(ملحوظة: نُشر هذا المقال عام ٢٠٠٦، أعتقد قي جريدة ”القاهرة“)
تمر فى هذه الأيام ذكرتان هامتان فى تاريخنا الحديث، الأولى ذكرى مرور خمسين عاما على خطاب الرئيس جمال عبد الناصر الشهير الذى ألقاه فى ميدان المنشية بالإسكندرية والذى أعلن فيه قراره بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس، وهو الحدث الجلل الذى رد به عبد الناصر على قرار الولايات المتحدة وبريطانيا سحب عرضهما السابق بتمويل مشروع السد العالى، وهو الحدث الذى أدى إلى العدوان الثلاثى وما أعقبه من أفول نجم الامبراطورية البريطانية وصعود نجم عبد الناصر كقائد على الصعيد العربى بل والدولى وإلى قلب موازين القوى فى المنطقة برمتها. أما الذكرى الثانية التى قد لا يتذكرها الكثيرون هى ذكرى مرور مائة وخمسة وستين عاما على وصول فرمان من السلطان العثمانى إلى والى مصر محمد على مزيلا آخر العقبات فى طريق تثبيته كوال على مصر مدى حياته والإقرار بتوريث هذا المنصب لأعقابه من بعده. وكان فرمان الوراثة قد وصل فى فبراير من عام 1841 ولكن ظلت هناك بعض نقاط الخلاف بين السلطان والوالى كان أهمها مقدار الجزية السنوية التى كان يتحتم على مصر دفعها لاسطنبول. وكان صدور فرمان جديد فى أواخر يوليو 1841 يجيب طلبات محمد على فى تخفيض قيمة الجزية تتويجا لجهود محمد على على مدار نحو نصف قرن فى إبقاء مصر له ولنسله من بعده، وقد أحدث هذا الفرمان تغييرا جوهريا فى وضع مصر الدولى وساعد على تثبيت حكم الأسرة المحمدية العلوية لمدة مائة عام.
ولست هنا بصدد عقد مقارنة بين الحدثين أو بين الرجلين الذين احتلا موقع الصدارة فى هذين الحدثين الهامين. ولكنى أود الحديث عن كيفية التأريخ لهذين الحدثين المحوريين فى تاريخنا الحديث، ففى حين يستطيع المرء الحصول على العديد من الوثائق المودعة فى دار الوثائق القومية والتى تحتوى على أدق التفاصيل المتعلقة بالنزاع بين محمد على واسطنبول، ذلك النزاع الذى مر عليه أكثر من قرن ونصف، فإن الأمر جد مختلف عندما يتعلق بملابسات قرار التأميم والأحداث الجسام التى تلته. فدار الوثائق القومية، وهى الجهة المنوط بها تجميع الوثائق المتعلقة بتاريخنا القومى، لا تحتوى إلا على النذر اليسير من الوثائق المتعلقة بعملية تأميم قناة السويس أو بغيرها من الأحداث المرتبطة بتاريخنا المعاصر.
والأمر يبدو غريبا جدا، فهناك العشرات بل المئات من الوثائق التى تحتويها الدار المتعلقة بتاريخ مصر فى القرن التاسع عشر،
وتحديدا بتاريخ أسرة محمد على. وكأحد المترددين على الدار لفترة تتعدى الخمسة عشر عاما لا أزال أندهش من دقة المعلومات التى تتيحها الدار عن تاريخ مصر فى القرن قبل الماضى. فمثلا، وبخصوص تلك الأحداث المتعلقة بالذكرى الثانية التى أشرت إليها عاليه، أى إسدال الستار عن آخر فصول نزاع محمد على بالسلطان، يستطيع الباحث العثور على تفاصيل غاية فى الدقة، بدءا من وصف للعمليات العسكرية التى كان الجيش العثمانى يقوم بها فى صيف 1839 تحرشا بالجيش المصرى شمالى الشام، مرورا بوصف تفصيلى لأحداث معركة نصيبين التى انهزم قيها الجيش العثمانى، إضافة إلى مكاتبات محمد على لابنه إبراهيم باشا قائد الجيش، والمراسلات العديدة بين أجهزة الجيش المختلفة بما فيها التقارير الاستخبراتية عن موقف القبائل والبلدات المتعددة فى تلك الأصقاع النائية جنوبى الأناضول، وعطوفا على مراسلات محمد على لرجالات السلطنة فى اسطنبول بدءا من السلطان نفسه إضافة إلى الصدر الأعظم وسائر الوزراء ورجال البلاط الذى كان محمد على يحاول استمالتهم لجانبه، وانتهاء بتقارير عن المساعى الدبلوماسية المحمومة بين الإسكندرية واسطنبول ولندن وباريس للوصول إلى تسوية لهذا النزاع الطويل. ونتيجة لهذا التنوع الكبير فى طبيعة الوثائق التى تكتنزها الدار ونتيجة أيضا للعدد الهائل من هذه الوثائق يستطيع الباحث الوقوف على أدق التفاصيل المتعلقة بهذه الفترة المحورية من تاريخ مصر الحديث، ليس فقط فيما يتعلق بالنواحى السياسية والدبلوماسية والعسكرية ولكن أيض من الناحية الاجتماعية والإقتصادية، بل أيضا السيكولوجية، إذ أن الكثير من هذه الوثائق تحتوي على نصوص الخطابات المتبادلة بين محمد على وابنه إبراهيم والتى يبوح فيها الأب عما يدور بخلده من مخاوف ومطامع وأفكار. والنتيجة المنطقية لوفرة المعلومات التاريخية عن هذه اللحظات الفارقة من مسيرة محمد على وعن غيرها من اللحظات التى مرت بها مصر أثناء فترة حكمه أن أتت الدراسات والكتب عن هذه الفترة من تاريخ مصر موثقة، أى معتمدة على وثائق يمكن الرجوع إليها لإعادة قراءتها واستخلاص دروس جديدة منها، أو للتأكد من دقة مؤرخ ما فى قراءتها، أو لإماطة اللثام عن معلومات وبيانات جديدة لم ينتبه إليها أحد من قبل والتى قد تحثنا على إعادة النظر فى مسألة ما أو إلى مراجعة تقييمنا لواقعة أو حدث ما.
أما إذا انتقلنا إلى التأريخ للحدث الآخر الذى نحتفل بذكراه هذه الأيام، أى حدث تأميم قناة السويس، فبالرغم من أنه أقرب عهدا بنا من نزاع محمد على مع السلطان إلا أن محاولة التأريخ له بشكل موثق أصعب بكثير وتكاد تكون متسحيلة وذلك لغياب الوثائق المتعلقة به. فبالمقارنة مع العديد من الدراسات والأبحاث الأجنبية المتعلقة بما يسمى فى الغرب بـ”أزمة السويس” والتى تعتمد على الوثائق التاريخية المودعة فى الأرشيفات البريطانية والفرنسية والأمريكية والإسرائيلية، نجد أن الكتب والدراسات العربية تكاد تنعدم فيها الإحالة للوثائق التاريخية، فتلك الدراسات لا تتعدى أن تكون أحد أمرين: إما شهادات ومذكرات لأشخاص عاصروا الحدث وشاركوا فى صنعه (ككتاب “قناة السويس والأيام التى هزت الدنيا” للمهندس عبد الحميد أبو بكر، أحد المهندسين الذين كلفوا بالتحضير لتنفيذ عملية تأميم قناة السويس والذين قادوا عملية تشغيل القناة بعد انسحاب المرشدين الأجانب ليلة 14/15 سبتمبر 1956)، وإما أن تكون شهادة صحفية لصحفى واكب حدث التأميم وألم بتفاصيله لقربه من مركز اتخاذ القرار (المثال الأوضح هنا بالطبع كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل “ملفات السويس”).
وتجدر الإشارة هنا أن كتاب “ملفات السويس” يحتوى على ملحق وثائقى ضخم يفوق عدد صفحاته الثلاثمائة صفحة (أي ما يقرب من ثلث حجم الكتاب) أورد فيه المؤلف تفريغا للعديد من الوثائق المصرية والبريطانية والأمريكية (وصورا ضوئية للقليل منها)، ومما لا شك فيه أن هذا العدد الهائل من الوثائق ألقى الضوء على الكثير من التفاصيل المتعلقة بحرب السويس وبالأحداث التى أدت إليها. على أنه يجب التأكيد هنا أن هذا الملحق الوثائقى، مع الإقرار بأهميته البالغة، لا يتبع المعايير الأكاديمية الصارمة فى الإحالة للمصادر الوثائقية، فالأستاذ هيكل من ناحية لا يشير إلى أرقام الوثائق أو إلى وحداتها الأرشيفية الأصلية حتى يتمكن القارئ من الرجوع إليها وإعادة قراءتها، وهو بالتالى، ومن ناحية أخرى، لا يعين القارئ على وضع هذه الوثيقة أو تلك فى سياقها الأرشيفى الأصلى الأمر الذى قد يعين الباحث على فهم السياق العام الذى صدرت فيه. وبالتالى إذا احتكمنا للمعايير العلمية الصارمة فإن القيمة الحقيقية للكتاب تنبع ليس من هذا الملحق الوثائقى ولكن لشهادة هيكل الشخصية النابعة من براعته كصحفى (أو كـ”جرنالجى” كما يفضل الأستاذ هيكل نفسه الإشارة لمنهجه فى الكتابة) ورؤيته الثاقبة وتحليله للأحداث التى عايشها وشارك ، بقدر ما، فى صنعها. وليس هذا بالطبع انتقاصا من أهمية “ملفات السويس” الذى ينظر إليه الكثير من الباحثين كمصدر أولي شأنه شأن الوثائق الأرشيفية، والذى يُعتبر مرجعا لا غنى عنه للوقوف على أحداث ذلك الصيف الساخن منذ خمسين سنة.
وإذا قارنا بين عمل الأستاذ هيكل الموسوعى وبين الدراسات العديدة الصادرة بالعربية عن حرب السويس من ناحية، وبين الدراسات الأكاديمية الصادرة بلغات أجنبية، من ناحبة أخرى، نجد الفرق واضحا فى قلة اعتماد الأعمال الأولى على الوثائق وارتكان الثانية عليها بشكل أساسى. فنظرا لقاعدة الثلاثين سنة المعمول بها فى أغلب الأرشيفات القومية فى العالم والتى تفرج بموجبها هذا الأرشيفات بشكل دورى عن الوثائق التى زالت عنها صفة السرية لانقضاء تلك المدة، أتت الأعمال الأجنبية المعتمدة على تلك المصادر الأرشيفية دائما بالجديد. فمثلا وبمناسبة مرور ثلاثين عاما على حرب السويس عقدت ندوتان، الأولى فى أوكسفورد فى بريطانيا عام 1986 والثانية فى واشنطن عام 1987 ونتج عن هاتين الندوتين كتابا بالغ الأهمية عنوانه “السويس 1956: الأزمة ونتائجها Suez 1956: The Crisis and its Consequences) قام بتحريره كل من روجر أوين ووليام روجر لويس. وقد احتوت فصول الكتاب على شهادات بعض المعاصرين للأحداث (كشهادة جون كامبل الذى كان عضوا فى مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى وأمين هويدى الذى كان ضابطا فى كلية أركان حرب القوات المسلحة ثم نُقل لرئاسة الدفاع عن القاهرة أثناء العدوان الثلاثى). على أن الجديد فى الكتاب هى الفصول العديدة التى كتبت اعتمادا على وثائق بريطانية وفرنسية وإسرائيلية كان قد أفرج عنها قبل انعقاد الندوتين بعامين إثنين بمناسبة انقضاء مدة الثلاثين سنة على الأحداث. وبعد مرور عشر سنوات أخرى وبمناسبة مرور أربعين عاما على قرار التأميم وما أعقبه من أحداث عقدت الندوات الأكاديمية العديدة التى ألقيت فيها الأبحاث المعتمدة على وثائق جديدة أفرج عنها لتوها أو تنبه لوجودها ذلك المؤرخ أو ذاك. ومن أمثلة هذه الندوات تلك التى عقدت فى جامعة تل أبيب والتى نتج عنها كتاب “حرب 1956: التواطؤ والمؤامرة فى الشرق الأوسط The 1956 War: Collusion and Rivalry in the Middle East والذى حرره المؤرخ الإسرائيلى دافيد تَل المحاضر فى جامعة تل أبيب.
ويتضح من هذه الوثائق التى اعتمد عليها الباحثون الأكاديميون الكثير من التفاصيل الهامة المتعلقة بقرار التأميم. فمثلا تشير الوثائق المحفوظة فى دار الوثائق البريطانية التابعة ليس فقط لوزارة الخارجية بل أيضا لمكتب رئاسة الوزراء ومجلس الوزراء ووزارة البحرية ومكتب رئاسة أركان القوات المسلحة ووزارة الحرب ومكتب المحامى العام (Lord Chancellor’s Office) إلى العديد من الوقائع التى تزيد من فهمنا لآلية رسم السياسة المناسبة للرد على قرار التأميم. فتظهر الوثائق مثلا التباين الواضح — إن لم يكن التعارض — فى مواقف أعضاء الحكومة البريطانية فى هذا الصدد، فهم لم يكن لديهم شك فى مشروعية القرار نظرا لاقتناعهم بأن القناة مصرية فى الأساس وأن قرار التأميم ما هو إلا عملية شراء حصص المساهمين بالسعر المعلن عنه فى بورصة باريس، وهو الأمر الذى تأكدوا من مشروعيته. ولكن موقف البعض منهم اختلف فى جلسة 27 يوليو 1956 عندما وجه لهم رئيس الوزراء إيدن سؤالا عما إذا كانوا مستعدين للدخول فى حرب مع مصر فى سبيل الحصول على هدفهم الأساسى، أى تدويل القناة، وعندها كان ردهم بالإيجاب. كما توضح تلك الوثائق الشقاق بين أعضاء النخبة الحاكمة البريطانية (خارج النطاق الضيق لأعضاء الحكومة) بخصوص مصوغات استخدام القوة، والرأى القاطع لمستشارى الحكومة القانونيين ضد هذا الإجراء (حتى قبل معرفتهم باتفاقية سيفر السرية). كما توضح تقارير الخارجية البريطانية التطور الذى حصل بدءا من التحفظ على إشراك فرنسا فى أى عمل عسكرى على مصر إلى التآمر معها ومع إسرائيل لضرب مصر ولإسقاط عبد الناصر متذرعين بقرار التأميم. ومن ناحيتها توضح الوثائق الأمريكية العديد من التفاصيل الشيقة، منها التضارب بين موقف رئاسة الأركان ووزير الخارجية دالاس Dulles ، من ناحية، وموقف الرئيس الأمريكي، أيزنهاور، من ناحية أخرى، بخصوص إمكانية اللجوء للقوة ضد عبد الناصر إثر قرار التأميم. أما الوثائق الإسرائيلية، وأهمها يوميات بن جوريون المتاحة الآن للإطلاع فى مستعمرة سد بوكر، فتوضح كيف أن بن جوروين كان على دراية بحتمية المواجهة مع مصر وكيف كان يستعد لها منذ 1954 على الأقل. كما توضح تلك الوثائق أن بن جوروين كان يتبع سياستين مختلفتين إزاء مصر وإزاء عبد الناصر، فهو من ناحية كان يهيئ شعبه للحرب مع مصر موضحا له وللرأى العام العالمى التهديد الذى يشكله عبد الناصر لإسرائيل (خاصة بعد الإعلان عن عقد صفقة السلاح التشيكية فى سبتمبر 1955)، ومن ناحية أخرى، توضح تلك اليوميات كيف كان بن جوريون دائم البحث عن السلاح الذى يمكنه من توجيه ضربة استباقية لمصر قبل “هضمها” للسلاح الروسى.
أما إذا انتقلنا للدراسات العربية فسنجدها تعيد رص نفس المعلومات عن قرار التأميم التى استقرت فى مخيلتنا لقرابة النصف قرن ونكاد لا نرى أية أسئلة جديدة تطرح حول ملابسات قرار التأميم وما أعقبه من أحداث. فأغلب هذه الدراسات تعيد التأكيد على أن فكرة التأميم كانت تدور فى مخيلة عبد الناصر حتى قبل علمه بالتحول الذى طرأ على موقف الغرب من مسألة تمويل مشروع السد العالى، وتركز على كيفية تلقى عبد الناصر لقرار الولايات المتحدة بسحب التمويل السابق الاتفاق عليه وكيف أنه اعتبر ذلك القرار إهانة لا يجب السكوت عليها، وكيف قرر عبد الناصر يوم 21 يوليو أن يرد على إهانة دالاس، وكيف دعا المهندسين محمود يونس وعبد الحميد أبو بكر للاجتماع به كى يكلفهم بوضع خطة للاستيلاء على مقر شركة قناة السويس عندما يسمعان كلمة ديليسبس فى الخطاب الذى سيلقيه بعد يومين، إلى آخر الرواية الشائعة.
وفى غياب الوثائق الرسمية المتعلقة بذلك الحدث الهام لا يمكن لنا معرفة الكثير من ملابسات هذا القرار الذى غير من تاريخ المنطقة برمتها. فمثلا، هل بادر أى من الضباط الأحرار أو أعضاء مجلس قيادة الثورة أو آخرين من أعضاء النخبة الحاكمة بعرض فكرة تأميم قناة السويس قبل يوم 21 يوليو 1956 أم أن عبد الناصر كان الوحيد الذى أبدعها واحتكرها؟ وإضافة إلى الكلمات المأثورة التى أطلقها عبد الناصر على أعضاء مجلس الوزراء قبل ساعتين من إلقاء خطاب التأميم حين قال “لست أريد لأحد منكم أن يتحمل مسئولية قرار خطير لم يعرف به إلا قبل إعلانه بوقت قصير” ما الذى دار من مناقشات حول هذا الموضوع فى اجتماع مجلس الوزراء الذى تم فى منزل صغير على شاطئ جليم بالإسكندرية؟ (يورد هيكل بعض التحفظات والتساؤلات التى عرضها بعض الوزراء ولكنه لم يورد أسماء أى منهم). وأين هى المذكرة ذات الـ 55 صفحة فولسكاب الموقعة باسم أميرالاى أ. ح. أمين أنور الشريف مدير إدارة التعبئة والتى شكلت المصدر الأساسى للمعلومات عن قناة السويس والتى دأب المهندسين عبد الحميد أبو بكر ومحمود يونس على قراءتها عقب تكليف عبد الناصر لهما بهمتهما الدقيقة؟ ثم أين هى تلك المذكرة بالغة الأهمية ذات السبعة صفحات التى أجرى فيها عبد الناصر حساباته قبيل إعلان قرار التأميم والتى أوضح فيها تقديراته للآثار والعواقب بدقة وبصيرة، كما يقول الأستاذ هيكل، والتى “كانت واحدة من أعظم لحظات حياته” حسب كلام هيكل أيضا؟
إن عدم وجود وثائق تتعلق بقرار التأميم (وبغيره من اللحظات الهامة فى تاريخنا الحديث والمعاصر) فى دار الوثاق القومية والتى قد تعيننا على طرح أسئلة جديدة على أحداث قديمة وبالتالى على تعميق فهمنا لتاريخنا الحديث يبدو أن له واحد من الأسباب الثلاثة الآتية. أول هذا الأسباب المحتملة هو ألا يكون لتلك الوثائق وجود من الأصل، وبالتالى فلا مجال للحديث عن محاولة العثور عليها. ولكن إذا صح هذا الكلام عن محاضر اجتماعات مجلس الوزراء، فهل يصح أيضا على مخاطبات عبد الناصر إلى قادة ورؤساء الدول المختلفة؟ وهل يجب علينا كباحثين مصريين أن نذهب لدور الوثائق الأجنبية للعثور على صور لهذه المكاتبات إذا لم نتمكن من العثور على أصولها فى دار الوثائق القومية؟ وإذا صح هذا الاحتمال فنحن هنا بصدد وضع غريب تسود فيه الثقافة الشفاهية حتى على عمليات اتخاذ قرارات مصيرية، وهو أمر بالغ الخطورة كما لا يخفى ذلك على أحد.
أما الاحتمال الثانى فهو أن تلك الوثائق كانت موجودة بالفعل (أى أن هناك أوراق كتبت بالفعل وليس فقط كلمات أو خطب تليت) ولكنها فقدت لسبب أو لآخر. ومن أكثر الأمثلة شيوعا عن حالات فقدان الوثائق تلك التى ترددها روايات عن أخذ أحد المسئولين الأوراق التى يحتفظ بها فى مكتبه أو إدارته إلى منزله عند انتهاء مدة خدمته. والحقيقة أن تلك الروايات شائعة ومتعددة حتى نكاد نجزم بصحتها، بل أن بعض المسئولين لا ينكرون ذلك فى بالأساس، فأمين هويدى يعترف مثلا فى كتابه “50 عاما من العواصف” إنه حين اعتقل فيما عُرف بـ”ثورة التصحيح” عام 1971 تم تفتيش منزله وعُثر هناك على الخطط العسكرية التى كان قد وضعها عام 1956 بصفته مسئولا عن الدفاع عن القاهرة فى أعقاب العدوان الثلاثى، ونجح بعد طول عناء فى إقناع المحققين أن تلك لم تكن خطط معدة للاستخدام فى مؤامرة لقلب نظام الحكم، ولكنه لم يتحرج من وجود هذه الخرائط فى منزله الشخصى، فهو الذى وضعها وبالتالى فهى ملك له ويحق له أن يحتفظ بها فى منزله الشخصى. وإذا صح هذا الاحتمال فنحن بصدد كارثة قومية تُمحى فيها الذاكرة المؤسسية (والتى عمادها الكلمة المكتوبة) ويحل محلها الشهادات والرؤى والآراء المتباينة.
أما الاحتمال الثالث والأخير أن يكون لتلك الوثائق وجود وأن تكون ما زالت محفوظة فى أماكن إصدارها (مثل رئاسة الجمهورية أو رئاسة مجلس الوزراء أو أرشيفات الوزارات المختلفة من خارجية وداخلية وحربية) ولكنها لم تودع فى دار الوثائق القومية. وذلك موضوع كثر الحديث فيه وكثرت المقترحات بخصوص كيفية معالجته، فقد كتب الكثيرون (ومنهم صاحب هذه الكلمات) حول خطورة عدم إيداع وثائقنا الرسمية فى دار الوثائق القومية. وبالرغم من إلزام القانون للجهات الحكومية المختلفة بإيداع وثائقها فى دار الوثائق القومية، وبالرغم من التطور الملحوظ الذى شهدته دار الوثائق فى السنوات القليلة الماضية سواء من حيث فهرسة الوثائق أو ميكنتها أو إعداد بعض منها للنشر، إلا أن القليل والقليل جدا من الجهات الحكومية هى التى تودع وثائقها بشكل دورى فى دار الوثائق، الأمر الذى أدى إلى قلة الدراسات الموثقة عن تاريخنا المعاصر. وعند التساؤل عن أسباب امتناع الجهات الحكومية عن تنفيذ القانون كثيرا ما نسمع مقولة “الأمن”، فالوثائق المتعلقة بالأمور السيادية للدولة، مثل تلك المتعلقة بقرار تأميم قناة السويس، يخشى على الأمن القومى من إتاحتها للباحثين. وكما حاولت أن أبين فإن هذا المنطق متهافت، إذ كان من جراء عدم وجود وثائق نكتب بها تاريخنا الحديث أن خلت الساحة لإسرائيل ولغيرها أن يكتبوا عن تاريخنا باستخدام وثائقهم هم وأن تعقد الندوات الواحدة تلو الأخرى وتلقى فيها البحوث الواحد تلو الآخر كلها تحتوى على معلومات موثقة مستقاة من وثائق أفرجت عنها دور الوثائق الأجنبية حديثا إلا تلك البحوث المتعلقة بمصر، مركز الحدث ولبه، فتأتى تلك البحوث مرددة لمقولات قديمة أو معتمدة على وثائق العدو. فهل هناك انتهاك للأمن القومى أخطر من هذا؟
من اللافت للنظر حقا أن الأستاذ أمين هويدى فى كتابه الصادر مؤخرا “حرب 1967: أسرار وخبايا” وفى سياق تقديره لخسائر مصر فى حرب 1956 لم يستطع الاعتماد على مصادر مصرية لتقدير حجم هذه الخسائر ولم يجد بدا من الاستشهاد بكتاب “يوميات معركة سيناء” تأليف—ويا للمفارقة—الجنرال موسى ديان. إن عدم وجود معلومات موثقة تحت يد وزير الحربية عن حرب خاضها جيشه قبل توليه المسئولية بأحد عشر عاما وإرتكانه على مصادر العدو لهو أمر بالغ الدلالة ولا يحتاج إلى تعليق آخر. وكمثال آخر عن فداحة الخطر الناجم عن عدم إتاحة الوثائق المتعلقة بتاريخنا الحديث قرأت مقالا للدكتور رؤوف عباس نشر أخيرا (جريدة الكرامة 18 يوليو 2006)، قال فيه إنه “منذ نحو العشرين عاما وهو يقوم بتجميع ما يتم الإفراج عنه بدور الوثائق البريطانية والأمريكية من وثائق تتصل بمصر والمنطقة العربية فى الحقبة الناصرية. كما يحرص على تجميع كل ما نشر وينشر من مذكرات من لعبوا أدوارا مركزية أو هامشية فى تاريخ تلك الحقبة، ليكون هذا وذاك من مصادر دراسة تلك الحقبة العبقرية المهمة من تاريخ مصر والوطن العربى.” وإنه لمن الملاحظ فى هذا الكلمات الصادرة عن واحد من أهم مؤرخينا يشغل منصب رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية عدم ذكره للوثائق الرسمية المصرية كمصدر من مصادر كتابة تاريخ مصر الحديث، وذلك ليس بسبب غفوة منه أو تكاسل، بل نتيجة إدراك حقيقى لغياب هذه الوثائق على الأقل من المكان الذى يأمّه أى باحث جاد فى التاريخ، أى دار الوثائق القومية. ونفس هذا المعنى تردده الدكتورة هدى عبد الناصر وهى من هى ليس فقط لكونها ابنه صاحب الحدث الذى نحتفل بذكراه هذه الأيام ولكن أيضا لكونها مؤرخة أكاديمية يدور مجمل أعمالها حول تاريخ مصر فى القرن العشرين، فتقول فى حديث لها نشر فى صحيفة الجارديان (8 يوليو 2006) إنها لم “تتلق أية وثيقة من الحكومة المصرية” تتعلق بالفترة التى تدرسها وإنها عليها أن تعثر على ما تريده من وثائق فى دار الوثائق البريطانية. وتعلق الصحيفة على غرابة الموقف قائلة: “أحد طرقها لتمضية الوقت هو الذهاب إلى دار الوثائق القومية البريطانية للبحث فى ملفات وزارة الخارجية عن معلومات توثق دور بريطانيا فى الهجوم على مصر. إنها لنهاية غريبة حقا تلك التى نراها بعد مرور خمسين عاما على إرسال رئيس الوزراء البريطانى لقوات فى محاولة يائسة لهزيمة أبيها”.
[…] وإضافة إلى الكلمات المأثورة التي أطلقها عبد الناصر على مسامع أعضاء مجلس الوزراء قبل ساعتين من إلقاء خطاب التأميم حين قال “لست أريد لأحد منكم أن يتحمل مسؤولية قرار خطير لم يعرف به إلا قبل إعلانه بوقت قصير” ما الذي دار من مناقشات حول هذا الموضوع باجتماع مجلس الوزراء الذى تم فى منزل صغير على شاطئ جليم بالإسكندرية؟ يتساءل فهمي. […]
[…] وإضافة إلى الكلمات المأثورة التي أطلقها عبد الناصر على مسامع أعضاء مجلس الوزراء قبل ساعتين من إلقاء خطاب التأميم حين قال “لست أريد لأحد منكم أن يتحمل مسؤولية قرار خطير لم يعرف به إلا قبل إعلانه بوقت قصير” ما الذي دار من مناقشات حول هذا الموضوع باجتماع مجلس الوزراء الذى تم فى منزل صغير على شاطئ جليم بالإسكندرية؟ يتساءل فهمي. […]
[…] وإضافة إلى الكلمات المأثورة التي أطلقها عبد الناصر على مسامع أعضاء مجلس الوزراء قبل ساعتين من إلقاء خطاب التأميم حين قال “لست أريد لأحد منكم أن يتحمل مسؤولية قرار خطير لم يعرف به إلا قبل إعلانه بوقت قصير” ما الذي دار من مناقشات حول هذا الموضوع باجتماع مجلس الوزراء الذى تم فى منزل صغير على شاطئ جليم بالإسكندرية؟ يتساءل فهمي. […]
[…] وإضافة إلى الكلمات المأثورة التي أطلقها عبد الناصر على مسامع أعضاء مجلس الوزراء قبل ساعتين من إلقاء خطاب التأميم حين قال “لست أريد لأحد منكم أن يتحمل مسؤولية قرار خطير لم يعرف به إلا قبل إعلانه بوقت قصير” ما الذي دار من مناقشات حول هذا الموضوع باجتماع مجلس الوزراء الذى تم فى منزل صغير على شاطئ جليم بالإسكندرية؟ يتساءل فهمي. […]
[…] وإضافة إلى الكلمات المأثورة التي أطلقها عبد الناصر على مسامع أعضاء مجلس الوزراء قبل ساعتين من إلقاء خطاب التأميم حين قال “لست أريد لأحد منكم أن يتحمل مسؤولية قرار خطير لم يعرف به إلا قبل إعلانه بوقت قصير” ما الذي دار من مناقشات حول هذا الموضوع باجتماع مجلس الوزراء الذي تم في منزل صغير على شاطئ جليم بالإسكندرية؟ يتساءل فهمي. […]