمتع الدولى بعدالة قضيتهم لكى يواصلوا الضغط على إسرائيل حتى تقوم بإحدى خطوتين: إما إدماج كافة الفلسطينيين كمواطنين فى دولة واحدة يتساوون فى الحقوق والواجبات مع مواطنيهم اليهود، أو أن تنسحب من الضفة الغربية وليس فقط من قطاع غزة حتى يتسنى للفلسطينيين أن يقيموا دولة مستقلة كاملة السيادة قادرة على البقاء والازدهار، وأن يكون هذا الانسحاب بناء على مفاوضات تقوم على مبادئ القانون الدولى. إن محاولة شارون الالتفاف حول هذين البديلين بطرحه لخطة “فك الارتباط” يجب أن ينظر إليها ليس كدليل على إعادة إمتلاك زمام المبادرة أو كدليل على تحول جذرى فى فكره الاستراتيجى بل على أنها محاولة يائسة منه لإنقاذ المشروع الصهيونى برمته.

فالمشروع الصهيونى كمشروع استيطانى قد يكون قد نجح فى الادعاء بأنه قد وجد حلا للمشكلة اليهودية فى أوربا الشرقية، لكنه أوجد مشكلة أخرى، هى المشكلة الفلسطينية، فشل فشلا ذريعا فى التعامل معها. فمنذ اللحظة التى ادعت فيها الصهيونية أن الشعب الفلسطينى لا وجود له إلى اللحظة التى اضطرت فيها إلى الاعتراف بوجود هذا الشعب، بل وبما يشكله من خطر ديموجرافى على يهودية الدولة العبرية، ومواجهة إجماع العالم على أن له حقوقا سياسية… بين هاتين اللحظتين يمكن مشاهدة مدى التراجع الذى شهدته الصهيونية. فحتى على الصعيد العسكرى أدركت إسرائيل أنها برغم تفوقها النوعى على كل الجيوش العربية فى كل المواجهات العسكرية، فإنها لا تستطيع أن تستخدم آلتها العسكرية الجبارة فى فرض حل سياسى على الفلسطينيين. ويمكن هنا أن نرى فى انتصار إسرائيل فى حرب ١٩٦٧ أوج انتصاراتها وتوسعها، ولكن يمكن أيضا أن نرى أنها فى تراجع مستمر منذ تلك اللحظة؛ فقد اضطرت إلى التنازل عن سيناء لمصر عام ١٩٧٩ مقابل ضمان خروج مصر من النزاع المسلح، ثم اضطرت إلى الانسحاب من الجنوب اللبنانى دون أن تتمكن من توقيع معاهدة سلام مع بيروت أو دمشق، وأثناء مفاوضات كامب ديفيد الفاشلة فى عام ٢٠٠٠ تطرقت المفاوضات إلى وضع مدينة القدس التى كانت إسرائيل تعتبره خطا أحمر لا يجب حتى مناقشته، وهى أُجبرت الآن أن تتعدى خطا أحمر آخر وهو تفكيك المستوطنات وكسر الحاجز النفسى لدى الشعب الإسرائيلى الذى منعه من أن يفكر أصلا فى هذه الخطوة كخطوة ضرورية نظير أى تسوية سياسية، وهى، أخيرا، تضطر الآن إلى الانسحاب من قطاع غزة على أمل أن يكون ذلك هو آخر الانسحابات. ويجب على الفلسطينيين وعلى كل القوى المحبة للعدل والسلام فى العالم والمقتنعين بعدالة قضيتهم أن يعملوا ليس على مساعدة الصهيونية فى التخلص من أزمتها الوجودية بتقديم الدعم الدبلوماسى واللوجستى لخطة شارون بل على ألا يكون الانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات فيها هو آخر الانسحابات، ولكن مجرد انسحاب واحد من سلسة طويلة من الانسحابات التى بدأت قبل ربع قرن والتى ستنتهى حتما بأفول الصهيونية، تلك العقيدة القومية المتطرفة التى تنتمى إلى القرن التاسع عشر بقومياته البغيضة، لا إلى القرن الحادى والعشرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.