Press "Enter" to skip to content

عن اليهود المصريين

نُشر في فيسبوك في ٢٩ ديسمبر ٢٠١٢

بمناسبة الـ”مساخر” المنتشرة عن موضوع اليهود المصريين (والتعبير للصديق شريف يونس) والتي جاءت ردا على دعوة عصام العريان لليهود المصريين للعودة لمصر، تلقيت رسائل عديدة من أصدقاء يودون معرفة المزيد عن هذا الموضوع.

وردا على هذه الرسائل أقول إن أفضل من كتب عن هذا الموضوع هو جويل بينين في كتابه شتات اليهود المصريين: الجوانب الثقافية 
والسياسية لتكوين شتات حديث الصادر عن دار الشروق عام 2007.

هذا كتاب مهم جدا ولكنه لم ينل حظه من الاهتمام الكافي (باستثناءات قليلة منها عرض رائع كتبه سيد محمود بعد صدور الكتاب بأشهر قليلة ولكني للأسف لا أتذكر أين نشره).

وقد كان لي شرف كتابة تقديم لهذا الكتاب القيم أعيد نشر جزء منه هنا.

تقديم

لعل العتبة هي الموت
امتد طريقٌ أمامه: الطريق نفسه على الدوام
أحس أنه لم يغادره قط
ألم يكن مقيماً في أى مكان حتى الآن، حقاً؟
كان قد كفّ عن أن يسأل نفسه كيف استطاع أن يسير طول ذلك الوقت
كان يحس بغموض، أن العتبة في متناول يده، وأن الأفق الذي كان يحتمي وراءه، لم يكن – حيث الخواء يدمّر الخواء – إلا صفحة من الأبدية يجب أن تطوى
صفحة من الكتابة تماثل الفجر – يومٌ كاملٌ يعاش – بمجرد أن يظهر، يدير ظهره للفجر
مثل الليل، كذلك، إذ يدير ظهره للظل، يتبع الليل ما زال.

jobes
Edmond Jabès, 1912-1991

صاحب هذا الشعر الحزين هو إدمون جابيس أحد اليهود المصريين الذى ترك مصر بعد عام ١٩٥٦ ليستقر فى فرنسا والذى لم يستطع، شأنه شأن الكثيرين من اليهود المصريين، أن ينسى حياته فى وطنه الأصلي والسنوات التي عاشها هناك قبل غربته القسرية. وكما يقول إدوار الخراط فى عرضه السريع والبليغ لأشعار جابيس إن “صفة مصري يهودي [تبدو] كأنما هي نابية عن الأسماع، أو منافية – بشكل غير واضح – لروح الوطنية، أو كأنما هى نوع من أنواع التطبيع المرذول والمرفوض.. ولا علاقة من أي نوع بين الأمرين: إن “اليهودي المصري” حقيقة وطنية لا شك فيها، مهما غطت عليها شعارات مجلجلة كثيرة هي في الغالب مجرد طنين أجوف”. (إدوار الخراط، “مصريون قلباً .. فرانكفونيون قالباً: شهادة شخصية” مجلة ألِف، 2000، ص 8- 28.)

وينطلق الكتاب الذي بين أيدينا من هذه “الحقيقة الوطنية” الذي يؤكد عليها الخراط، بل هو يبدأ من نقطة أكثر بداهة وهي أن “اليهودي المصري” حقيقة تاريخية وليس فقط وطنية. وفى مقابل الحقيقة التاريخية الأخرى التى تؤكد أن هذه “القبيلة” انقرضت أو هي فى طريقها للانقراض (والتعبير، مرة أخرى، للخراط) يُطرح السؤال المحوري الذي يشكل موضوع هذا الكتاب: كيف تحولت الحقيقة التاريخية الأولى إلى الحقيقة التاريخية الثانية؟ وبعبارة أخرى، ما الذي أدى إلى زوال الوجود اليهودي المصري واندثاره؟

ويفند جويل بينين في هذا الكتاب الادعاءات الصهيونية القائلة بأن اليهود المصريين هرولوا إلى إسرائيل في أول فرصة سنحت لهم وأنهم كانوا يتوقون دوماً لإنهاء حالة “الشتات” التي كانوا يعانون منها في مصر. كما ينفي أن تكون المضايقات التي تعرض لها اليهود المصريون نتاج سياسات لاسامية انتهجتها الحكومة المصرية تجاههم بل يؤكد على أن تلك السياسات كانت تتأثر بمجريات الصراع العربي الإسرائيلي وتتطوره. وهو يتتبع هؤلاء اليهود المصريين بعد نزوحهم من مصر ليكتشف أن الكثير منهم فضل عدم الإقامة في إسرائيل واختار العيش في بلدان أخرى بل أن أكثرهم ما زال يحن إلى الفترة التي أمضاها في مصر.

***

والكتاب الذي بين أيدينا خير مثال على قدرات جويل بينين البحثية وشجاعته الأدبية والتزامه السياسي. فالكتاب يتطرق لموضوع حساس ودقيق ألا وهو تاريخ اليهود المصريين في فترة هامة ومحورية وهي الفترة التي تفصل الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عن الثانية، أي 1948-1956، وتلك الفترة شهدت اندثار الوجود اليهودي المصري واختفاءه تماما. وفي تعرضه لهذا الموضوع الشائك يدرك جويل بينين تعقد الأمور وحجم المسائل التى يتناولها، فدراسة هذا الموضوع المتشعب يستلزم الوقوف على تفاصيل التاريخ المصري في تلك الفترة الحساسة ليس فقط من جانبه السياسي ولكن من جوانبه الاجتماعية والإقتصادية والفكرية الأخرى، كما يستلزم معرفة دقيقة بتاريخ إسرائيل والصهيونية، وبتاريخ التنظيمات الشيوعية المختلفة التي كان لليهود المصريين دور كبير فيها، وبتاريخ الشركات والمؤسسات الإقتصادية العديدة التى اشترك اليهود المصريون في ملكيتها أو إدارتها. وقد قام جويل بينين بذلك كله وبالكثير غيره، وقد مكنته مهاراته اللغوية من التعرض لتفاصيل قل أن تعرض لها كثير ممن تناول هذا الموضوع بالبحث والدراسة. وإضافة إلى مهاراته اللغوية تتضح قدرات جويل بينين كمؤرخ في تعدد المناهج التى يستخدمها في دراسته للمواضيع المختلفة التي يتناولها في كتابه، فمن مقابلات شخصية بالعربية والفرنسية مع يهود مصريين في القاهرة أو في باريس أو سان فرانسيسكو، إلى تحليل دقيق لتطور الخطاب الإسرائيلي الصهيوني عن عملية سوزانا (فضيحة لافون)، إلى دراسة صارمة معتمدة على مادة أولية ومعلمومات ثانوية عن شركة السكر المصرية ودور رأس المال اليهودي فيها، إلى تحليل أدبي لروايات وأحاديث سردها يهود مصريون في الشتات عن ذكرياتهم في مصر، وغير ذلك الكثير والكثير. ويكفي القول أن واحدا فقط من تلك المواضيع المتعددة من الممكن أن يشكل كتابا مستقلا بذاته ولكن وقوف جويل بينين على تفاصيل موضوعاته وإمساكه بخيوطها المتعددة وتمكنه من مادته – كل ذلك مكنه من إخراج كتاب متماسك مترابط.

وبالرغم من أهمية هذه النقاط المنهجية إلا أن القيمة الأساسية لهذا الكتاب تكمن فيما أعتقد أنه فكرته المحورية ألا وهي اشتراك كل من الفكر الصهيوني والخطاب القومي في مصر في قمع اليهود المصريين وإنكار وجودهم، وقد يكون من المفيد استعراض أهم الحجج والإقاويل المتعلقة باليهود المصريين التي تسوقها الصهيونية وتلك التي يسوقها الخطاب القومي في مصر، وهي الحجج والأقاويل التي يتحداها هذا الكتاب وينقضها.

كما هو معلوم تقوم الصهيونية على افتراض أن اليهود يشكلون شعبا موحدا وإن تعددت لغاتهم ومواطنهم. وتضيف الصهيونية إن اليهود كغيرهم من الشعوب يستحقون أن تكون لهم دولة تجمعهم وتقوم على حمايتهم. و على مدار تاريخها الممتد لأكثر من مائة عام نجحت الحركة الصهيونية في إقناع كثير من يهود العالم (وليس كلهم) بصحة أقوالها، كما قطعت شوطا طويلا فى إنشاء تلك الدولة المنشودة وتجميع نسبة كبيرة من يهود العالم (وليس كلهم) بها. وكما هو غني عن البيان فإن هذه الدولة أسست على حساب شعب آخر كان يعيش على نفس البقعة التى اختارتها الصهيونية لإنشاء دولتها وقامت بطرد أغلبية هذا الشعب وتشريده وسلب أرضه ووطنه. كل هذا معروف وواضح، كما هو معروف وواضح نضال الشعب الفلسطيني وكفاحه منذ ظهور الصهيونية ثم منذ إنشاء إسرائيل ومحاولاته المستميتة في التمسك بأرضه وحقوقه.

على أن للصهيونية شقاً آخر مرتبطا بطبعه بالمشروع الاستيطاني وبسياسات إسرائيل اللاحقة تجاه الفلسطينيين، شقاً يتعلق بتاريخ اليهود على مدار العصور، وهو شق لا نعرف عنه الكثير، ولكنه أساسي لفهم محاولات جويل بينين في هذا الكتاب لنقض الفكرة الصهيونية. فالقول بأن الشعب اليهودي يجب أن يجمع في دولة واحدة انطوى في الحقيقة على إغفال وجود اليهود في أوطانهم والاستهتار بالحياة اليهودية فيما أطلقت عليه الصهيونية لفظ “الشتات”، وهي الحالة التي رأت الصهيونية أن اليهود، كل اليهود، عانوا منها منذ تحطيم المعبد والخروج من أرض إسرائيل قبل ألفي عام. ومعنى هذا ببساطة أن ألفي سنة من تاريخ اليهود أسقطت على أساس أنها “استثناء” أو “حدث عارض” في تاريخهم الذي ترى الصهيونية أنه بدأ بتواجدهم على أرض الميعاد والذي يجب أن يستمر وهم على نفس تلك الأرض.

والقول إن الصهيونية تنكر الوجود اليهودي في “الشتات” ليس معناه أنها لا تعترف بأنه كان هناك يهود بالفعل، فالصهيونية تقوم بالأساس على محاولة لم شمل هؤلاء اليهود و”إعادتهم” إلى “أرض إسرائيل”. ولكن المقصود أن الصهيونية نظرت إلى هذا التواجد اليهودي خارج “أرض إسرائيل” على أنه تواجد شاذ، وغير أصيل، وعرضي، تماما كما نظرت الصهيونية للتواجد الفلسطيني على “أرض إسرائيل”، فقد ذهبت الصهيونية إلى القول أن هؤلاء الفلسطينيين موجودون بالفعل ولكن وجودهم ليس أصيلا إذ أنهم لا يتصلون بتلك الأرض بنفس الاتصال الحميم والأصيل الذي يربط اليهودي بـ”أرض إسرائيل”، الأمر الذي يسوغ للصهيونية القول بجواز ترحيل هؤلاء القابعين على “أرضنا”.

وبالرغم من اختلاف الأهداف إن لم يكن تعارضها يشترك الخطاب الصهيوني مع الخطاب القومي في مصر، وبشكل ملفت للنظر، في الكثير من النقاط المتعلقة باليهود المصريين. فالخطاب القومي أيضا ينكر الوجود اليهودي المصري ليس بمعنى إنكاره للوجود الفعلي لبعض اليهود في مصر وإنما بالتأكيد على أن هؤلاء اليهود المصريين لم يكونوا أبدا مصريين خلصاء في أي وقت من الأوقات بالرغم من الاعتراف بأن الكثير منهم استوطن مصر لسنوات وعقود طويلة. فمنذ المد القومي المصري والعربي في منتصف الخمسينات واليهود المصريين يُنظر لهم على أنهم دخلاء وافدين ولانتمائهم لمصر وولائهم لها على أنه ولاء وانتماء محل ريبة.

ويشترك كلا الخطابان أيضا في التأكيد على محورية حرب 1948 في تاريخ اليهود المصريين، إذ نظرت الصهيونية للتواجد اليهودي خارج “أرض إسرائيل” على أنه خارج التاريخ الحقيقي اليهودي والذي يجب أن يستمر ويزدهر على “أرض إسرائيل”. وبالتالي وبخصوص اليهود المصريين تذهب الصهونية إلى أن هؤلاء الأشخاص كانوا يعيشون فى “الشتات” مثلهم مثل غيرهم من اليهود في أوربا أو في أقاليم الدولة العثمانية أو في المغرب أو اليمن. وما أن أقيمت دولة إسرائيل وأعلنت انتهاء حالة “الشتات” التى امتدت طويلا حتى هرع اليهود من كل حدب وصوب لكي ينعموا بالعيش فيها. وفي مواجهة الحقيقة التاريخية التي تؤكد أن الكثير من اليهود المصريين، شأنهم شأن غيرهم من يهود العالم، لم يهرولوا إلى إسرائيل، تقول الصهيونية إن هؤلاء اليهود كانت تعتريهم حالة من الوعي الزائف ظنوا به أن هويتهم المصرية هوية أصيلة سابقة على عقيدتهم الدينية التي تحتم عليهم “العودة” إلى إسرائيل. ولمساعدتهم على التخلص من رواسب ذلك الوعي الزائف قامت مجموعات من الصهاينة بأعمال بطولية ساعدت هؤلاء “المتقاعسين” “المشوشين” على اللحاق بذويهم والانضمام إلى سائر الشعب اليهودي والانضواء تحت العلم الإسرائيلي.

وبالمثل يؤكد الخطاب القومي في مصر إنه ما أن وقعت حرب 1948 حتى أصبح هم النزوح من مصر هما أساسيا لكل اليهود المصريين وأصبح الحديث عن كيفية الخروح من مصر حديثا أساسيا لكل أفراد تلك الجالية “المحاصرة”. ويذهب الخطاب القومي إلى القول إن هؤلاء اليهود لم يكونوا مصريين قط، وإنهم ما أن واتتهم الفرصة حتى خلعوا عن أنفسهم رداءهم المصري الغريب ولبسوا الرداء الإسرائيلي التي كانت تتوق إليه أنفسهم. ويضيف الخطاب القومي إن اليهود المصريين تمتعوا بالكثير من المزايا أثناء إقامتهم في مصر نافية أنهم تعرضوا لأي انتهاكات لحقوقهم أو مضايقات قد تكون دفعتهم إلى الرحيل عن مصر، وبالتالي فإن الخطاب القومي يرى في نزوح اليهود المصريين دليلاً آخر على عدم انتمائم لمصر بل أيضاً على خيانتهم ونكرانهم للجميل.

أما بخصوص المضايقات والمشاكل التي تعرض لها اليهود المصريون بعد قيام الثورة فيبرز اختلاف بين كلا الخطابين في توصيفها لتلك المشاكل والمضايقات، فمن ناحيتها تؤكد الرؤية الصهيونية أن تلك المشاكل كانت مثالا آخر لما تعرض له اليهود على أيدي النازي وتعقد المقارنة بين أهوال الهولوكوست ومعاناة اليهود المصريين في مصر خاصة بعد اندلاع ثورة يوليو وتولي عبد الناصر مقاليد الأمور بعد عام 1953 وتكثر في هذا الخطاب الصهيوني التشبيهات بين عبد الناصر وهتلر وتتوالى المقارنات بين معانة اليهود المصريين ومعاناة يهود أوربا.

أما الخطاب القومي العربي كما ظهر في مصر فإنه يبرر تلك المضايقات انطلاقا من كون اليهود المصريين دخلاء مشكوك في ولائهم وانتمائهم لمصر. ويبرز هنا موضوع رأس المال اليهوديي المصري واتهامه بالتواطؤ مع الاستعمار في السيطرة على الاقتصاد القومي بل يذهب بعض الباحثين إلى الادعاء دون تقديم أدلة كافية بأن “معظم اليهود [المصريين] الذين وجدوا في مصر كل رعاية قد أيدوا الصهيونية،” (سهام نصار، اليهود المصريون بين المصرية والصهيونية (القاهرة: دار العربي للنشر، 1981)، ص 8.) وبأن “أغلب المكاسب والأموال [التي حققها اليهود المصريون في مصر] هُربت خارج مصر بأساليب ملتوية ليساهم أغلبها في النهاية في بناء دولة إسرائيل لتضر بذلك بالإقتصاد الوطني من ناحية وأمن مصر وسلامتها من ناحية أخرى.” (عبد الحميد سيد أحمد، الحية الإقتصادية والاجتماعية لليهود في مصر، 1947-1956 (القاهرة: مدبولي، 1991)، ص 11.)

في مقابل تلك الاتهامات والادعاءات يقدم جويل بينين الدليل وراء الدليل والحجة تلو الحجة لرسم صورة أكثر صدقا وأقرب للحقيقة التاريخية عن اليهود المصريين. فهو يؤكد في أكثر من موضع وبأكثر من شكل أنه وبرغم نجاح الصهونية فى إحراز بعض الاختراق في صفوف اليهود المصريين إلا أن أغلب اليهود المصريين لم يكونوا صهاينة. كما يؤكد على أن حرب 1948 لم تكن الحدث الفصل الذي أثر على التواجد اليهودي المصري إذ أن وتيرة النزوح من مصر زادت في أعقاب حرب 1956 عن مثيلتها في أعقاب حرب 1948، وهو بالتالي يبرهن على أن الأقاويل الصهيونية لم تكن تجذب أغلب اليهود المصريين الذين كانوا ما زالوا يأملون أن تعود المياه لمجاريها وأن يعودوا للنعيم بحياتهم فيما كانوا يؤمنون أنه وطنهم الحقيقي والوحيد حتى وإن افتقد الغالبية العظمى منهم لأوراق هوية مصرية. كما يقدم جويل بينين الأدلة الدامغة على أن أغلب اليهود المصريين الذين رحلوا عن مصر بعد عام 1948 لم يذهبوا إلى إسرائيل كما تفترض الصهيونية وكما يعتقد الكثير من الباحثين المصريين، بل أخذتهم منافيهم إلى أصقاع وبلدان أخرى. ويظهر جويل بينين محاولات اليهود المصريين الذين ذهبوا بالفعل إلى إسرائيل واستقر بهم المقام هناك وغيرهم في منافيهم المختلفة في أوربا أو الولايات المتحدة للإبقاء على صلات تجمعهم بمصر، وطنهم السابق، وهو الأمر الذي لا تقبله الصهيونية ولا تعترف به، إذ كيف يحن الإسرائيلي لحياته في “الشتات”؟ وهو أيضا الأمر الذي لا يستسيغه الخطاب القومي المصري، إذ كيف لليهودي الذي كان دوما يشتاق لإسرائيل وإن أظهر غير ذلك والذي لم ينتم قط لمصر انتماء حقيقيا أن يحن لمصريته ويتباكى عليها بعد استقراره قي موطنه الحقيقي إسرائيل؟

وفي مقابل تأكيد كل من الصهيونية والخطاب القومي في مصر على أهمية حرب 1948 فى إنهاء الوجود اليهودي في مصر يبرهن جويل بينين على أن السياسات التي انتهجتها الحكومة المصرية بعد قيام الثورة وخاصة بعد اكتشاف فضيحة لافون في يوليو 1954 كان لها تأثير أكبر على قرار الكثير من اليهود المصريين للنزوح عن مصر، فيقول إن المضايقات التي تعرض لها اليهود المصريين من اعتقالات ومصادرات وتأميم هي التي دفعتهم إلى اليقين بأن أيامهم في مصر أمست معدودة وأن عليهم التخلي عن أحلامهم باستدامة حياتهم في مصر. على أن جويل بينين وهو يؤكد على أهمية هذه السياسات المعادية لليهود المصريين ينفي عنها في نفس الوقت أن تكون نسخة أخرى من السياسات النازية ضد يهود أوربا، فهو ينتقد بشدة المزاعم الصهيونية التي ذهبت إلى أن حكومة الثورة استقدمت خبراء نازيين للعمل في مصر، كما يميز بين معاداة السامية التي أملت على النازيين سياساتهم وبينن المحاذير والمخاوف الأمنية المرتبطة بالصراع العربي-الإسرائيلي التي شكلت (عن حق أو غير حق) سياسات الثورة تجاه اليهود المصريين. ولكنه وبالرغم من نفيه أن تكون سياسات الثورة قد أملاها توجه لاسامي لدى قياداتها، فهو في نفس الوقت يحمل تلك القيادات مسئولية نزوح أكثر اليهود المصريين وتجريدهم من جنسيتهم وأملاكهم. وفي مقابل الادعاءات القومية بعدم ولاء رأس المال اليهودي المصري لمصر وتواطؤه مع الصهيونية والاستعمار يحث جويل بينين قارئيه على التمييز بين رأسماليين يهود من أمثال سير إرنست كاسل الذي شارك أخا اللورد كرومر في بعض الأعمال في مصر والذي كان غير عابئ بأحوال مصر إذ لم يستقر به الحال فيها، وبين أصحاب الأعمال من اليهود المصريين من أمثال يوسف أصلان قطاوي ويوسف شيكوريل الذين كانا من أعضاء مجلس إدارة بنك مصر والذين لم يشك طلعت حرب لحظة في مصريتهما ووطنيتهما.

إن العنوان الفرعي لكتاب جويل بينين، ذلك العنوان الذي يقول إن خروج اليهود المصريين من مصر هو الذي أدى بهم إلى الشتات عاكسا بذلك الادعاءات الصهيونية لهو من أخطر وأهم ما وُجّه للصهيونية من انتقادات، إذ أن من شأن هذه الفكرة أن تقوض النظرية الصهيونية برمتها وأن تدحض إدعاءها بأنها نهاية التاريخ اليهودي واستكماله. فالنتيجة المنطقية لآراء جويل بينين عن اليهود المصريين هي القول إن الصهيونية هي انقلاب على القيم اليهودية الحقيقية وتحطيم للحياة اليهودية التقليدية وليس تحقيقها وازدهارها كما تدعي الصهيونية لنفسها. على أن نفس هذا العنوان الفرعي “تكوين شتات حديث” يوجه للقومية العربية هي الأخرى اتهامات خطيرة، فعن طريق تخيلها لأمة واحدة، متماسكة، أزلية، ذات رسالة خالدة وعن طريق التشكيك في ولاء أقلية من أقلياتها في انتمائها لهذه الأمة أنكر الخطاب القومي حق تلك الأقلية في التواجد في مصر وساهم في الضغط عليهم لكي ترحل عنها للأبد.

تلك بالطبع أفكار جديدة بقدر ما هي جريئة، وكان من جدتها وجرأتها أن تعرضت لهجوم عنيف من قبل الكتاب الصهاينة عندما نشر هذا الكتاب بالإنجليزية عام 1998. على أنني يحدوني الأمل وأنا أضع هذا الكتاب وأفكاره الجريئة بين يدي القارئ العربي أن تطرح هذه الأفكار على مائدة البحث وأن تنال ما تستحقه من المناقشة الهادئة والجدال العلمي الرصين. كما أشارك جويل بينين أمله أن “توحي هذه الدراسة عن الهوية اليهودية، والتي تم تهميشها فى كلا الخطابين القومي الصهيوني والمصري، ببدائل للمستقبل”. واترك آخر كلمة في هذا التقديم الوجيز للشاعر المصري اليهودي مراد فرج (1867-1955) الذي قال في قصيدة له ردا على من شكك في انتمائه لوطنه الذي به ولد والذي به سيموت:

وطني مصر فهي مسقطُ رأسي وبها نشأت وفيها ربيتُ
وهي أستاذتي وموردُ رزقي ومقري أصحو بها وأبيتُ
ليس لي غيرها ملاذاً فيحبَى شكرُها قدرَ ما بها قد حبيتُ
فلتعيش حرةً ولو أنني من فرطِ حب استقلالها سُبيتُ

خالد فهمي
القاهرة
أكتوبر 2006

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.